يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على جيش كبير مثل هذا البحر الخِضَمّ قوامه مئتا ألف؟ لكنَّ الله -تعالى- ألهم خالد بن الوليد أن يُغيِّر أوضاع جيشه؛ حتى يتوهم العدو أن ثمة تغييرًا قد وقع في جيش المسلمين
بين حينٍ وآخر تعتري الأمة المسلمة فترات من الضعف والوهن؛ لذا فهي تحتاج إلى رافعة ترفع بها معنوياتها، وتُحلّق بها في سماء التاريخ الزاخر بالمآثر والبطولات، وما إن تفتح دفاتر التاريخ والجغرافيا سوف تجد ما يقوّي عزمها، ويشحذ إرادتها للنهوض من جديد؛ للسير على خطى هؤلاء الأفذاذ المغاوير الذين نفخر بهم
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وقد أجمع كُتّاب السِّيَر على تسمية مؤتة بالغزوة على الرغم من عدم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ لأن قصد النبي صلى الله عليه وسلم لقتال الكفار بنفسه أو بجيش مِنْ قِبَله، ولو لم يشارك فيه؛ يُسمَّى هذا العمل غزوة.
قال الحافظ ابن حجر في شرح كتاب المغازي في صحيح البخاري: «المغازي جمع مغزى، يقال: غزا يغزو غزوًا ومغزى. والمراد بالمغازي هنا ما وقَع مِنْ قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار لنفسه أو بجيش مِنْ قِبَلِه»[1]. ومِن ثَمَّ فإن تسمية معركة مؤتة غزوة صحيح؛ لأن جيش تلك المعركة انطلق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووفق خطته، ولقد كانت عزوة مؤتة -كما يقول المباركفوري- من عجائب الدهر، وأثبتت أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مُؤيَّدون ومنصورون من عند الله[2].
لم يكن لمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَقبل الضَّيْم على نفسه أو على أحد من أفراد رعيته؛ فقد ربَّاهم على العزة والكرامة والتضحية والثبات والتجرد لله تعالى، وعلى حب الجهاد في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين العظيم، وهذا الذي دعاه لأن يُحرِّك جيشًا لم يتحرَّك مثله مِن قبل إلا يوم الخندق؛ أعد -عليه الصلاة والسلام- هذا الجيش الذي يصل إلى ثلاثة آلاف مقاتل تحت قيادة زيد بن حارثة -رضي الله عنه- كي يواجه به غطرسة الروم واستعلائهم وتحدّيهم لشمس الإسلام الساطعة ومبادئه النَّيِّرة، والتطاول على رموزه وأعلامه. وكيف سوَّلت لهم أنفسهم -وهم أهل كتاب- أن يقتلوا رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ الحارث بن عمير الأزدي مبعوثه إلى ملك بصرى؟
بدأ -عليه الصلاة والسلام- على الفور في إعداد العدة ورسم الخطة القتالية، وتحديد المهامّ العسكرية والتفصيلية للقادة والجند قائلًا لهم: «أمير الناس زيدُ بنُ حارثة؛ فإن أُصيب زيدٌ فجعفرُ، فإن أُصيب جعفرٌ فعبدُ الله بنُ رواحةَ الأنصاريُّ»[3].
ووقف المسلمون عن بكرة أبيهم كي يشاركوا في وداع الجند البواسل، وكان وداعًا حارًّا وعظيمًا هيَّج الدموع في مآقيها، وأثار البكاء حفيظتها؛ وكان داعًا امتزجت فيه العاطفة بالحب والشفقة. لقد كانت ملحمة عاطفية اختلط فيها الحب والأمل بالتقدير والوفاء والإشفاق، وخرج رجال الحق وفرسان الفتح يحملون أرواحهم على أكُفّهم تَحْدُوهم الرغبة إلى فضل الله الوافر وحظه الغامر، ورغبة في إعلاء كلمته.
وما إن وصلوا إلى «معان» من أرض الشام (وهي تقَعُ اليومَ ضِمنَ حُدود الأُردُن لتَضُمّ عَمَّان، والزَّرْقاء، ومَأْدَبا، والسَّلْط)، حتى فوجئوا بأن قبائل أخرى من متنصرة العرب من (لخم وجزام وألقين وبهراء وبلي) قد انضمت إلى جيش الروم، وكان قوامها مائة ألف. فصار عدد مقاتلي جيش الروم مئتي ألف. وهنا بدأ التشاور السريع بين المسلمين؛ هل يكتبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ يُخبرونه بعدد عدوّهم، فإما أن يمدّهم بالرجال، وإما أن يأمرهم بأمرٍ فيمضوا له[4].
ووسط هذا التفكير الذي أحاط بالقادة؛ انبرى عبد الله بن رواحة يُزْكي الروح القتالية المعنوية التي إن فترت في نفوس الجند لم يقووا على شيء؛ فقال: «يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلِقُوا؛ فإنما هي إحدى الحسنيين».
فتحمَّس الناس وتشجَّعوا بكلام ابن رواحة، وبرز حُبّ الشهادة يشتد من بعيد؛ ليندفع القوم إلى المواجهة واللقاء؛ فالتقوا بجيش هرقل من الروم والعرب بقرية مشارف، وانحاز المسلمون إلى قرية مؤتة يتحصنون بها، ليلتقي هذان الجيشان غير المتكافئين، لا في العدد ولا في العُدَّة، وهم يتنسمون ريح الجنة ليحدو بها جعفر في كلمات يستنفر بها همّته ويقوّي عزيمته:
يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
ثم يرتجز عبد الله بن رواحة، وقد تعيَّن عليه قيادة المعركة:
أَقسَمتُ يا نَفسُ لَتَنزِلِنَّه
لَتَنزِلِنَّه أَو لا لَتُكرَهِنَّه
إِن أَجلَبَ الناسُ وَشَدّوا الرَنَّة
ما لي أَراكِ تَكرَهينَ الجَنَّة!
قَد طالَما قَد كُنتِ مُطمَئِنَّة
هل أَنتِ إِلّا نُطفَةٌ في شَنَّة؟
* * *
يا نفس إن لا تُقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
واستعانوا بالله تعالى، وقد اتَّقد الإيمان في صدورهم، ودارت رحى المعركة، وظهرت بسالة الرجال، وبانت معادنهم وبرزت طاقاتهم، وليعلم الأعداء أن لهذا الدين رجالًا يحرصون على الموت أكثر من حرصهم على الحياة؛ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ رجال يعرفون أن في أعناقهم بيعةً عليهم ألَّا ينكثوها، وعقدًا لم يَحيدوا عنه، وميثاقًا لن يضيعوه.
قال ابن كثير -رحمه الله-: «وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم-، في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله، وامتثال ما أرشدهم إليه؛ ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد من بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا، وفي المدة اليسيرة مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس والترك، والصقالبة والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين»[5].
وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: «سَمِعْتُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ يقولُ: لَقَدِ انْقَطَعَتْ في يَدِي يَومَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَما بَقِيَ في يَدِي إلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ»[6]. ولك أن تتخيل كم عدد مَن قتلهم خالد وحده بهذه الأسياف التي تكسرت على رؤوسهم!
يا لصناعة الرجال! ويا لتربية النفوس! ويا لصياغة العقول المسلمة على معاني الرجولة والكرامة والشوق إلى دار المقامة! وأيّ حُبّ وولاء لهذا الدين؟! يحمل جعفر الطيار الراية بيمينه فتُقْطَع يمينه، فلا ينشغل بتضميدها وجراحها، بل يحمل الراية بيساره، ثم تُقْطَع فيحملها بعضديه، ثم يعاجله العدو بضربة تقسمه نصفين.
ويرفع الراية ثابت بن أقرم؛ لكي لا تقع على الأرض؛ فلم يأخذها لنفسه، بل ليُسلّمها إلى مَن يصطلحون عليه من المسلمين، ثم يُبصر خالد بن الوليد فيُسلّمها إليه، ويخبره أنه ما التقطها إلا ليسلمها له.
إنها لمهمة قاسية ومحنة شديدة لك يا خالد! سقط القواد الثلاثة شهداء، وجيش الروم أكثر من الرمال والحصى؛ فهل تهجم بجيش المسلمين القليل، لكي تُفنيه في أتون المعركة؟ أيمكن أن يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على جيش كبير مثل هذا البحر الخِضَمّ قوامه مئتا ألف؟ لكنَّ الله -تعالى- ألهم خالد بن الوليد أن يُغيِّر أوضاع جيشه؛ حتى يتوهم العدو أن ثمة تغييرًا قد وقع في جيش المسلمين، فيظن أقرب الاحتمالات إلى نفسه أن مددًا قد جاء للمسلمين، وخاصة أن خالد قد طلب من بعض الفرسان أن يثيروا غبارًا خلف الصفوف ليقع ذلك في نفس القوم موقع الخائف الذي يترقب أمرًا يخشاه، ثم لينحاز الجيش، ويرجع به إلى المدينة.
الدروس المستفادة من غزوة مؤتة
أولاً: إن غزوة مؤتة لتُذَكِّر الأُمَّة أنها في حاجة إلى بعث معنوي جديد، يُعيد لها آصرة التلاحم القوي، وروح الاستبسال والجهاد والدفاع والمواجهة؛ لكي تحمي ثوابتها، وتحافظ على معالمها لتبقى حيةً فتيةً لا تُهزم ولا تشيخ.
ثانيًا: إن معارك الإسلام وغزواته لم يكن الهدف منها أن تُراق الدماء أو التشفّي لهوى النفس، وترويع الكبار والصغار، بل الهدف أن تُرفع راية التوحيد، وأن تعلو كلمات الله لتكون هي العليا، وألا تكون فتنة في الأرض. فتنة بُعْد الناس عن معالم هذا الدين وعن هداية السماء التي على أساسها نشأت أُمَّة وأُقيمت حضارة؛ هي أمة الإسلام العظمى.
ثالثًا: المشاركة المجتمعية للمجاهدين في سبيل الله، والاهتمام بالجانب النفسي والمادي لذويهم؛ فخلافة المجاهدين والشهداء في أهلهم وأبنائهم بالرعاية والنفقة والاهتمام؛ تُعدّ بابًا من أبواب الجهاد في سبيل الله تعالى، وقد برز ذلك واضحًا في أمرين:
الأول: حال خروج المجاهدين للقتال خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في وداعهم يشيّعونهم بالدعوات والتثبيت وحصول المرادات (صحبّكم الله بالسلامة، ودفَع عنكم، وردَّكم إلينا صالحين)، وتنبع أهمية هذا الخطاب على المستوى النفسي أولاً من كونه يطمئن المقاتل بدايةً، ويطمئن ذويه وأهله ومحبيه، ويطمئن كذلك أولئك المتشوِّفون للشهادة للّحاق به؛ فليس في الشهادة في سبيل الله ثمة خسارة على الإطلاق، وهذا يُعدّ زادًا معنويًّا يحتاج المقاتل إليه؛ فبعد لحظات يلتقي الفريقان، ويتلبس بالموت أو يتلبس الموت به وهو يجول ويصول بين الرماح والسهام والسيوف. وإسقاط ذلك على واقعنا المعيش يكون بنشر ثقافة الجهاد وإعلاء قيمة الشهادة في سبيل الله عن طريق الوعي والتعليم والتثقيف الجمعي والأنشودة الحماسية والدراما الهادفة، وهذا يقوّي ظهور المجاهدين ويُثبّتهم وهم يستشعرون أن مَن خلفهم مِن المؤمنين مَن يُخلصون لهم النصح والدعاء والتأييد.
الأمر الآخر: «لَمَّا جاء نعْيُ»، أي: خبَرُ موْتِ «جَعْفَر»، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «اصنَعوا لأهْلِ جَعْفَرٍ طَعامًا»، أي: أعِدُّوا لهم ووفِّروا لهم الطَّعامَ؛ وعلَّل ذلك فقال: «فإنَّه قد جاءهم ما يَشغَلُهم»، أي: ما يَحدُث لهم مِن حزْنٍ وهَمٍّ وغَمٍّ، وتعزيَةِ النَّاسِ لهم. روى عبد الله بن جعفر قال: لمَّا جاءَ نَعيُ جعفرٍ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «اصنَعوا لأهْلِ جعفرٍ طعامًا؛ فإنَّهُ قد جاءَهُم ما يشغلُهُمْ»[7]؛ فيكون ذلك سُنّة قولية وعملية أن يلتزم المسلمون بها، وعلى المجتمع مراعاة أبناء الشهداء وأُسَرهم، وهذا ما فعله -عليه الصلاة والسلام- حين علم باستشهاد جعفر ذهب لأسماء بنت عميس زوجة جعفر، وقال لها: «ائتيني بأبناء جعفر، فجاءته بهم؛ فتشمَّمهم وزرفت عيناه»[8]، وفي ذلك مشروعية مواساة المُصاب وتفقُّد أحواله والتخفيف عنه.
رابعًا: الشجاعة والإقدام مع التفكير الراشد وسدّ عورات المسلمين وحمايتهم بكل الوسائل الممكنة، وقد وضح ذلك في النظرة العسكرية الثاقبة، وإدراك مواطن قوة العدو وضعفه، برز ذلك واضحًا في عبقرية خالد، وقد استقر في فَهْمه -وهو المقاتل المتميز الذي لم يُهزم لا في جاهلية ولا إسلام- أن مواجهة الجيش الصغير لجيش ضخم فيه إهدار للقوة وتبديد للطاقة بغير طائل؛ لأن كل جندي من فريق المسلمين عليه أن يقتل سبعين مقاتلاً من جيش العدو لكى يبقى هو حيًّا، وهذا يُعدّ خارج الحسابات العقلية. وقد روى أبو هريرة قَالَ: «شَهِدْتُ مُؤْتَةَ فَلَمَّا دَنَا مِنَّا الْمُشْرِكُونَ رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لأحدٍ بِهِ مِنَ الْعُدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فَبَرِق بصري»[9].
ولم يكن ثمة مفر من الانسحاب والرجوع بالجيش إلى منطقة الأمان، رغم أن الانسحاب -كما يقول اللواء الركن محمود شيت خطاب- «من أصعب الحركات العسكرية؛ لاحتمال انقلاب الانسحاب إلى هزيمة، والهزيمة كارثة تؤدي إلى خسائر فادحة بالمنهزمين»[10].
فكان لا بد من الدهاء والحيلة والمكر الحسن، وفي الحديث الصحيح «الحرب خدعة»[11]. فما كان منه -رضي الله عنه- إلا أن قاتَل في اليوم الأول قتالًا شديدًا، وفي اليوم التالي من المعركة راح يُغيِّر ويُبدِّل أماكن الجند من ميمنة وميسرة وقلب وساق، فضلًا عن إثارة الغبار الكثيف خلف الجيش؛ ليوهم العدوّ بأن مددًا جديدًا قد وصل لتَوِّه؛ فيُوهن قلب العدو فيضطره للتراجع والقهقرى، بعدما أنكر العدو ما كان يعرف من قتال الأمس بتغيير الرايات والهيئة، وهو يسمع جلبة الخيل وقعقعته ليقع في روعه أن المسلمين قد يقومون بتطويق الجيش فيتراجعون رعبًا وهلعًا، وبهذا يكون خالد قد استنقذ الجيش المسلم من هلاك مُحقّق وإبادة جماعية دون أن يُحدثوا النكاية في العدو.
خامسًا: الشهداء ليسوا أمواتًا بل أحياء عند ربهم يُرزقون. والبعض قد يظن أو يحسب خطأ أن الشهادة موت، وهذا غلط لا يستقيم مع النظم القرآني الصريح الذي قرَّر الحياة لهم ووصفهم بأنهم أحياء، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وجاء النهي عن وصف الشهداء بالموتى؛ فقال: {وَلا تَقُولُوا لِـمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154].
وربما حسب البعض أنهم ماتوا بلا ثمن، أو هلكوا بلا معنى، أو أُزهقت أرواحهم بلا طائل، وفوَّتوا على أنفسهم زهرة الحياة الدنيا؛ وهذا مخالف للحقيقة، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: «وصف الشهداء بالموت كذب، وفي النهي عنه ترغيب في التعرُّض للشهادة»[12].
كأن الآيات تربت على صدرك أن لا حزن على هؤلاء الشهداء؛ فهم (عند ربهم)؛ صارت لهم رعاية خاصة وقيمة كبيرة؛ فيُجْرِي عليهم رزقهم في الجنة، ومن المؤكد أنه رِزْق عظيم بكل ما تَعنيه الكلمة من معنى؛ إذ جاء التعبير القرآني يصف شعورهم بالبهجة والفرح {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]؛ قال ابن العربي المالكي: «وأما القول في الشهداء فالأحاديث الصحاح فيه قليلة، وثوابها عظيم؛ فإنها تُكفِّر كل خطيئة إلا الدَّيْن، وهو حيّ عند ربه يُرْزَق، فَرِحٌ بما آتاه الله من فضله ولقيه به من برّه»[13].
لذلك فهُم في الجنة يتنعمون، وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كُشِفَت له المعركة كأنه يراها ويشهدها رأي العين؛ فرأى الشهداء الثلاثة من القادة على أَسِرَّة من ذهب؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: «لقد رُفعوا إليَّ في الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب»[14].
ولذلك لا يتمنون الرجوع إلى دنيا الناس إلا ليقاتلوا في سبيل الله مرَّة أخرى؛ بعدما رأوا ما عند الله من الجزاء الكريم لهم، وهذا هو الذي عبَّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عندما نعى القادة الثلاثة إلى المسلمين، وقال لهم: «ما يَسُرُّنَا أنَّهُمْ عِنْدَنَا، أَوْ قالَ: ما يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنَا، وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ»[15].
سادسًا: ترويض النفس على الطاعة، وترغيبها، ومحاورتها للوصول بها إلى ما يُرضي الله تعالى؛ كما حدث ذلك مع عبد الله بن رواحة، وهو يرتجز الأشعار؛ يُروِّض نفسه بها ويسوسها للمعالي، يقول:
أَقسَمتُ يا نَفسُ لَتَنزِلِنَّه
لَتَنزِلِنَّه أَو لا لَتُكرَهِنَّه
إِن أَجلَبَ الناسُ وَشَدّوا الرَنَّة
ما لي أَراكِ تَكرَهينَ الجَنَّة
قَد طالَما قَد كُنتِ مُطمَئِنَّة
هَل أَنتِ إِلّا نُطفَةٌ في شَنَّة
* * *
يا نفس إن لا تُقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليتِ
وما تمنيت فقد أُعطيت
إن تفعلي فعلهما هُديت
سابعًا: أمة الإسلام أُمَّة مباركة، يكمن فيها الخير ولا ينضب معينها؛ فعلى الرغم من استشهاد القادة الثلاثة الذين عيَّنهم النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن يبرز غيرهم ليقود المعركة وينتصر بنجاة وعودة جيش المسلمين سالمين، وفي الحديث الصحيح: «لن يبرح هذا الدين قائمًا يُقاتل عليه عصابة من المسلمين»[16]؛ فهي أمة لا تَفنى ولا تَبيد، لقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى فخلفه أبو بكر، ثم عمر، وعثمان وعليّ والحسن والحسين ومعاوية -رضي الله عنهم أجمعين-، ولن تتوقف مسيرة الأمة -بإذن الله تعالى-، نعم قد تمرض، ولكنّها لا تموت، والمستقبل لهذا الدين.
[1] فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 12/6.
[2] الرحيق المختوم للمباركفوري، ص392.
[3] صحيح البخاري: 4261.
[4] السيرة لابن هشام: 4/13.
[5] تفسير القاسمي، ص3011.
[6] صحيح البخاري: 4265.
[7] صحيح الترمذي للألباني: رقم 998.
[8] سيرة ابن هشام: 4/20.
[9] رَوَاهُ الْبَيْهَقِي، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 4/ 278.
[10] اللواء محمود خطاب، الرسول القائد، ص308.
[11] صحيح البخاري: 3029.
[12] شجرة المعارف، العز بن عبد السلام، ص246.
[13] سراج المريدين: 1/253.
[14] السيرة لابن هشام: 4/19.
[15] صحيح البخاري: 2798.
[16] صحيح مسلم: 1922.