• - الموافق2025/01/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الرسالية وحامل الرسالة  تأملات وخلاصات

فقانون الصبر سرى على جميع الرسل والأنبياء مقابل ما لقوا من تكذيب وجحود، وهو القانون الذي يسري على حَمَلة الرسالة مِن بَعْدهم حتى تصل إلى منتهاها. في الصبر والتؤدة معنى التحمُّل ومطاولة المصاعب والشدائد واستعمال الوقت لحلّها وتجاوزها. الصبر قوة، وهو من صف


الرسالة قضية عُظمَى تَرسم مَعالم حياة الأفراد وسعادتهم، نظام وقواعد سامية تُنظّم حياة البشر، حمَلها عَبْر التاريخ رسلٌ وأنبياء ومُصْلِحُون ودُعَاة ومُشْفِقُون على حال مجتمعاتهم من شتَّى المِلَل والنِّحل، وعملوا على تبليغها لغيرهم بشتَّى الطرق والوسائل، مُتودِّدين لهم بألوان من الأساليب والمناهج.

ولمَّا كان حمل الرسالة ثِقَلًا ما بعده ثِقَل، فقد شرفت الرسالة بما حوت، وشرف حاملوها عبر التاريخ، وخلد عطاؤهم فيها، وصار حديث الركبان جيلًا بعد جيلٍ، شرفٌ ما نالَه أولئك العظماء قفزًا، بل سرت عليهم سنن الله في كونه، فتحمَّلوا وصبروا، وطلبوا وفهموا، وامتُحِنُوا وبذلوا، وقدَّموا ما قدَّموا. 

ويبقي حَمْل الرسالة شرفًا ممتدًّا في التاريخ، يُعْرَض على الإنسان -مُطْلَق الإنسان- منذ ولادته إلى وفاته، أعرَض عنه مَن أعرض، وحمَله القليل؛ فثقلت بحمله الكواهل، وكلَّت به السواعد، واحترقت منه العقول، وسال مِدَاد كبير يعرض ويُقدّم ويُوجّه عطاء الرسالي حامل الرسالة؛ بغرض تقصيد فِعْله، وترشيد جهده.

وهذه مساهمة في هذا الإطار؛ مساهمة نُقدِّم من خلالها تأملات وخلاصات حول مسألة حَمْل الرسالة وتبليغها، مما يُفيد الدارس طالب الحق في الميدان، ويُجلي بعضًا من خلال أبطال التاريخ، أصحاب السواعد البيضاء على الإنسانية، ومما امتنَّ الله -عز وجل- به على هؤلاء ما يلي:

أولاً: الفهم الثاقب

 تقول معاجم اللغة: إن صاحب الفهم الثاقب له رأي نافذ عميق راجح، وإذا كان الفهم هو عبارة عن عملية إعطاء معنى للأشياء[1]؛ فإن حامل الرسالة يُدرك جيدًا أن الحكم على الأشياء فرعٌ عن تصوُّره؛ لأن مصدر العبث هو التصدّي للأمور دون معرفة كُنْهها، وعدم جلاء معالمها.

إن حامل الرسالة له مِن الفهم ما يجعله قادرًا على المعرفة الحقَّة بالرسالة التي يحملها؛ قدرة على الفهم السليم، وقدرة على التنزيل الرشيد؛ لأنه لا قدرة على السير لمن اختلطت عليه معالم ما يحمله، فوضوح الرؤية عامل أساس لمن أراد سلوك الطريق الصحيح والسبيل القويم.

قال ابن عطاء الله السكندري: «ربما أعطاك فمَنَعك، وربما مَنَعك فأعطاك، ومتى فتح لك باب الفهم في المنع، صار المنع عين العطاء»[2]

فَهْم في المنع، وهي درجة في الفهم يبلغها مَن وطَّن نفسه على طلب حُسْن الفهم، وعليه فالفهم درجات، وحامل الرسالة ترنو نفسه دائمًا نحو أسمى درجات الفهم الذي يُؤهِّله إلى حَمْل الرسالة التي يحملها.

قد صار من المعلوم اليوم أن المُهِمّ في العِلْم هو الفهم لا التقانة[3]، وعليه فإن الفهم الإيجابي للرسالات المحمولة صنَع المعجزات عبر التاريخ؛ معجزات أسهمت في بناء حضارات كيفما كان لونها ومشربها.

أما فشوّ الجهل والفهم القاصر فقد كان سببًا في تقهقر أُمم وتدهور حالتهـا، و«الأديان دائمًا تُصاب من سوء الفهم لها، ومن سوء العمل بها»؛ كما قال الغزالي -رحمه الله-[4].

قال المتنبي:

وكم مِن عائب قولاً صحيحًا

وآفتُه مِن الفهم السقيم[5].

ولذا قال ابن القيم: «صحة الفهم، وحُسن القصد من أعظم نِعَم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطي عبدٌ عطاءً -بعد الإسلام- أفضل ولا أجلّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما»[6].

وقال مُجدِّد أُمَّة الإسلام عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-: «مَن عمل على غير عِلْم كان كمَن يُفسد أكثر مما يُصلح»[7].

حامِل الرسالة -بفهمه الثاقب- يضع الأمور في نِصابها، يستحضر مآلاتها ومقاصدها، يستحضر عواقب الأفعال، يستجلي أمامه واقعه والسنن المودَعة فيه، يتعامل بحكمةٍ ورويةٍ، ومَن أُوتِيَ ذلك فقد أُوتِيَ خيرًا كثيرًا.

ثانيًا: صدق التمثل

قال الباجي: «الصدق: الوصف للمخبَر عنه على ما هو به»[8]. وحامل الرسالة يُخْبر عنها كما هي، بل يخبر عنها حاله قبل مقاله، يعطي المثال من نفسه عن صدق رسالته وصدق مقاله، يعلم جيدًا أن الصدق أمانة، والكذب خيانة.

قال ابن القيم: «منزلة الصدق، وهي منزلة القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي مَن لم يَسِر عليه فهو من المنقطعين الهالكين. وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضِعَ على شيء إلا قطعه. ولا واجَه باطلاً إلا أرداه وصَرعه. مَن صال به لم تُردّ صولته. ومَن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومحكّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال»[9].

ومنه لا مكان للمنافق وصاحب الحاجة في حمل الرسالة؛ حيث سينكشف باطنه على ظاهره بعد حين، شاء أم أبى، قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: «ما أسرَّ عبدٌ بسريرة إلا رداه الله رِدَاء مثلها؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر»[10].

إن الصدق عامل ذاتي، أمر معنوي، حافز داخلي وفِقْه تُصاغ به شخصية الإنسان دون اختياره، ولحَمَلة الرسالة -كيفما كان مشربهم- تناغم بديع عبر التاريخ بين ظاهرهم وباطنهم، سرّهم وعلانيتهم، قولهم وفعلهم، وهو ما أهَّلهم لحمل الرسالة، في حين افتضح أمر الكثيرين من المدَّعين والناعقين والمنافقين لما تجاسروا على شأن عظيم ببضاعة مزجاة.

فلا شَأْو لمن تاقت نفسه إلى حمل الرسالة دون صدقٍ، حسيرٌ نَظر مَن كان هذا شأنه، فبحر الرسالة متلاطم الأمواج، كالح الأُفق، عميق القرار، لا يُحابي أحدًا وَلجه، ناموسه سيف بتَّار، صاحب الصدق له فيه طوق نجاة، والمُتلاعب فيه لا محالة إلى هلاك.

ثالثًا: الصبر والجَلَد

قال الراغب الأصفهاني: «إن الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، وعما يقتضيان حبسهما عنه»[11]. وقال الجنيد: «الصبر هو تجرُّع المرارة من غير تعبُّس»[12].

وحامل الرسالة كيفما كان يَسْري عليه قانون إلهي مُودع في الكون يقتضي التكذيب والتسفيه، والمحاربة والمنابذة، والتهميش والتنقيص والتحقير في أحسن الأحوال.

حال كهذا يقتضي منه الصبر والمصابرة على ما يجده، قال سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: 35]. وقال أيضًا: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام: 34].

فقانون الصبر سرى على جميع الرسل والأنبياء مقابل ما لقوا من تكذيب وجحود، وهو القانون الذي يسري على حَمَلة الرسالة مِن بَعْدهم حتى تصل إلى منتهاها.

في الصبر والتؤدة معنى التحمُّل ومطاولة المصاعب والشدائد واستعمال الوقت لحلّها وتجاوزها. الصبر قوة، وهو من صفات الرجال أهل الإيمان والإحسان والكمال.

قال عليّ -رضي الله عنه-: «من أخلَّ بالصبر أخلَّ به حُسن العاقبة، فإن الصبر قوة من قوى العقل، وبقدر موادّ العقل وقوتها يقوى الصبر... مَن ساس نفسه بالصبر على جهل الناس، صلح أن يكون سائسًا. ولكل نعمة مفتاح ومغلاق؛ فمفتاحها الصبر، ومغلاقها الكسل».

هكذا صار الصبر رفيق درب خُدّام الإنسانية حَمَلة الرسالة، لهم ما لهم من الإشفاق على مَن يدعونهم إلى الخير، أيديهم تُمَدّ بالبِرّ، وأيدي الغير تُمدّ لهم بالشّرّ، فيصبرون تسليةً لنفوسهم عسى يُفتح باب فَهْم أو تُحَلّ عقدة غواية، أو تَحُلّ هداية بعد ضلالة، أو تُسَلّ سخيمة بعد ضغينة، أو يُخْرِج الله من أصلاب أعدائه مَن يُوحِّده، ويؤمن به حقّ الإيمان.

فَعَل الصبر فِعْلته عبر التاريخ، وغدَا مفتاح الفرج -كما يُعلّم الصبيان-، ساد به مَن اتخذه منهجًا وسلوكًا، وفاز به مَن تدثَّره لباسًا وسترًا، ولحَمَلة الرسالة منه النصيب الأوفر؛ قال عبد العزيز كيحل: «تحمَّل ورثة الأنبياء من حَمَلة الرسالة بصبرٍ جميلٍ كلّ ما أصابهم في سبيل الله، فحفظهم الله من كلّ أنواع الهزّات النفسية المهلكة كالوهن والضعف والاستكانة، أي: من الاستسلام للواقع المرير، ومن الهزيمة النفسية التي تُفْضِي إلى الانسحاب من ميدان المواجهة والدعوة والتدافع، ومن اللافت أنهم لم يُلقوا باللائمة على العدوّ الخارجي، بل اشتغلوا بالإقبال على الله وتزكية النفوس بالتوبة ليستحقّوا تنزُّل النصر من عند الله»[13].

رابعًا: اليقين في الموعود

اليقين هو: «المعلوم جزمًا الّذي لا يقبل التشكيك»[14]. وحامل الرسالة له يقين جازم في الرسالة التي يحملها، لا يساوره شكّ فيما يعتقده، وما يدعو إليه، يقينُه قوة ضخّ في المشروع الذي رسمه، هو إطاره المرجعي، ومنه تغذيته الراجعة.

قال البيهقي: «اليقين هو سكون القلب عند العمل بما صدق به القلب»[15].

فهذا اليقين هو نتيجة للتناغم الحاصل بين الأحاسيس والمشاعر المضمرة، وبين العمل الظاهر المرئي تناغم جعل أساطين حمل الرسالة عبر التاريخ لا يبالون بما يجدونه من معارضة أو استخفاف أو تسفيه، بل وجعلهم يُقدّمون على تضحيات جسام حيَّرت أُولي النُّهَى والألباب.

وعليه فالعناصر الشَّاكَّة والمُشكّكة لا مكان لها في صرح حمل الرسالة وتبليغها؛ لأنها تعيش تناقضًا داخليًّا لا يلبث أن يصطدم بواقع المواجهة والمجابهة فتُصبح دعوته دعوى، لا أصل لها ولا امتداد.

ولهذا أوصى القرآن الكريم حَمَلة الرسالة بالصبر واليقين؛ حيث قال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الروم:60].

يحاول مَن لا يقين له زعزعة صاحب اليقين، الذي يتحرَّك بين دفتي الصبر واليقين، بين الوعد الحق والاستخفافات المتلاحقة، ولهذا صارت ثُنَائية الصبر واليقين معادلة تُفْضِي إلى الإمامة في الدين، إمامة وأيّ إمامة يحصدها حامل الرسالة جزاء التصديق الجازم بالوعد الذي تحمله الرسالة.

 قال ابن القيم -نقلًا عن شيخه ابن تيمية-: «بالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين»[16].

إمامة هي في البِرّ والصلاح طلبها حَمَلة الرسالة، فمَنَّ الله بها عليهم جراء يقينهم الثابت فيما وُعِدُوا به، يقين جعل مِن حملة الرسالة أساطين شامخة لا تراودها السفاسف، ولا تستهويها الدنايا، همّتهم مُعلّقة بالثُّريا ونفوسهم تتوق إلى المعالي.

خامسًا: التضحية والبذل

تُعرّف القواميس الحديثة التضحية بأنها عمل تطوُّعي يُقدَّم دون مقابل في سبيل هدف أخلاقي.

وهو شرط أساس لكل حامل دعوة، ويكذب على نفسه مَن لا حظّ له من هذه الخصلة إذا حدَّثها بشيء من ذلك؛ لأن سُنَّة الله في كونه أن حَمَلة الرسالة يبذلون دونها الغالي والنفيس، قد بذلوا أنفسهم وهي أغلى ما يمتلكه الإنسان مجازًا، وقد بذلوا أموالهم، أهليهم أوقاتهم، علمهم تدبيرهم مناصبهم أوطانهم ومعارفهم... والتضحية تزداد كلما شرفت الرسالة المحمولة وشرف قصد وهدف حاملها.

وجدير بالتصحيح أن ما يقدّمه حامل الرسالة دون مقابل أمر غير صحيح، لأن المقابل واقع وإن كان معنويًّا، بل المعنوي أشرف وأسمى من المادي، وحتى لو كان حامل الرسالة لا دين له.

ولهذا سَمَّى حَمَلة الرسالة من أبناء التوحيد تضحياتهم بذلًا لسببين رئيسين؛ أحدهما تقديم الشيء المبذول بمقابل يكون في الغالب معنويًّا؛ ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ: ٤٧]، ثم احتقار ما يُقدَّم في سبيل تبليغ الرسالة، ولهذا قدّم حِفْظ الدِّين على حفظ النفس، فالدين غالٍ والنفوس تُسترخَص لأجله، والمقابل ثمينٌ؛ لأن المُهدَى له غنيّ، والغنيّ يَرُدّ الهدية بأثمن منها، تكون لا قيمة لها فتصبح كبريتًا أحمر؛ لأن العبرة بالفعل لا بالشيء.

هكذا هم حَمَلة الرسالة لا يمتلكون شيئًا على الحقيقة، فقد لقي الإمام أحمد شيبان الراعي؛ فقال له: ما الزكاة في خمس من الإبل؟ قال شيبان: «في الواجب شاة، أما عندنا فكلها لله». قال: فما أصْلُك في هذا؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كلِّه لله».

سادسًا: الانفتاح والتطاوع مع الأحداث

يُعدّ الانفتاح سمة بارزة من سمات حَمَلة الرسالة، فهو مفتاح لولوج مهامّ وأعمال التبليغ عن الله والدعوة إلى دينه، وبدونه لا تَسْري الحياة في الرسالة المحمولة، وما غشيان حَمَلة الرسالة عبر التاريخ للتجمعات الكبرى لمجتمعاتهم إلا وَجْه من وجوه الانفتاح المطلوب في حقّهم.

وعليه، فلا مكان للمنكفئ على ذاته في مجال حمل الرسالة، وخصوصًا في زمان الانفتاح المعلوماتي وتصاعُد التواصل في الفضاء الأزرق الذي اكتسحه حَمَلة رسالة الفساد والرذيلة.

وتعرف معاجم اللغة الانفتاح بإمكانية تفهُّم شيء أو اتساع الفكر له، والحقيقة أن التفهُّم واتساع الفكر نتيجة مَرْضِيَّة من نتائج الانفتاح، وهذا لا ينفي أن حامل الرسالة له دُرْبَة على الاكتشاف وسرعة البديهة، ويتسع فكره دائمًا لتفهُّم المستجدات واستيعاب المتغيرات، حتى يساير عصره ويُواكب نوازله، أما المتحجر الذي يريد من الكون أن يدور في فَلَكه فحالمٌ في دروب حمل الرسالة.

إن انفتاح حامل الرسالة يُؤهِّله لقبول الآخر، ويُكْسِبه صفة التطاوع التي تجعل صاحبها يدقق في الأصول ويتساهل في الفروع، لا يُغيِّر في الثوابت ويُجدِّد في المتغيرات، يتصلب في المبادئ ويلين في الرأي والاجتهاد.

جاء في كتاب العين للخليل: «اشتُقَّت الاستطاعة من الطوع. ويقال: تطاوع لهذا الأمر حتى تستطيعه. وتطوع: تكلّف استطاعته، وقد تطوع لك طوعًا إذا انقاد»[17].

وجاء في أساس البلاغة: «تطاوَعَ لهذا الأمر وتطوّعَ له: تكلّف استطاعتَه حتى يستطيعَه».

إن التطاوع حكمة قبل أن يكون تقنية، لغة جسدية قبل أن يكون علمًا يُدرّس، رُشْد يُراكمه حامل الرسالة بفعل تغلغله في مجتمعه، وتصحيح أخطائه وتقصيد أفعاله.

هكذا هم حَمَلة الرسالة ما خُيِّرُوا بين أمرين إلا اختاروا أيسرهما، ما دُعوا إلى فضيلة إلا أجابوا، ما نُدِبُوا إلى خير إلا وُجِدُوا، لا يُدققون في التفاصيل، ولا يُوغلون في الخبايا والنيات، يدهم ممدودة بالخير للبشرية، بِشْرهم على وجههم، وحُزنهم في باطنهم؛ غيثٌ أينما نزلوا، رحمةٌ أينما رحلوا.

وصدق الشاعر إذ وصفهم بقوله:

تحيا بكم كل أرض تنزلون بها

 كأنكم في بقاع الأرض أمطار

سابعًا: المغامرة والمخاطرة

من أكثر الناس افتتانًا وتعرُّضًا للأذى حامل الرسالة؛ لأنه حامل خير سيُواجه تيارَ شرٍّ؛ سُنة الله الماضية في خلقه، كما أنه يُهدِّد مصالح طلاب المناصب والجاه والمال ممن يَصِلُون إلى ذلك من غير استحقاق.

وقد صوَّر لنا التاريخ منذ بداياته الأولى كيف حُورِبَ الأنبياء والرسل والمصلحون ودعاة الخير وحمَلة الرسالة وسفراء الخير للبشرية عامة؛ رغم أن شعارهم كان واحدًا؛ ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ:٤٧].

هذه المواجهة التي يدخل فيها حامل الرسالة قسرًا كان بإمكانه تفاديها لو سبَّح مع المسبحين بحمد وأفعال الطغاة والمفسدين، ولو سايَر أيضًا واقعه ومجتمعه الفاسد الناعق الذي قدّم أحيانًا بعضًا من أمثاله قربانًا لإرضاء نزوات المترفين.

مثل هذا الواقع جعل الكثير يصف إقدام حامل الرسالة على تبليغ دعوته، وإصلاح ما فسد من أوضاع مجتمعه؛ تهورًا ومغامرةً ومخاطرةً، والحقيقة أنه لا حمل للرسالة دون مخاطرة.

إن حمل الرسالة مُناط بتبليغها وتعميم نفعها، فأيّ رسالة هاته التي تنهج نهج خفافيش الظلام، غير أن أعداء الإصلاح في الأرض كثيرون، لا يخلو منهم زمان ولا مكان، ليصبح صراع الحق والباطل صراع الخير والشر سُنّة وقانونًا إلهيًّا يسري في أرضه وعلى خَلْقه؛ امتحانًا لهم وتمحيصًا.

جاء رجل إلى رسول الله # فقال: إني أحبّك يا رسول الله؛ فقال: «إن كنت تُحِبُّني فأعِدَّ للبلاءِ تَجفافًا، فوالَّذي نفسي بيدِه لَلبلاءُ أسرعُ إلى مَن يُحِبُّني مِن الماءِ الجاري من قُلَّةِ الجبلِ إلى حضيضِ الأرضِ، ثمَّ قال: اللَّهمَّ فمن أحبَّني فارزُقْه العفافَ والكفافَ، ومَن أبغضني فأكثِرْ مالَه وولدَه»[18].

فحُبّ حَملة الرسالة والكينونة معهم مظنة الابتلاء والامتحان، فكيف هو الأمر في حقهم خاصة.

وصفحات التاريخ غاصَّة بما وقَع لحَمَلة الرسالة من تكذيبٍ وتسفيهٍ وتشريدٍ ومقاطعةٍ ومُلاحقةٍ وتضييقٍ وتقتيلٍ وتعذيبٍ؛ لأن الرسالة أمانة، وحاملها يعي جيدًا أن التخلّي عنها لا يليق بجنابه والمطلوب صونها على أيّ حال وبأيّ ثمن.

كانت هذه خلاصات حول ما امتاز به حَمَلة الرسالة، ولا شك أنهم يتَّصفون بغيرها من الخصال والخلال، ما أهَّلهم للعطاء المدهش للعقول والمُحيِّر للألباب، ليبقى الدرس الرسالي في هذا الزمان درسًا مبنيًّا على تجارب سابقة وأفعال ماضية وسنن إلهية، يُستفاد منها أيما استفادة، أما متغيرات الزمان ومتحورات النوازل فواقع يعيشه الرسالي، ويتعاطى معه بما أُوتي من خصال، وما أُنعم عليه به من توفيق.

خلاصات عن صفات وسمات يمتاز بها الرسالي أهَّلته وتُؤهِّل غيره ممن سار على درب طلب خير البشرية ونفعها، ليبقى طلبها وسبيل نيلها وتقمصها أمرًا أدهش الألباب وأذهَل العقول، وهو ما يحتاج إلى تحرير وتنقيح وتنقيب.

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تُؤخَذ الدنيا غلابا

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 


 


[1] Frank Smith F. SMITH; La compréhension et lapprentissage , Canada, HRW, 1979, p 103

[2] فيض القدير شرح الجامع الصغير، زين الدين المناوي، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، ط 1، 1356هـ، 2/262.

[3] يُروَى هذا القول عن العالِم الرياضي الفيزيائي ألبرت أينشتاين.

[4] ركائز الإيمان بين العقل والقلب، محمد الغزالي، دار الشروق، ص 214.

[5] مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي، أحمد قبش بن محمد نجيب، دار الرشيد، الرياض، ط3، 1405هـ- 1985م، ص440.

[6] إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411هـ- 1991م، 1/165.

[7] الطبقات الكبرى، ابن سعد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410هـ- 1990م، 5/272.

[8] الحدود في الأصول، أبو الوليد الباجي، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1424هـ- 2003م، ص 116.

[9] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 3، 1416هـ- 1996م، 2/257.

[10] الزهد، أبو داود سليمان السجِستاني، رواية: ابن الأعرابي عنه، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم بن محمد وأبو بلال غنيم بن عباس بن غنيم، قدم له وراجعه فضيلة الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف، دار المشكاة للنشر والتوزيع، حلوان، مصر، ط 1، 1414هـ- 1993م، ص 112.

[11] تفسير الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الأصفهاني، تحقيق ودراسة د. محمد عبد العزيز بسيوني، كلية الآداب- جامعة طنطا، مصر، ط 1، 1420هـ- 1999م، 1/177.

[12] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن قيم الجوزية، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط 3، 1409هـ- 1989م، ص 16.

[13] مقال «الصبر واليقين في حياة المسلم» لعبد العزيز كيحل، على موقع إسلام ويب، الرابط: https://2u.pw/bu61hu7x

[14] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، ط 1984هـ، 27/ 350.

[15] الزهد الكبير 1/352.

[16] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، 2/449.

[17] كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار الهلال، 2/210.

[18] أخرجه ابن ماجه (٢٤٤٨)، والبيهقي في شعب الإيمان (١٤٧٥) واللفظ له، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٤/١١٥) وفي سنده مقال.

 

 

أعلى