• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جذور أزمة الهوية في تونس

جذور أزمة الهوية في تونس

 

انفجر سؤال الهوية من جديد إثر نجاح الثورة التونسية في الإطاحة بنظام الاستبداد وفتحها المجال للحريات، ورغم مرور عقود على الاستقلال ظل سؤال «مَن نحن؟» ينتظر إجابة ممكنة، وما كشف حدة الصراع وتجذّره في الوعي السياسي التونسي، هو ما يجري اليوم أثناء المناقشات حول الدستور المقترح في المجلس التأسيسي، حيث تصرُّ بعض الفئات الأقل عدداً والأعلى صوتاً على رفض الإسلام كمكون مركزي لهوية الدولة في تونس، وليس هذا النقاش غريباً في ذاته، وإنما يعود هذا النمط من الصراع إلى ما يمكن تسميته فشل التحديث القسري الذي عمدت إليه الدولة منذ عقود ضد هوية الشعب ومقدساته، وكان لهذا التوجه ركائز أيديولوجية منوعة قد لا ترقى إلى مستوى فلسفة نظرية بقدر ما هي ممارسة سياسية وضع جذورها الحبيب بورقيبة، باعتباره من حاول ترسيخ تصوّر معين للحداثة بوصفها قطيعة مطلقة مع ماضيها الحضاري والثقافي، ومحاولة لتبيئة قراءة غربية لنمط التحول الاجتماعي، لكن وخلافاً للنموذج الغربي الذي جاء في سياق تطور طبيعي، كانت المحاولة البورقيبية تتنزل ضمن سياسة قسرية منتزعة من سياقاتها الحضارية والثقافية، فكيف تتحدد أهم ملامح هذا التحديث البورقيبي القسري، وما انعكاساته الثقافية والسياسية على المجتمع والدولة، وما مستقبل حضوره بين الفئات الشعبية المختلفة في ظل ديمقراطية ما بعد الثورة؟

يمكن اختزال أهم ملامح التحديث القسري البورقيبي في جملة من العناوين العامة التي قد لا يسمح ضيق المجال لتفصيلها:

أولاً: مقولة الأمة التونسية: ركز بورقيبة بعد الاستقلال وانفراده بالحكم على محاولة إرساء نموذج لأمة تونسية ذات فرادة وخصوصية، تأسياً بالمفهوم الغربي لمعنى الأمة التي تجمع بين الانتماء القومي والوحدة السياسية في ظل دولة واحدة، وبالرغم من أن هذا المفهوم تمت مجاوزته في الفكر الغربي، غير أن بورقيبة حاول أن يركز على ما يسميه الخصوصية التونسية، باحثاً عن حوادث تاريخية مجتزئة لتزكية تصوره العام لمعنى الأمة، حيث يقول في أحد خطاباته “تونس منذ أقدم العصور.. كانت دائماً شديدة الحفاظ على شخصيتها حتى في العهود التي تُفرض عليها لغة جديدة وتُحمل على اعتناق دين الدخلاء“[1]. وربما الخطير فيما فعله بورقيبة أنه لم يكن منظّراً أو كاتباً، وإنما رجل سياسة ذا حكم مطلق حاول أن يضع معتقداته غير الممنهجة موضع التنفيذ، ولعل هذا ما يفسّر تراجعاته عن قرارات اتخذها وإقدامه على خطوات كان أثرها سلبياً على المجتمع أكثر مما هي نافعة لوحدة الشعب ذاته؛ فقرار إلغاء الصوم أو محاولة تحويل وجهة الحج أو السخرية من المقدسات وتحويلها إلى مادة فلكلورية؛ كانت إجراءات في سبيل ضرب المشترك الديني مع باقي أجزاء الأمة العربية والإسلامية، وفي ذات الوقت ترسيخ علمانية الدولة التي أصبحت المقدس الجديد في ظل بورقيبة من خلال رفع شعار "هيبة الدولة أولاً"، ”فالدولة تتجاوز كونها مؤسسة سياسية لتصبح في التحامها بالأمة عائلة تسودها علاقات عائلية روحية وجب زرعها في أفراد كل الأمة، عند ذلك يصبح الرأي المخالف معصية باعتباره عقوقاً وتجاوزاً للأخلاق والأدب“[2]، وخروجاً عن طاعة الأب صاحب الفضل على شعب لم يكن قبل مجيء الزعيم سوى “غبار من الأفراد“.

ثانياً: تكريس عبادة الزعيم: لقد اقترنت محاولة التحديث البورقيبي بفكرة عبادة الشخصية وبناء نوع من البطرياركية السياسية التي تحوّل معها الزعيم الملهم والمجاهد الأكبر وسيد الأسياد إلى أب كل الأمة، وهو ما يكشف عن تقمّص تام للأتاتوركية (أتاتورك/ أبو الأتراك، بورقيبة/ أبو التونسيين) من جهة، وعن هيمنة عقلية الطاغية الذي يغيّر كل الأشياء بإرادة شبه إلهية (النموذج الفرعوني في الحكم “أنا ربكم الأعلى“)، فقد كان بورقيبة يؤكد على قيمة الخطاب الذي يوجهه للشعب بوصفه يرتقي إلى مرتبة أعلى من الخطاب العادي (في محاولة للتماهي مع الوحي المقدس)، فإذا كان القرآن الكريم (الوحي الإلهي) قد صنع أمة، فإن الخطاب البورقيبي قد صنع بدوره أمة، “تعرفون طريقتي الخاصة في الكلام، تلك الطريقة التي كان لها الفضل في تكوين أمة كاملة“[3]، هذا الوهم جعله يضع نفسه في مقام يساوي أو يفوق الأنبياء[4]، لكنه نبي علماني يملك قدرات عقلية فذة تمكّنه من تشكيل شعبه بالصورة التي يريد ويرغب، انطلاقاً من اعتقاده بأنه قد صنع شعباً من الغبار ونفخ فيه من روحه حتى يصبح كياناً قائماً بين الأمم.

ثالثاً: علمنة التعليم والثقافة: لقد تعوّد أنصار التغريب البورقيبي على الافتخار بأن بورقيبة صانع مجد تونس عبر التعليم والثقافة، والوقائع التاريخية تقول إن الشعب التونسي، وقبل مجيء بورقيبة، كانت لديه رغبة غير مسبوقة في التعلم إلى الحد الذي دفع المستشرق الفرنسي لوروا بوليو (سنة 1897) إلى الحديث بإعجاب عن ذلك: “الشعب المتحضّر والمهذب والممجّد للتعليم“، حيث كانت تونس ومنذ القرن 19 أحد أهم مراكز النهضة العربية والإسلامية، وقد ظل السياق العام للتعليم وانتشار الثقافة في تصاعد حتى في ظل الاستعمار الفرنسي[5] وفي ظل انتشار الصحف، الوسيلة الإعلامية الأولى في ذلك الزمان، غير أن الإنجاز البورقيبي تمثّل في أمرين، وهما: إلغاء كل أشكال التعليم الأهلي وإغلاق مؤسساته بقانون، والتركيز على إنشاء مدرسة تونسية جديدة تميّزت بهيمنة التمشي التغريبي العلماني عليها، فلم تكن تلك المدرسة موجّهة لإنتاج العقول المبدعة والمهارات الصناعية (نموذج ميجي في اليابان أو نموذج مهاتير محمد في ماليزيا على سبيل المثال)، وإنما كانت عبارة عن محاولة لتصفية الحساب مع ثقافة عربية إسلامية لطالما احتقرها بورقيبة ورأى فيها سبباً من أسباب التخلف[6].

والأمر الثاني الذي عمد إليه المشروع البورقيبي هو منع ظهور أي خطاب آخر مناوئ له، سواء من الناحية السياسية (تصفية الجناح اليوسفي في الحزب الدستوري وحظر لجنة صوت الطالب الزيتوني[7]، وصولاً إلى تركيز نظام الطغيان والحزب الواحد)؛ أو من الناحية الثقافية (قمع كل التوجهات الثقافية المناوئة للمشروع التغريبي عبر التضييق على المساجد وتشريد العلماء ممن يعارضون توجهاته العلمانية بصورة علنية).. ولعل هذا ما يفسر إيقاف كل الصحف التي كانت تصدر في زمن الاستعمار، وعددها 25، وهو عدد كبير بالنسبة لشعب عدد سكانه لا يتجاوز المليونين حينها، ليحافظ على اثنتين من الصحف فحسب تسبّحان بحمده سياسياً وتنفذان أهدافه في نشر العلمنة المغلقة ذات الخلفية اليعقوبية ثقافياً.

لقد مكّنت هذه الأسس الثلاثة من بناء نظام سياسي استبدادي يتبنّى أشد أشكال العلمنة غلواً وتطرفاً، ويحتمي بالدولة باعتبارها العمود الفقري لتنفيذ كل مشروع تعليمي أو ثقافي يراد فرضه على الناس، فلم تكن الدولة محايدة في نظر بورقيبة ونظامه، وإنما هي بالأساس أداة لتنفيذ أهداف الحاكم المستبد، حيث لم تكن إرادة الدولة سوى إرادة صاحب السلطة ذاته (لم يكن التعليم يوماً محل استشارة شعبية أو نقاش عمومي بين أهل الشأن وذوي الاختصاص، وهو ما نراه متجسّداً في تكليف محمود المسعدي بتنفيذ سياسات محددة في بناء التعليم العمومي[8]، وعلى ذات المنوال سار بن علي تلميذ بورقيبة النجيب في تكليفه محمد الشرفي[9] بما سُمي تجاوزاً إصلاح التعليم).. وفي المقابل ظل الوجدان الشعبي العام، وخاصة لدى جماهير الهامش الاجتماعي، يحافظ على حد أدنى من التدين ويعادي بصور مختلفة التوجه العلماني، وهو ما خلق فصاماً واضحاً بين نخبة معلمنة ومتغربة تعادي الدين وترفضه وتطالب بإقصائه، وجماهير شعبية على اتساعها تناوئ هذا المشروع وترى فيه رديفاً للاستبداد، وكان أن خلقت هي بدورها مثقفيها ونخبها بل أحزابها السياسية التي تستجيب لتطلعاتها.

وبعد الثورة، وبعد انفجار الحريات واتساع مجال التعبير وحصول تغيير بقدر ما في هيكل السلطة؛ انفجر الصراع من جديد، وعلى الرغم من القوة الإعلامية التي يستند إليها العلمانيون، فقد وجدوا أنفسهم أيتاماً في غياب الدولة التي كانت تمثّل رديفاً لهم ينصرهم في أي صراع ويحقق لهم غاياتهم بقوة السلطان قبل قوة البرهان، وعلى الرغم من محاولات التوافق التي تحرص عليها أطراف مختلفة إسلامية وعلمانية معتدلة، فإن قوى الضغط العلماني (بجناحيها الليبرالي واليساري) ما زالت ترفض منطق التوافق وترجّح منطق المغالبة بصوره المختلفة، مستندة في ذلك إلى دعم غربي غير محدود لتوجّهاتها الثقافية؛ ليظل صراع الهوية قائماً بعد سنوات من الاستقلال، ويبقى طموح الشعب بعد الثورة حسم الأسئلة الاستراتيجية الحارقة بعد الإطاحة بالطغيان، وهذه الأسئلة تتعلق بالهوية وبالنمط المجتمعي وبالنظام التعليمي، أسئلة ينبغي حسمها في ظل إطار من التوافق العام ودون إقصاء، وفي ذات الوقت لا بد من الحفاظ على الثوابت التي تشكّل الهوية العامة للوطن حتى لا تستمر أزمة الهوية وتستفحل.

 

:: مجلة البيان العدد  318 صفر 1435هـ، ديسمبر  2013م.


 [1] من خطاب ألقاه الحبيب بورقيبة سنة 1973 (نقلاً عن كتاب «هل نحن أمة؟» ص 31، تأليف مهدي المبروك، دار البراق للنشر - تونس 1989).

[2] د. مهدي المبروك، «هل نحن أمة؟» ص 65.

[3] من خطاب ألقاه الحبيب بورقيبة (نقلاً عن المرجع السابق ص 66).

[4] يورد لطفي حجي في كتابه بورقيبة والإسلام: الإمامة والزعامة ما قاله بورقيبة في إحدى الخطب مقارناً نفسه بالرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول «إن الرسول اعتمد أسلوب العصا والجزرة، وإن الرسول الذي عاش في بيئة صحراوية رغّب الناس في الأنهار والجواري، والرسول كان أمياً في حين أني استفدت من تراث الحضارة الإنسانية على امتداد أربعة عشر قرناً.. وأما ما قمت به أنا فكان من جهدي الخاص ومن استعمال “المادة الشخمة“، في حين أن الرسول كان يأتيه الوحي».. (لطفي حجي، بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة، ص 182، دار الجنوب للنشر - تونس).

[5] لمزيد من المعلومات التفصيلية راجع كتاب “التربية والتحديث في تونس“، تأليف نور الدين عرباوي، دار الصحوة للنشر والتوزيع، 1990.

[6] بعد رفض التونسيين الاستجابة لطلب بورقيبة الإفطار في رمضان، يصف الصافي سعيد المشهد قائلاً “خاب أمل بورقيبة مرة أخرى في الشعب الذي أراد أن يقوده إلى الجنة بالسلاسل، وقال لوزيره الأول الباهي الأدغم: إن التونسيين يحبون السكن في الماضي“.. (بورقيبة.. سيرة شبه محرمة، ص 229، رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، نوفمبر 2000).

[7] هي أول منظمة طلابية تأسست بتونس سنة 1950.. قادت التحركات التي خاضها طلبة الجامع الأعظم وفروعه طيلة سنوات الاحتلال، وخاضت نضالات من أجل إصلاح التعليم من خلال تطويره، مع الحفاظ على مقومات الهوية، (من أشهرها: إضراب دام 7 أشهر بين شهري أبريل ونوفمبر 1950، وهو أطول إضراب طلابي في تاريخ تونس). وقدمت لجنة صوت الطالب الزيتوني شهيدين في سبيل الله، هما: محمد الدهماني حمزة (المهدية) ومحمد بن بلقاسم المرزوقي من نفزاوة (مظاهرات 15 مارس 1954). تم حل لجنة صوت الطالب بعد الاستقلال مباشرة. ومن أبرز رموز صوت الطالب الزيتوني الشيخ محمد البدوي العامري الذي حُكم عليه بالإعدام زمن بورقيبة، واضطر إلى مغادرة التراب التونسي، وأيضاً الشيخ عبد العزيز العكرمي الذي نفذ فيه بورقيبة حكم الإعدام بتهمة المشاركة في التخطيط لانقلاب سنة 1962.

[8] تولى محمود المسعدي وزارة التربية القومية سنة 1958، وقام بتنفيذ برنامج لإصلاح التعليم تم بمقتضاه إلغاء التعليم الزيتوني وإعطاء التعليم العام صبغة علمانية واضحة، خاصة مع اعتماد مشروع وضعه خبير فرنسي وعرف باسمه مشروع “جون دوبياس“.

[9] تولى وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي بداية من سنة 1989، وقام بتنفيذ مشروع لهيكلة التعليم ركز فيه على إضفاء مزيد من العلمنة على البرامج التعليمية الرسمية، والمعروف أن محمد الشرفي هو أحد رموز تيار اليسار الماركسي بتونس.

 

 

أعلى