التحضير للانقلاب أو للتمرد أو لمحاولة فصل الساحل السوري، بدأ مبكرًا جدًّا، وتحديدًا في الأيام التي كان يصطف فيها عناصر الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري من النصيرية في محافظتي طرطوس واللاذقية في طوابير طويلة طلبًا للصفُّح وتصحيح أوضاعهم والحصول على بطاقات تث
في التراث السُّنّي، تُدمَغ الطائفتان النُّصيرية والدرزية، بانتسابهما إلى
«الفِرَق
الباطنية»،
وهو ما يعني أن كلتيهما تؤمن بأن عليها إخفاء عقائدها؛ سواء تطلَّب الأمر ذلك أم
لا.
ويبدو أن ما سرى على العقائد، انسحب على السياسة؛ فلم يعد بمقدور المتابع أن يفهم
أو يُفسِّر المواقف السياسية للطائفتين، لا سيما بعد أن تغيَّرت الأمور كثيرًا في
سوريا بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد، وعمَّت أجواء تفاؤل واحتفالات، تبعتها إجراءات
متسامحة مع فلول النظام، وصلت حدّ التغاضي -في كثير من الأحيان- عن تورُّط الآلاف
منهم في مجازر بحق الكتلة الأبرز في سوريا، والتي تبلغ أكثر من 88% من سكانها،
مُرحِّبةً بمشاركة جميع السوريين بلا استثناء وبدون تمييز في بناء سوريا الجديدة.
الساحل السوري
الحالة
«الباطنية»
التي استحكمت في نفوس فلول النظام السوري، ومنعتهم من الإفادة من سياسة
«اذهبوا
فأنتم الطلقاء»
التي انتهجتها دمشق الحرة للتعامل مع الكثرة الغالبة من جيش وقوى أمن نظام بشار،
مستثنية قلة من رؤوس الإجرام المعروفين بارتكابهم للمجازر الرهيبة بحق السوريين؛ هي
التفسير الأوحد لانتقال أعداد كبيرة من الذين أفادوا من العفو، واستخرجوا بطاقات
تُثبت تسامح السلطة الجديدة معهم، وتُؤهّلهم لحياة نظيفة خالية من إجرامٍ اعتادوه،
من خانة
«الطلقاء»
إلى خانة
«المتمردين
المجرمين الخائنين»
التي ارتضوا لأنفسهم أن يكونوها بعد تمرُّدهم الأخير في الأسبوع الأول من شهر رمضان
المبارك.
انخرط كثير من أبناء الطائفة النصيرية (العلوية) في هذا التمرد -الذي وصفه المحللون
والإعلاميون القريبون من الرئاسة السورية، وكثير غيرهم، بأنه
«محاولة
انقلاب»-،
سواء من العسكريين والأمنيين السابقين، أو من الشبيحة، أو من
«المدنيين»
الذين سهَّلوا عمل التمرُّد، ورفضوا الإدلاء بأيّ معلومات عن الفارّين من
المتمردين.
بينما حرص
«وجهاء»
الطائفة على النأي بأنفسهم عن التمرد، وهو موقف اعتادوا عليه حينما يضيق الخناق على
فلول النظام البائد. وقائد التمرد، العميد غياث دلا، سفاح الفرقة الرابعة، يُغطّي
محاولته الانقلابية بالسعي لإقامة دولة ديمقراطية! ولجان النصيرية
«تُبشِّر»
بدولة مدنية! ولا غرابة في ذلك؛ ما دامت السياسة كلها
«باطنية».
التحضير للانقلاب أو للتمرد أو لمحاولة فصل الساحل السوري، بدأ مبكرًا جدًّا،
وتحديدًا في الأيام التي كان يصطف فيها عناصر الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري من
النصيرية في محافظتي طرطوس واللاذقية في طوابير طويلة طلبًا للصفُّح وتصحيح أوضاعهم
والحصول على بطاقات تثبت
«توبتهم».
في تلك الأثناء كان مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، يُطلِق تهديده بأن
«سوريا
ستُسترد على يد الشباب السوري».
ثم تسارعت وتيرة التحضير مع إدراك المُنفِّذين بأن إعلانًا دستوريًّا على وشك
الصدور، مع تشكيل حكومة انتقالية جديدة، وهذا من شأنه تثبيت أركان حكم الرئيس
السوري
«أحمد
الشرع»
تمامًا؛ فهرع المُخطِّطون بطهران وبيروت لوضع لمسات أخيرة للتمرد، وعلى هامش جنازة
زعيم
«حزب
الله»
الراحل حسن نصر الله، كان المتآمرون يستعدون للحظة تفجير الساحل وشمال شرق سوريا
(مناطق سيطرة قسد، وتحديدًا شبيبة حزب العمال الكردستاني الشيوعية).
تشهد صفحات التمرد على وسائل التواصل أن الأسبوع الأخير من شهر فبراير قد شهد خطوات
متسارعة للتحضير للفوضى. إيران كانت المُحرِّك الأبرز، و«إسرائيل»
لم تكن غائبة، خصوصًا أن المُوالين لها في السويداء تحرَّكوا بالتزامن مع التمرُّد
الذي تفجَّر في الساحل بعد يومين اثنين من الإعلان عن تشكيل
«المجلس
العلوي الأعلى»
وأذرع عسكرية ممثلة في
«جبهة
المقاومة الإسلامية في سوريا-أُولي البأس»،
وهو فصيل أُعلن عن تأسيسه في 4 مارس مِن قِبَل وكالة
«مهر»
الإيرانية، ويتخذ له شعارًا مشابهًا كثيرًا لشعار
«حزب
الله»
اللبناني.
«لواء
الساحل»،
«كتائب
المقداد 313»،
«كتائب
العباس 313»،
ثم
«المجلس
العسكري لتحرير سوريا»؛
والذي يُعدّ بمثابة مظلة جامعة واتحاد لتلك اللافتات العسكرية، بمجموعاته الثلاثة
الأخرى. كان ذلك كله تجسيدًا حيًّا لتصريحات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي
خامنئي، التي أطلقها في الأسبوع الأخير من شهر يناير الماضي، حين قال:
«الشاب
السوري ليس لديه ما يخسره (...)، يجب أن يقف بقوة وإرادة ضد أولئك الذين خطَّطوا
لهذه الفوضى، وأولئك الذين نفَّذوها».
متوقعًا أن تظهر في سوريا
«مجموعة
شريفة وقوية لهزيمة هؤلاء»؛
بحسب تعبيره.
«المجموعات
الشريفة!»
بدأت عملها للتوّ، بمُواكبة دعاية سوداء أخذت في التصاعد إلى أن بلغت ذروتها مع
مجازر الأسبوع الأول من مارس؛ حيث جُنِّدت لجان إلكترونية انطلقت من لبنان -بحسب ما
تتبعته منصة إيكاد الاستقصائية المتخصصة- لمؤازرة التمرد؛ أولًا بالنقد المتواصل
لسياسات السلطة السورية، وثانيًا بالترويج لمجموعات التمرُّد، وتضخيم أعدادها؛ بغرض
طمأنة المتمردين وكسب تأييد المزيد منهم، وثالثًا لإطلاق سيل من الشائعات حول
ارتكاب القوى العسكرية والأمنية السورية مذابح بحق المدنيين النصيريين.
بالتوازي مع ذلك، كان الإعلام الإيراني يقوم بالدور نفسه؛ حيث الاتهام المُعَلَّب
بإسقاط نظام بشار عبر تحالف
«إسرائيلي»
تركي، ثم تسويق دعاية خامنئي، ثم ترويج شائعات المذابح:
«تمامًا
مثلما قال خامنئي؛ فإن سوريا ستُسترَدّ على يد الشباب السوري من الاحتلال»؛
بحسب صحيفة
«همشهري»
المتطرفة المُقرَّبة من الحكومة.
«لا
بد من مقاومة المؤامرة الإسرائيلية-التركية في سوريا»؛
صحيفة
«سياست
روز»
المقربة من الحرس الثوري.
«لا
بد من الانتفاضة ضد إرهابيي الجولاني»؛
صحيفة
«كيهان»،
المقربة من خامنئي.
«نظام
الجولاني ارتكب مذابح بحق العلويين، وقام بحمام دم وسط صمت دولي وعربي؛ ما يُعدّ
تشجيعًا له على الاستمرار في هذه الأعمال... الجولاني كشف عن وجهه الداعشي»؛
صحيفة
«جمهوري
إسلامي».
«إبادة
الشيعة في الشام... 430 متظاهرًا تم قتلهم على يد قوات هيئة تحرير الشام»؛
صحيفة
«مردم
سالاري»
(الإصلاحية!).
هكذا، بالتسلسل ذاته الذي تقوم به الدعاية الصادرة من لبنان والساحل السوري،
وتوافقها لجان يسارية في العالم العربي؛ فوحدة الخطاب ووحدة الهدف تبرهنان على وحدة
المؤامرة الباطنية الشاملة.
السويداء
رغم أن ما حصل في الساحل السوري كان يبدو عملًا محدودًا بجغرافية المحافظتين، وبعض
الجيوب الصغيرة في العاصمة وحمص، إلا أنه في الخلفية ظهر تنسيق من فريق قد لا يمثل
الأكثرية في السويداء، لكنّ صوته كان عاليًا، ففي الوقت الذي تحرَّك فيه
«المجلس
العسكري لتحرير سوريا»،
وهو تشكيل نُصَيْري يقوده غياث دلا، والذي يتكون من 3 مجموعات هي:
«درع
الأسد»،
و«لواء
الجبل»،
و«درع
الساحل»؛
ليسيطر على نقاط مفصلية داخل المدن الكبرى ومراكز محافظتي اللاذقية وطرطوس غربي
سوريا، إضافةً لمدينة جبلة، ويُطْبِق حصارًا شبه كامل على مراكز الشرطة وقوات
الأمن؛ كان
«المجلس
العسكري للسويداء»،
يتحرك لإزالة العلم السوري من فوق مبنى محافظة السويداء، كلا المجلسين أنشئ في
الأسبوع الأخير من فبراير الماضي، وكلاهما تحرَّك في التمرد يوم 6 مارس، وكلا
المجلسين تدعمه
«إسرائيل»،
وكلاهما تؤيده لجان إلكترونية نشطت في هذا التوقيت.
والحق أنه لو كانت المساهمة في الانقلاب أو الفوضى أو الانقسام مقتصرة على هذه
«الأقلية»
داخل الحَيّز الدرزي لهَان الأمر، ولقيل: ما العيب في أن تضل فئة من طائفة، فيما
يبقى الأكثرية مع الوحدة الوطنية والحوار والتوافق؟ نعم، لو كان كذلك لهان، لكنّ
مكمن الخطورة في أن رؤوس الطائفة (شيوخ العقل الثلاثة) يمارسون سياسة يتعذَّر فهمها
إلا في سياق التأطير الباطني؛ فالصورة تبدو هكذا:
للدروز شيوخ عقل ثلاثة في سوريا، يتوارثون مناصبهم بالتوارث؛ حيث تنحصر القيادة
الدينية لهم في ثلاث عائلات: الهجري والحناوي والجربوع، وتلك الطبقية الدينية تطالب
بـ«دولة
مدنية ديمقراطية».
ورؤوسهم: حكمت الهجري، وحمود الحناوي، ويوسف الجربوع، يتفقون في الحد الأدنى على
ألَّا يدخل جندي غير درزي إلى السويداء، وكلهم يُطالبون بـ«المساواة»
و«المواطنة»
و«عدم
التمييز الديني».
وكلهم يعتبرون أن اختلافاتهم السياسية محدودة، ولا تخدش مكانة أحد منهم الدينية، مع
أن أحدهم -وهو الهجري-، يُنسِّق مع مُوفّق طريف، شيخ عقل دروز فلسطين، ومساعد
نتنياهو المطيع، وقد رتَّبَا معًا زيارة دينية درزية غادرة للكيان قام بها مئات من
الدروز مؤخرًا، بدعوى زيارة قبر النبي شعيب -عليه السلام-، كما نسَّقا اتفاقًا
مبدئيًّا مع سلطة الكيان الصهيوني لاستقدام العمالة الدرزية السورية في فلسطين
المحتلة رغمًا عن إرادة السلطة السورية، وتحديًا لقانونها المانع بشدة لمثل هذا
التعاون مع سلطة الاحتلال.
كما يمتنع الهجري عن سحب حمايته عن العقيد طارق الشوفي، رجل
«إسرائيل»
الأول في السويداء، وهو الذي يقود
«المجلس
العسكري للسويداء»،
الذي يتكون من مجموع من الضباط والجنود الدروز المنشقين مؤخرًا عن جيش بشار قبل
تفكُّكه.
هذا كله في الوقت التي يتخَّذ الزعيمان الآخران مواقف وطنية رافضة بشدة للاحتلال
الصهيوني وللتطبيع معه، مع إظهار الإجلال والاحترام لرجال
«إسرائيل»
في الجنوب السوري.
شيوخ العقل الثلاثة للطائفة الدرزية في سوريا، يرسلون كل يوم، إشارات بأنهم
«آباء»
الوحدة الوطنية تارة، راغبون بالانفصال تارة أخرى!! متحمسون للتعاون مع الرئيس
السوري
«أحمد
الشرع»،
ومع ذلك هم رافضون أن يحكم سوريا
«إرهابي
مطلوب للعدالة»
في الوقت نفسه! مُوالون لدمشق، ولتل أبيب أيضًا! فإذا ما سألهم إعلامي: ما رأيكم
فيما يقوله رفيقكم؟ قالوا: نحن مختلفون، لكننا شيء واحد... حالة زئبقية تشبه
الأقانيم الثلاثة عند النصارى الذين يقولون هم ثلاثة لكنهم إله واحد!
* * *
وقد لا يمكن تفسير كثير مما نجده من توجُّهات قادة الطائفتين؛ إلا في سياق النظر
إليهما كطائفتين لم تفترضا يومًا أنهما جزء من النسيج المحيط بهما، وشعرتا دومًا
بالاغتراب الذاتي عنه. وحتى لو مُدَّت لهما ألف يدٍ حانيةٍ؛ فإن اعتناق الباطنية
يُورِث شعورًا نفسيًّا يتعذَّر عليه التكيُّف مع المحيط وقبول الآخر
«المسلم»!
كيف ستتعامل السلطة السورية مع تناقضات كهذه، وباطنية كتلك، من طوائف اعتادت على
ممارستها؟ يقول أحدهم:
«لا
تخافوا على
«الشرع»؛
فقد تمكَّن من احتواء نحو 20 فصيلًا مسلحًا من فصائل الثورة السورية، أيعجز عن
احتواء هؤلاء وإجراء عملية فرز لمُحبّي التعايش من الأقليات، وفصل المتمرد عن غيره
منهم؟!»
ربما، لكنّ فصائل الثورة من أقصاها إلى أقصاها لم تكن
«باطنية»،
ولا تحمل في نفسها إرثًا تاريخيًّا عميقًا من الصراعات مع أهل السُّنة في سوريا...
ربما تمكَّن
«الشرع»
من أن يُمسك بالزئبق في قبضته!