والفارق الأبرز بين الحُكمين؛ هو أن الأول «أقلوي» لطائفة نُصَيْرية لا تتعدى 8% من تعداد السوريين بالداخل والخارج، فيما تبلغ نسبة الأقلية الشيعية الحاكمة في العراق ما بين 45-48% من العراقيين بالداخل والخارج. وهذا يمنح الحكم العراقي قوة لا يمتلكها الحكم السو
الذين يقولون: إن «الثورات مُعْدِيَة»؛ في قولهم بعض الوجاهة.
إذ لو كان ما نشهده في بلدان عربية في بعض الموجات «الثورية» محض فِعْل شعبيّ؛ فإن ما ينجح فيه شَعب، يَفتح شهية شَعْب مُجاوِر لمُحاكاته. أو لو كان ذلك فعلًا خارجيًّا؛ فإن ظروف تكراره قد تتكرر لدى بعض الجيران.
أما في الحالة السورية؛ فإن الناس قد انقسموا فيها على ثلاث رؤى؛ ففريق قال: إن بشار الأسد قد سقط نتيجة فِعْل عسكري مجرَّد، نَجَم عن حُسْن تخطيط، واختيار مُوفَّق للحظة إقليمية فارقة، مع الحصول على دعم عسكري تقني تركي، وربما سياسي عبر التوافق مع روسيا على عدم توفير غطاء جوي لنظام بشار وميلشيات إيران.
وفريق ثانٍ: لا يضع أيّ فضل لفصائل غرفة «ردع العدوان» (وأقوى فصائلها هي هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع)، وغرفة «فجر الحرية» (وأقوى فصائلها الجيش الوطني المُوالي لأنقرة)، بل يَعتبر أن بشار الأسد قد انتهى دَوره، وأنّ ما حصل هو نتاج توافق أمريكي/«إسرائيلي»/تركي، وموافقة روسية اضطرارية، وإذعان إيراني، (ولكلٍّ جائزتُه في الإطاحة ببشار).
وفريق ثالث: يجمع بين هذا وذاك، فلا نجاح لتوافق دولي ما لم تُعزِّزه قوة على الأرض، وقد كان النظام هشًّا، والفصائل قوية، والسند حاضرًا، والصمت الدولي حاصلاً؛ فكان التغيير.
حسنًا، فما الذي يُعْدِي في كلّ هذا لينتقل إلى العراق؟
في الحقيقة، هناك اختلافات جوهرية بين الحالتين السورية والعراقية؛ ففي الأولى ثمة حُكم «أقلوي» طائفي استبدادي وراثي، لا تداول للسلطة -ولو شكليًّا- فيه، وقد بلغ من الضعف حدًّا لم يَعُد يقوى على البقاء صامدًا في وجه الشعب الثائر ضدّه، وجُلّه من السواد الأعظم للمسلمين، وهو محسوبٌ على المعسكر الشرقي، رغم أن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «مادلين أولبرايت» هي التي وافقت قبل نحو ربع قرن على تولّي بشار الأسد السلطة، رغم عدم انطباق شروط الدستور السوري عليه. وحتى تسليحه هو تسليح روسي متهالك في معظمه.
أما الثانية فالدولة استمدَّت «شرعيتها» من إسقاط الاحتلال الأمريكي لنظام صدام حسين، وتُعتَبر مُنتَجًا ديمقراطيًّا شائهًا تبنَّته الولايات المتحدة، ورعت طائفته الحاكمة، وهو حُكم «أقلوي» طائفي أيضًا، لكن باختلافات جوهرية، أما تسليح قواته فأمريكيّ، ولم يَزل جيشه وقواته الأمنية في مستوى مقبول من القوة.
والفارق الأبرز بين الحُكمين؛ هو أن الأول «أقلوي» لطائفة نُصَيْرية لا تتعدى 8% من تعداد السوريين بالداخل والخارج، فيما تبلغ نسبة الأقلية الشيعية الحاكمة في العراق ما بين 45-48% من العراقيين بالداخل والخارج. وهذا يمنح الحكم العراقي قوة لا يمتلكها الحكم السوري.
هذا عدا عن أن النظام السوري قد أُنْهِكَ تمامًا في حرب ضروس أمام الفصائل السورية التي وجدت دعمًا خارجيًّا متنوعًا، وغطاء دوليًّا، بينما المقاومة العراقية لم تَكَد تحظى بأيّ دعم، وليس لها حاضنة خارجية كتركيا بالنسبة لسوريا، ولا أرضًا تتخذها قاعدة لها شِبْه آمِنَة كمناطق إدلب وريفها وبعض ريف حلب قبل اندلاع المعركة الأخيرة.
بَيْد أنّ ما تموج به التحليلات السياسية في العالَم، في كبريات المراكز البحثية، وفي وسائل إعلام عالمية لها ثِقَلها، ومِن قَبل ما صدر من تصريحات في عواصم دولية وإقليمية، عن احتمال تأثُّر العراق بما حصل في سوريا، وما طُرِحَ من تصوُّرات وآراء عن احتمال تغيير النظام في العراق داخليًّا أو خارجيًّا، استنادًا إلى تراجع النفوذ الإيراني وفقدان طهران أهمّ حليف لها في المنطقة، والذي رسَّخته لأقل من نصف قرن بقليل، ليس مجرد أَمَانٍ أو تخرُّصات، وإنما هو يستند إلى عددٍ من المعطيات ذات الأهمية والاعتبار.
من هذه المعطيات ما نقلته صحيفة الشرق الأوسط عن مصادر سياسية عراقية قولها: إن «الفصائل تمرّ بأيام صعبة فرضتها التحولات الكبيرة في الحرب الإسرائيلية، خصوصًا أنها خسرت مناطقها الإستراتيجية في سوريا وجميع حلفائها داخل (محور الممانعة) تقريبًا، وهناك حديث عن خسارتها كثيرًا من استثماراتها ومصالحها لدى دمشق. ومع نموذج «صمت الحملان» الذي تُمارسه الفصائل المسلحة ما يزال الحديث عن تغيير سياسي محتمل في العراق، يتردَّد داخل الأوساط السياسية والشعبية، وتميل معظم الترجيحات إلى أن تلك التغييرات ربما ستستهدف بالأساس مصير الفصائل المسلحة وعلاقتها المصيرية بالسياسات الإيرانية في المنطقة».
وكذلك ما تناقلته وسائل الإعلام اللبنانية والعراقية عن أن المرجع الشيعي الأبرز في العراقي، علي السيستاني، قد رفض إصدار فتوى لحل الحشد الشعبي (الشيعي)، وكذلك رفضه لقاء ممثل الأمم المتحدة في العراق، محمد الحسان، لتجنُّب الحديث حول هذا الموضوع.
فالذين سكتوا أو سهّلوا أو توافقوا على زحف «الثوار» إلى دمشق، من القوى الدولية والإقليمية، قد اعتبروا -في معظمهم- أن فصل رأس الأخطبوط الإيراني عن أطرافه يصُبّ في مصلحتهم، وربما مصلحة «إسرائيل»، وهذا إن طال «حزب الله» الذي خاض معركة مع «إسرائيل»، وانهزم فيها مؤخرًا؛ فإنه شمل عضوًا «ممانعًا» وديعًا ومستأنسًا لحدّ منع ميلشيات «حزب الله» من تأبين «حسن نصر الله»، أو حتى رفع صورته؛ نعني النظام السوري البائد بالتأكيد.
وإن كان نظام بشار الأسد قد قدَّم قرابين لـ«إسرائيل» أثناء عدوانها المزمن على غزة، وحربها الخاطفة في لبنان، وضرباتها الموجعة في كلٍّ من إيران واليمن، ومنَع تدفُّق السلاح والمقاتلين من سوريا إلى لبنان أو كاد؛ فإن أطرافًا في العراق لم تفعل، وهي ميلشيات الحشد الشعبي التي سَطَت على اسم «المقاومة العراقية»، ثم وجَّهت ضربات رمزية على فلسطين المحتلة؛ مدعيةً بها مساندة غزة في صدّها لعدوان «إسرائيل».
والواقع أن «إسرائيل» لم تتحرَّك في المنطقة بوازع الانتقام وحده، حتى في غزة نفسها، ولا الولايات المتحدة ساندتها لمجرد إعانتها على «الثأر» المزعوم، لكنّ كلتيهما تُنفِّذ سياسة جديدة في المنطقة، وهذه السياسة لا تجعل نفوذ إيران في الإقليم مثلما كان قبل «طوفان الأقصى»، كما أنها لا تلغي قدرة إيران تمامًا، ولا بعض أذرعتها.
وإذا كان من المبكّر الحديث عن سياستهما حيال لبنان واليمن، وما إذا كانتا تريدان تحويل «حزب الله» إلى حزب سياسي، يُحْدِث توازنًا ما بين القوى الرئيسة في لبنان، لا سيما بعد اندحار نظام بشار الأسد الطائفي، الموالي لإيران، أم تريدان تحقيق توازن من دون الإخلال بتفوق «حزب الله» على سائر القوى السُّنِّيَّة و«المسيحية» والدرزية في لبنان.
وكذلك، بالنسبة لليمن؛ فإن الحديث عن الإطاحة بنظام الحوثي باعتباره هدفًا أساسيًّا للإستراتيجية «الإسرائيلية» والأمريكية، ربما كان مجرد تكهُّن لا يستند إلى معطيات أكيدة؛ فحتى الآن يقتصر ردّ الفعل «الإسرائيلي» والأمريكي على الثأر العنيف، وتقليم أظافر الحوثيين.
وإذا كان من المبكّر معرفة كل هذا؛ فإن الحكم ينسحب أيضًا على النظام العراقي الذي رعته الولايات المتحدة منذ البداية، ولم تكن بعيدة تمامًا عن تشكيل حكومات الاحتلال التسع، وظلت حريصة منذ اليوم الأول بعد الإطاحة بنظام صدام حسين على تفوُّق المُكوِّن الشيعي، وتسليمه جميع مفاصل الدولة الرئيسة، كالجيش والاستخبارات وقوى الأمن بتنوعاتها، ورئاسة الحكومة، ثم سمحت بعد ذلك بتشكيل «الحشد الشعبي»، وغضَّت الطرف عن سياسة إيران في محاكاته لنظام «الحرس الثوري» الإيراني، الذي يتفوق في قدراته على الجيش الإيراني ذاته في التسليح والنفوذ والقدرة.
تغوُّل الميلشيات في العراق، جعل منها قوة عسكرية طائفية تمامًا، بخلاف الجيش الذي هيمنت الشيعة عليه، لكنه لا يخلو من قيادات وضُبّاط من السُّنة، وهذا مرَّ تحت سمع واشنطن وبصرها. فهل تنقلب تلك المعادلة؟!
إذا كان العراق يختلف عن سوريا، في ضخامة أقليته الشيعية العددية، وتسليح ميلشياته المتنوعة، وقربه من إيران، وحدوده المفتوحة معها، وإمكاناته الاقتصادية، وتوفّره على نظام تعدديّ ولو كان صوريًّا، والعديد من الاختلافات الجوهرية، والتي من بينها على الجانب الآخر ضعف المقاومة العراقية لأسباب تتعلق بالدعم والحاضنة والحصار... إلخ؛ إلا أن كل ذلك لا يمنع من حدوث انتفاضة سُنّية، إذا ما توافقت بعض القوى الإقليمية والدولية على دَعْمها.
ولقد لُمِس في بيانات بعض مُكوّنات القوى العسكرية الكامنة أو بقاياها، مثل كتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي في العراق، وجنود الطريقة النقشبندية، في بياناتها للتهنئة بـ«نجاح الثورة السورية»؛ أنَّ لدى هذه المجموعات طموحات لم تَمُتْ بعدُ في تغيير الواقع السُّنيّ البائس في العراق؛ إذا ما توفرت لها فرصة الظهور مجددًا، وخصوصًا أن تغوُّل الميلشيات أضعف القوى النظامية كثيرًا، بحالٍ يشبه قليلًا -وفي بعض الأوجه- اعتماد نظام بشار على الميلشيات الإيرانية برًّا، والروس جوًّا، أكثر من اعتماده على جيشه الهشّ في صدّ هجمات الفصائل السورية في بعض أحيان الصراع.
وخصوصًا أن الحاضنة السُّنيَّة العشائرية في الأنبار لا يمكن الاستهانة بها إذا حمي الوطيس، يقول د. محمد عياش الكبيسي، المفكّر العراقي وأحد مُؤسِّسي هيئة علماء المسلمين العراقية: «أذكر في هذا الصدد تقريرًا لمؤسسة راند نصحت فيه البنتاغون بأنه إذا أراد بسط هيمنته على المثلث السُّنيّ المقاوم في العراق فإنه يحتاج إلى 450000 عسكري على الأقل، وبالفعل فإن أمريكا لم تستطع أن تبسط هيمنتها على الإطلاق، وإنما انسحبت إلى (القواعد الآمنة)، تاركةً العراق بيد المليشيات الإيرانية، والتي تمتلك بالفعل موارد بشرية ضخمة أكبر بكثير من موارد الأمريكان».
وهذه الإمكانات لم تزل كبيرة، ولكنها أمست تعاني من عوامل معاكسة يزداد تأثيرها بسرعة، بحسب ما استقيته من مفكر عراقي، وهي تتمثل في «خيبة أمل الحاضنة الشيعية من النظام العراقي، وتفاقم الأوضاع المعيشية سنة بعد أخرى، حتى إن كثيرًا من الأوساط الشيعية غدت مُؤمنة بأن هذا البلد (العراق)، لن تنصلح أحواله إلا في ظل حكم عسكري سُنيّ، كمثل صدام حسين، وأن حُكم الشيعة للعراق هو ليس تجربة فاشلة امتدت لعقدين من الزمان، وأُتيحت لها الإمكانات طوال هذه المدة الطويلة ففشلت في استغلالها، فحسب، وإنما أيضًا هي مرحلة زمنية طارئة، لكن يُكتَب لها البقاء حتى يعود حكم العراق للسُّنة تقليديًّا، واتساقًا مع التاريخ وسطوته».
شرائح لا يُستهان بها من الحاضنة الشيعية أصابها الضجر من استمرار التبعية للنظام الإيراني (حتى كثرت عبارات «إيران بره بره» في تظاهرات العراقيين، وآخرها ما حصل في الموصل)، والانسحاب الملحوظ من بعض المدن السُّنية، خصوصًا الموصل، والتي أخلت فيها الميلشيات مقراتها، تحسبًا لأيّ هجوم أمريكي أو «إسرائيلي»، وخشية الميلشيات من تخلّي إيران عنها في أيّ صفقة تضمن لها تطويرًا للمشروع النووي في مقابل تخليها عن بعض أذرعتها، بالإضافة إلى ارتفاع الروح المعنوية لقطاعات من الشباب السُّني.
علاوة على ذلك؛ فإن هناك اعتقادًا بأنّ أيّ ضربة قوية ستُوجّه من الخارج للميلشيات ستحملها اضطرارًا على مغادرة المدن السُّنية، التي قد تشهد ظهورًا لقوى محلية، لا سيما في الأنبار، وشمال العراق، والشمال العراقي عمومًا، وقد بدأ الغضب يعتمل في نفوس أهل السُّنة في أعقاب ازدياد حماقات النظام الطائفي قبل أسابيع من سقوط نظام بشار الأسد؛ حيث تحاول الحكومة الإسراع بإعدام الآلاف من السُّنة، ثم تراجعت قليلًا بعد سقوط بشار، وارتفاع وتيرة الحديث عن «صيدناويات العراق»، مثل سجن الحوت (الناصرية المركزي)، وأشقائه. (رغم أن الغالبية السُّنية تتخوَّف من ظهور مقاومة ينجم عن وجودها تدمير المدن السُّنية مِن قِبَل الميلشيات مجددًا مثلما حصل في الموصل وغيرها).
وثمة ملاحظة مهمة، نقلتها مصادر في الداخل العراقي، تتمثل في محاولة الحكومة، بل حتى بعض قادة الميلشيات الشيعية، إرضاء أهالي المدن السُّنية، وترديد أقوال عن وحدة الصف، ومناهضة الطائفية، والمبادرة إلى محاولة إصلاح أحوال تلك المدن، وتطوير بنيتها التحتية، وتقديم خدمات ظلّ أهل السنة محرومين منها لسنوات؛ من أجل بناء جسور بين النظام الطائفي والأغلبية السُّنية في تلك المرحلة الدقيقة، بشكل مؤقت.
وهناك تخوُّفات لدى النظام العراقي وأدواته الإعلامية، أو بالأحرى «إبراز» تخوفات عن احتمال تحرُّر المحتجزين من أهالي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في معسكر الهول بالشمال السوري (يضم نحو 50 ألفًا من عائلات داعش وسوريين وعراقيين تشتبه بغداد في انتمائهم لداعش أو تشيع ذلك)، وكذلك السجون التي تحتجز فيها ميلشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عناصر تنتسب إلى داعش، ومِن ثَم اندفاعهم نحو العراق أو تركيا أو العمق السوري. وفي حال توجيه ضربات للميلشيات الشيعية؛ فقد يكون لهؤلاء دَوْر ما في ملء فراغ بالغرب العراقي (أو هكذا يشيع الساسة والإعلام الشيعيان في العراق).
وإذا كانت الحالة ضبابية نوعًا ما فيما يتعلق بـ«سوريا الجديدة»، وما إذا كان حُكمها سيستقر ويستمر بقيادته الحالية، والسياسة الخارجية التي سينتهجها، واحتمال دعمه لفصائل قد يُعاد إنتاجها في المعاقل السُّنية لا سيما المتاخمة لسوريا، وكذلك علاقة تركيا بذلك، ومدى تفاقم التوتر بينها وبين «إيران» في أعقاب اتهامات طهران المبطنة لأنقرة بدورها في طرد ميلشيات إيران من سوريا، وكذلك الحالة التي يمكن أن تنجم عنها سياسة سورية حازمة تجاه «قسد»، ثم العمليات العسكرية التي يمكن أن تشنّها أنقرة في كلٍّ من سوريا والعراق.
ومن جانب آخر، التحول الذي قد يطرأ على السياسة الإيرانية استجابةً لضغوط غربية، والانقسام المتزايد في الأوساط السياسية والشعبية الإيرانية نتيجة هذه الضغوط، نلحظ مثلًا ما كتبه «شريعتي دهقان» ممثل إيران السابق لدى منظمة التعاون الإسلامي في مقال رأي على الصفحة الأولى في صحيفة «هام ميهان» الإيرانية ردًّا مبطنًا على نائب الرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية، جواد ظريف، (الذي كان قد كتب قبل أسبوع فقط من سقوط بشار الأسد: إنها اللحظة العالمية المناسبة للاستقرار!)؛ بأن «هزيمة بشار الأسد كشفت عن إستراتيجية إيران المضللة والمبنية على أُسُس ضعيفة»، مطالبًا حكومة بلاده بـ«اتباع نهج جديد يعطي الأولوية لبناء التحالفات مع الدول بدلًا من دعم الجماعات المسلحة، وإعادة توجيه الأموال والموارد إلى الشعب الإيراني».
وهذا يُقرأ في الداخل الإيراني، مثلما تقرأه الميلشيات العراقية التي شاهدت عمليات قتل حسن نصر الله، وهاشم صفي الدين، وفؤاد شكر، وعمليات البيجر، وغيرها في لبنان؛ فلم تَستبعد غدرًا من الإيرانيين؛ إيثارًا لمصالح أمنهم القومي على بقاء أذرعهم بالخارج. وهذا الأمن القومي قد لا يتعلق بتضحيتهم بتلك الأذرع لبقاء البرنامج النووي، بل ربما لبقاء النظام نفسه، مثلما قال الكاتب الأمريكي «الديمقراطي» البارز «توماس فريدمان» مؤخرًا من أنه «سوف يتعين على قادة إيران أن يختاروا -بسرعة- بين المسارعة بالقنبلة النووية إنقاذًا لنظامهم الحاكم، أو التخلص من القنبلة في صفقة مع دونالد ترامب؛ إذا ما استبعد تغيير النظام من الخيارات المتاحة على الطاولة».
وقد يتفاجأ قادة ميلشيات العراق، ومنهم مَن أُشيع بالمناسبة أنه قد قُتِلَ أو أُصيب في غارة أمريكية، أن العراق نفسه بصدد التضحية بهم، فمستشار الأمن القومي العراقي، قد حرَّض قبل سقوط بشار على تحشيد الميلشيات العراقية لمقاتلة «ثوار سوريا» أثناء زحفهم بعد تحرير حلب، قائلًا: «لن تُسبَى زينب مرتين»، في إشارة إلى مقام «السيدة زينب» في دمشق، ثم عاد فأغلق باب التطوع للقتال في سوريا، بل زاد نظامه؛ فسلم 1900 من أفراد الفرقة الرابعة لنظام بشار إلى الإدارة الجديدة في سوريا! ثم بالغت أبواق نظامه؛ فوصفت بشار بالمجرم!
* * *
الحاصل، أن العراق يملك قوة أكبر كثيرًا مما كان لدى نظام بشار، ويمكنه الصمود في وجه مقاومة هي في وضع شديد الضعف، وربما في وضع السبات التنظيمي، إذا ما حفَّزتها ضربات خارجية لقادة الميلشيات ومفاصل قوتها، وهو لم يزل بعيدًا عن التغيير الفجائي، لكنّ جديد المعادلة أنّ سوريا تغيَّرت، وإيران انكمشت، و«إسرائيل» تغوَّلت جويًّا، وأمريكا غيَّرت بوصلتها الإستراتيجية قليلًا، وتركيا صارت أكثر جرأة على التغيير في محيطها، والداخل العراقي الاجتماعي والسياسي هشّ.
وهذا كله ربما يُمثِّل رافعة مهمة نحو التغيير؛ إذا ما توافرت الظروف الدولية، وتلك الظروف لم يَعُد بإمكان أحد قياس ردّات فِعْلها بعد زلزال سوريا المفاجئ، وبالتالي؛ فإن الاحتمالات باتت مفتوحة دون إمكانية استبعاد أحدها في الوقت الراهن.