الوحي الإلهي والانزلاقات الحداثية
تقوم
الأديان السماوية المنزَّلة من عند الله على ركيزة أساسية تعد المكون الصلب
لجوهرها وروحها، وهي قضية الوحي الإلهي؛ فالمعنى الأصلي لكونها أدياناً إلهية أن
الله هو الذي أنزلها وأوحاها إلى أشخاص من البشر ليبلغها إلى بني جنسهم، وأن البشر
ليس لهم أثر في هذه الديانة إلا في التلقي والعمل فقط.
وتقوم
حقيقة الوحي في العقائد الإسلامية على أنه إعلام وإخبار من الله تعالى لأحد من
خلقه عبر واسطة المَلَك بمعاني التشريع والدين الذي يريد الله من عباده في الأرض
العمل به والأخذ بقوانينه.
وهذا يدل
على أن ظاهرة الوحي مكونة من أربعة أمور أساسية: المرسِل، وهو الله تعالى،
والواسطة في إيصال الرسالة، وهو في الأصل جبريل، ومستقبل الرسالة، وهو النبي في
الأرض، ومضمون الرسالة، وهو الدين المنزَّل بشرائعه وأحكامه المختلفة.
فمصدر
الوحي في التصور الإسلامي ومنبعه الوحيد ومنطلقه وابتداؤه من الله تعالى لا من أحد
سواه.
وهذا
المعنى صريح جداً في القرآن الكريم، وهو من أقوى المعاني ظهوراً في آياته، ومن
أصرح النصوص القرآنية المؤكدة لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن
يُكَلِّـمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
فهذه الآية
صريحة غاية الصراحة في الدلالة على أن الله هو مصدر الوحي، وأنه هو الذي يحدد
طريقته وطبيعته، وأن الأنبياء من البشر ليسوا إلا متلقين له فقط.
وإذا كانت
حقيقة الأمر كذلك، فإن الوحي في التصور الإسلامي واقعة مستقلة عن داخل النبي وعن
مشاعره وعواطفه، والنبي ليس هو المنتج للوحي، وليس له أي أثر في إحداثه وتحديد
طبيعته، وإنما هو مستقبِل له من عند الله تعالى فقط، وتنحصر وظيفته في حفظ الوحي
وتبليغه إلى الناس كما أمره الله على أكمل وجه وأتمّه.
وهذا يعني
بالضرورة أن النبوة ليست حادثة مكتسبة يمكن للنبي أن يكتسبها باجتهاده أو ذكائه أو
بلاغته، وإنما هي اختيار واصطفاء من الله تعالى لأحد من خلقه.
وإذا لم
يكن للوحي مصدر إلا الله وحده، فإن هذا يعني في التصور الإسلامي أن حقيقة الوحي
خارجة عن الزمان والمكان، بمعنى أنها لا تتأثر في أساسها بالمتحيّزات الزمكانية -
الزمان والمكان -؛ لأن مصدره ومنزِّله متعالٍ على كل الظروف الزمانية والمكانية
المخلوقة.
وهذا يعني
بالضرورة أن القرآن ليس منتجاً ثقافياً متأثراً بالظروف المحيطة به التي كان
يعيشها النبي أو قومه في ذلك الزمان؛ لأن القرآن نازل إليهم من مكان آخر غير
مكانهم، ومصدره الله تعالى الذي أحاط بكل شيء علماً.
وهذه
الحقائق المتعلقة بالوحي لم تكن خافية على علماء الإسلام المتقدمين، فقد تحدثوا عن
حقيقة الوحي وتناولوها بالبحث والنقاش من جهات عديدة: من جهة مفهوم الوحي والأدلة
العقلية الدالة على إمكانه من جهة العقل، وكذلك الأدلة العقلية الدالة على تحقق
الوحي في النبي المعين، ومن جهة لوازمه ومقتضياته وطبيعته، وتناولوا التصورات
الخاطئة التي أقامها بعض الناس عن الوحي، وقاموا بنقدها والكشف عما فيها من أغلاط[1].
وأنتجوا
تراثاً ضخماً حول هذه القضايا وغيرها، وناقشوا كل من خالف في حقيقة الوحي، سواء
ممن كان ينكر أصل إمكان وجود الوحي، كالبراهمة والماديين، أو كان ممن ينكر نزول
الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، كاليهود والنصارى وغيرهم، أو ممن كان يقرّ
بنزول الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنه يفسره بتفسير يرجعه إلى القوى
النفسية والبلاغية، كالفلاسفة المليين وغيرهم[2].
ولم ينقطع
البحث في الوحي وحقيقته عند علماء المسلمين، فحين قام بعض النصارى والمستشرقين
بإثارة الاعتراضات على نبوية النبي صلى الله عليه وسلم وسعوا إلى التشكيك في حقيقة
الوحي الذي نزل عليه؛ قام عدد كبير من العلماء والمفكرين المسلمين بالتصدي لتلك
الهجمة، ونقضوا تلك الاعتراضات، وكشفوا عما فيها من خلل معرفي ومنهجي، وتوسع
حديثهم عن الوحي وقضاياه، وتضخم منتجهم كثيراً.
التصوّر
الحداثي لحقيقة الوحي:
يحرص
الخطاب الحداثي كثيراً على عدم إظهار الإنكار الصريح والمباشر للأصول الدينية التي
يعمل بها المسلمون منذ عهد النبوة، وإنما يكرر دوماً بأن لديه فهماً جديداً
وتصوراً حداثياً لتلك الأصول، وأن لديه رؤية مختلفة عما كان عليه الأولون في
التعامل مع مضامين الشريعة وأصولها الكبرى، ويزعم أن هذه الرؤية هي التي ستحقق
للمسلمين التقدم والرقي الحضاري.
وفي خصوص
قضية الوحي يكرر الخطاب الحداثي كثيراً القول بأن هناك رؤيتين مختلفتين للوحي:
الأولى: الرؤية التقليدية السطحية التي تتعامل مع الوحي على أنه حقيقة خارجة عن
الواقع ومتعالية عليه، وأنها نازلة من السماء إلى الأرض! والثانية: الرؤية
الحداثية الواعية العميقة التي تنظر إلى الوحي نظرة مختلفة عن تلك النظرة
البدائية، وتفسره تفسيراً يتناسب مع متغيرات التاريخ والثقافة[3]!
وأتباع
الخطاب الحداثي لا يصرحون بكذب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى نزول الوحي عليه،
بل يسلّمون بذلك ويظهرون التصديق به، لكن يتفق كثير منهم على أن الوحي ليس حقيقة
خارجة ومنفصلة عن الحيز الإنساني الأرضي، وأنه ليس كله نازلاً من المنبع الإلهي
المطلق، وإنما هو حادثة متأثرة بالطبيعة الإنسانية، وممتزجة بالأمزجة البشرية،
ومختلطة بالأبعاد النفسية والثقافية التي كان يعيشها النبي في ذلك الزمان.
وبعد
اتفاقهم على هذا القدر لمفهوم الوحي وطبيعته، اختلفوا في تقديم التفسير الذي يقارب
ظاهر الوحي في تصوّرهم، واختلفت عباراتهم وتنوعت مقالاتهم في الكشف عن تصورهم
الجديد للوحي.
فمنهم من
يجعل الوحي عبارة عن حالة يعيشها النبي تفيض عليه من خلالها المعاني الدفينة التي
كان يعيشها في حياته، فالوحي عند عبد المجيد الشرفي «حالة استثنائية يغيب فيها
الوعي، وتتعطل الملكات، ليبرز المخزون المدفون في أعماق اللا وعي بقوة خارقة لا
يقدر النبي على دفعها ولا تتحكم فيها إرادته!»[4].
وأما محمد
أركون فإنه لا يفتأ يكرر دوماً أن هناك مفهوماً تبسيطياً للوحي، شائعاً ومنتشراً
في السياقات الإسلامية، ثم يظهر الحسرة والتألم على شيوع هذا المفهوم التقليدي،
ويذكر أنه يهدف من خلال دراساته «إلى زحزحة مفهوم الوحي وتجاوزه، أقصد: زحزحة
وتجاوز التصور الساذج التقليدي الذي قذفته الأنظمة اللاهوتية»[5].
ويؤكد أن
من أهدافه المحورية إضفاء الأشكلة على مفهوم الوحي، أي: جعل الوحي إشكالية معرفية
بعد أن كان يبدو بدهياً في السياقات الإسلامية، ويؤكد أن هذه الأشكلة هي الخطوة
الأولى إلى تأسيس معنى جديد للوحي[6].
ويتألم لأن
الفكر الغربي توصّل إلى مفهوم تاريخي للوحي أزاح به المفهوم التقليدي السطحي
للوحي، وحوّله إلى تربة إنسانية متأثرة بالظروف الاجتماعية المحيطة بالنبي؛ بينما
الفكر العربي لم يتوصّل إلى تلك النتيجة حتى الآن، ويذكر عن نفسه أنه يسعى إلى
تفسير الوحي بأنه «حدوث معنى جديد في الفضاء الداخلي للإنسان»[7].
والوحي عند
أركون لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية «تظهر فيها لغة جديدة لكي تعدل جذرياً من
نظرة الإنسان عن وضعه وعن كينونته في العالم، وعن علاقته بالتاريخ وعن فعاليته في
إنتاج المعنى»[8].
وإذا كان
الأمر كذلك، فلا فرق إذن بين الإسلام وغيره من الأديان الوضعية، وفي التصريح بذلك
يقول أركون: «تحديدنا الخاص عن الوحي يمتاز بخصيصة، وهي أنه يستوعب بوذا
وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة، وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية
لفئة بشرية ما من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد»[9].
وأما نصر
حامد أبو زيد، فإنه يذهب إلى أن للخيال الإنساني أثراً بارزاً في النبوة والوحي،
ويقول: «إن تفسير النبوة اعتماداً على مفهوم الخيال معناه أن ذلك الانتقال من عالم
البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية المخيلة الإنسانية التي تكون
في الأنبياء – بحكم الاصطفاء والفطرة – أقوى منها عند من سواهم من البشر، فإذا
كانت فاعلية الخيال عند البشر العاديين لا تتبدى إلا في حالة النوم وسكون الحواس
عن الاشتغال بنقل الانطباعات من العالم الخارجي إلى الداخلي، فإن الأنبياء
والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم
على السواء، وليس معنى ذلك – بأي معنى من المعاني – التسوية بين هذه المستويات من
حيث قدرة المخيلة وفاعليتها، فالنبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يليه الصوفي، ثم
يأتي الشاعر في نهاية الترتيب»[10].
وإثباته
لذلك الأثر الخيالي يعد أحد المبررات التي حكم من خلالها على أن القرآن يجب أن
يكون منتجاً ثقافياً، وليس نصاً متعالياً على الواقع وسالماً من الامتزاج
بتغيراتها الاجتماعية والثقافية[11].
ولو أخذنا
نتتبّع الخطاب الحداثي سنجد نصوصاً كثيرة تتفق مع المعاني السابقة، وتؤكد الرؤية
التي تذهب إلى أن الوحي ليس ظاهرة متعالية على الواقع الإنساني، وأنه ليس سالماً
من الامتزاج بظروفه التاريخية، وأنه ليس حالة مستقلة كل الاستقلال من حيث المصدر
والمنبع.
ومع ذلك،
فقد يجد القارئ نصوصاً قليلة جاء فيها التصريح بإلهية مصدر الوحي، وأن الوحي قادم
من عند الله[12]، لكن هذه التصريحات مذكورة على استحياء، ثم هي لا
تساوي ولا تقارب التصريحات الذاهبة في الطرف الآخر.
والقاعدة
الأساسية التي تكاد تكون مشتركة بين كل أو جُلّ الخطابات الحداثية، هي تغليب الجانب
الفيزيقي الحسي على الجانب الميتافيزيقي الغيبي، والارتكاز على النزعة المادية،
والنظر من نافذتها إلى قضية الوحي، وينجلي ذلك بصورة قوية في نزعة الأنسنة، التي
تجعل الإنسان مركز الكون، ومصدر المبادئ والأفكار والمفاهيم، وهذه النزعة منبثقة
بشكل أساسي من طغيان النزعة المادية على التفكير الإنساني.
والهدف
المركزي الذي كان وراء حرص كثير من الحداثيين العرب على إثبات الأثر الإنساني في
أصل الوحي، وإزالة الصبغة الإلهية والمصدرية الربانية عنه، وإزالة صفة الإطلاق،
وتجاوز الظروف الزمانية والمكانية؛ هو تأسيس المشروعية للهدف المحوري لمشروعهم،
الذي يتمثل في إثبات تاريخية الأديان وتأثرها بالأحوال الحياتية والاجتماعية
والثقافية، فهذه الفكرة هي قطب الرحى في المشروع الحداثي وحجر الزاوية فيه.
والمواقف
التي ذهب إليها كثير من أتباع الخطاب الحداثي في حقيقة الوحي، ليست جديدة، ولا هي
من اختراعه، إنما هي مبثوثة ومنتشرة في كتب الفلاسفة المليين في التاريخ الإسلامي،
وقد حرص بعض أتباع الخطاب الحداثي على أن يعضد موقفه بأقوالهم، وسعى إلى إثبات أن
قوله له امتداد تاريخي في الفكر الإسلامي؛ وكذلك هي مبثوثة ومنتشرة في كتب
المستشرقين المعاصرين[13].
تقويض
الرؤية الحداثية للوحي الإلهي:
إن القارئ
المتأمّل في المنتج الحداثي يلحظ بصورة واضحة أن ذلك الخطاب ليس مهموماً بتتبّع
الوحي الإلهي وما جاء به، وليس لديه حرص على دراسة أحكامه ولا معرفة مراداته، ولا
هو حريص على التعمق في فهم تفاصيل العبادات والأحكام التي جاء بها، إنما اشتغلوا
بالوحي دفعاً للمعارضة عن مشروعهم، ومحاولة منهم لكسر ما يقف دون التجديد الفكري
الذي يسعون إلى تطبيقه في الفكر الإسلامي بعد أن استعاروه من الفكر الغربي
واقترضوه من أسواقه.
فكثير من
رجال الخطاب الحداثي ليس لديه معرفة تفصيلية بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
من الوحي، ولا خبرة في إدراك ماهية ما قام به النبي من تبليغ الأحكام، ولا يملك
عمقاً في سبر هوية الدين الحقيقية، وليس لديه معرفة بالمصادر التي يقوم عليها
الفكر الإسلامي.
وقد أدى
بهم هذا القصور المعرفي السحيق إلى أن يتبنّوا تصورات عن الأصول الإسلامية – ومنها
الوحي – هشة غير متماسكة في نفسها، ولا في أدلتها، وبعيدة كل البُعد عن الحقيقة
والواقع.
وهم بذلك
لا يختلفون عن الفلاسفة المليين الذين ظهروا في الفكر الإسلامي، بل بعض أولئك
الفلاسفة أفضل منهم في معرفة ما جاء به الرسول من الدين والعلم.
وإذا نحن
قمنا بالفحص المعرفي للتصور الذي يقدمه الحداثيون العرب عن الوحي، وأثرنا حوله
أسئلة المنهج العلمي؛ فإننا سنجد ذلك التصور لا يتطابق مع أصل الإقرار بنزول
الوحي، ولا يتفق مع مدلولات النصوص الشرعية القطعية، ويتنافر كل التنافر مع طبيعة
الدعوة النبوية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. وإثبات ما في موقف الخطاب
الحداثي من انزلاقات عن الرؤية الصحيحة وبعد عن الحقيقة، وما في قولهم من معارضات
للدلائل العقلية والتاريخية؛ يمكن أن يثبت من خلال منافذ وطرق عديدة. وسأقتصر هنا
على خمسة طرق تدل بمجملها على هشاشة التصور الحداثي عن الوحي، وعلى انحرافه
وفقدانه الصحة.
الطريق الأول: إن القارئ
للمنتج الحداثي يدرك بوضوح أن ذلك الخطاب لا يمتلك الجدية البحثية في التعامل مع
ظاهرة الوحي، ولم يعطها قدرها من النظر والتدقيق والبحث، وقد قفز على كل المعطيات
التاريخية الثانية المتعلقة بالوحي، التي تشرح تفاصيله وتبيّن حقيقته، وطفق يتعامل
مع الوحي وكأنه ظاهرة مغمورة في التاريخ الإسلامي، أو أنه حالة لا يوجد لدى
المسلمين أي نص أو خبر يختص بها أو يذكر تفاصيلها أو ينقل مقدماتها وأحوالها
وظروفها.
ومع أن
الحقيقة غير ذلك، فقد شرح الصحابة حالة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي
عليه، وحالته صلى الله عليه وسلم أول ما نزل الوحي إليه، ووصفوا حاله وما أصابه من
الخوف والاستغراب والدهشة، وشرحوا الظروف والأحوال التي كان ينزل فيها الوحي على
النبي صلى الله عليه وسلم.
بل إن
الخطاب الحداثي قفز على التفاصيل المتعلقة بالوحي الواردة في القرآن، وكأنه لا
وجود لها، وأي قارئ للقرآن يجد أنه تضمّن تفاصيل وأفكاراً تبيّن حقيقة الوحي وتؤكد
تأكيداً قوياً أنه منزل من عند الله، وأن الله هو الذي يختار من يشاء، وأن النبي
مجرد متلقٍّ، وأن طرق الوحي إلى النبي مختلفة، بل قد تكرر في القرآن التأكيد على أن
الوحي منزل من الله أكثر من مائة مرة!
وكل تلك
التفاصيل تدل عند المصدق بالقرآن والمؤمن به، على أن الوحي النازل إلى النبي لم
يكن نتيجة حالته النفسية التي كان يعيشها، ولا هو نتيجة لقوة مخيلته وحدة ذكائه،
وإنما هو معانٍ ومعارف نازلة من الله إلى نبيه في الأرض.
الطريق الثاني: أن القرآن تضمّن معارف وعلوماً يستحيل أن يتحصّل
عليها أي شخص بقوة عقله أو حدة ذكائه، ويستحيل أن يتكوّن نتيجة حالة نفسية يعيشها
النبي، فقد اشتمل القرآن على أخبار تفصيلية عن الأمم والجماعات والأنبياء والأحداث
التاريخية السابقة لزمانه بمدة زمنية بعيدة في أغوار التاريخ، ولم يعاصر النبي صلى
الله عليه وسلم تلك الأحداث ولم يتعلّمها في حياته.
ومن تلك
المعارف: بعض الأرقام الحسابية، وبعض الأعداد الدقيقة، كما جاء في قصة نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى
قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ
الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِـمُونَ} [العنكبوت: ٤١]، وجاء في
قصة أصحاب الكهف: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}
[الكهف: ٥٢]، وكذلك تضمّن القرآن أسماء تفصيلية للرجال والأمم
والقرى والقبائل[14].
وكل هذه
الأمور لا يمكن الوصول إليها عن طريق قوة الذكاء ولا سعة المخيلة، ولا عن طريق
التجربة الحياتية اليومية.
وقد أحسن
محمد عبد الله دراز في تعليقه على الموقف الذي يفسر الوحي بالمصدر النفسي، حيث
يقول: «وهذا الرأي هو الذي يروّجه الملحدون اليوم باسم (الوحي النفسي)، زاعمين
أنهم بهذه التسمية قد جاؤوا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي
القديم لا يختلف عنه في جملته ولا تفصيله، فقد صوّروا النبي صلى الله عليه وسلم
رجلاً ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذاً شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى
كثيراً على حواسه حتى يخيّل إليه أنه يرى ويسمع شخصاً يكلمه، وما ذاك الذي يراه
ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذاً مجنون أو أضغاث أحلام، على أنهم لم
يطيقوا الثبات طويلاً على هذه التعليلات، فقد اضطروا لأن يهجروا كلمة الوحي النفسي
حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلية!»[15].
الطريق الثالث: من الأمور
الظاهرة في القرآن اختفاء شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ففي أكثر الأوقات
لا يذكر شيئاً عن نفسه، ويتجرد تماماً من الإشارة إليها، وعندما يورد شيئاً عن
ذاته فإنما يذكره لكي يحكم على نفسه أو يضبط سلوكه أو يسيطر عليه، وفيما يتعلق
بأفراحه وأحزانه، فإننا نعلم كم كان حزنه لوفاة أبنائه وأصدقائه وأصحابه، حتى أطلق
عام الحزن على السنة التي مات فيها عمه وزوجته، وفقد بفقدهما العون المعنوي الذي
كان يسانده، ومع ذلك كله لا نجد في القرآن أي صدى لهذه الأحداث الأليمة[16] وهي من
أشد ما يؤثر في النفوس البشرية.
فلو كان
القرآن/ الوحي يتأثر بحالة النبي صلى الله عليه وسلم النفسية أو العقلية، أو كان
لحدة ذكائه أو لطبيعة حياته اليومية أو لقوة مخيلته أثر فيما جاء به من الوحي؛
لظهر ذلك جلياً في القرآن، خاصة في مثل تلك الأحوال الاستثنائية، فعدم وجود مثل
تلك الآثار دليل على أن مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم ودواخله ليست مصدراً للوحي
وليس لها أثر فيه، وإنما هو حقيقة نازلة عليه من الله في السماء.
الطريق الرابع: أن نبوة
النبي صلى الله عليه وسلم ليست منحصرة في القرآن فقط، وإنما هي حالة مركبة من
تشريعات ومعجزات كونية وحسية وأحوال أخلاقية ونفسية مختلفة، واجتماع كل هذه الأمور
يستحيل أن يكون حاصلاً بسبب قوة المخيلة أو حدة الذكاء أو عن طريق التجربة
الإنسانية.
فمن
المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء نبوته جاء بمعجزات كونية كثيرة، كانشقاق
القمر وخروج الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وإشفاء بعض الأمراض، وغيرها من
الأحوال الخارجة عن المعهود البشري، وهذه الأمور – وإن حاول بعض الحداثيين التشكيك
فيها – مشهورة ومتواترة جداً، ومن المتعذر التشكيك في صحتها بأدلة صحيحة.
والإتيان
بمثل هذه الأمور يستحيل أن يكون ناتجاً عن التجربة الحياتية أو عن قوة المخيلة أو
حدة الذكاء، وفي الكشف عن هذا المعنى يقول ابن تيمية في معرض نقده لموقف الفلاسفة
الذين أرجعوا النبوة إلى قوى النفس: «إثبات قوى النفوس لا يوجب مثل هذه الآثار -
المعجزات الحسية -، ولا ريب أن المعجزات المعلومة عند المسلمين واليهود والنصارى
مما اتفق الناس على أن قوى النفوس لا تقتضيها، والفلاسفة يسلمون ذلك»[17].
والمشكل
المنهجي عند الخطاب الحداثي أنهم في أثناء حديثهم عن الوحي يتعاملون مع النبوة
والوحي على أنه حدث مفرد متمثل في القرآن فقط، بينما النبوة في الحقيقة ظاهرة
مركبة من المعاني المنزلة من الله، ومن البراهين الحسية والعقلية التي يسوقها الله
لتأييد نبيه، ومن الأحوال الأخلاقية والنفسية والروحية التي يعيشها النبي صلى الله
عليه وسلم.
الطريق الخامس: أن الدارس
لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها أحيطت بأمور وأحداث قبل النبوة وأثناءها
تدل دلالة ظاهرة على أن الوحي الذي نزل إليه لم يكن مصدره نفس النبي صلى الله عليه
وسلم ولا مشاعره ولا عقله ولا تجربته، وإنما هو حقيقة مستقلة عن ذاته نازلة إليه
من الله في السماء.
فقبل مولده
صلى الله عليه وسلم حدثت واقعة الفيل، التي أكرم الله بها الكعبة وأظهر بها شرف
بيته المعظم، وحديث أهل الكتاب المكثف عن خروج نبي في ذلك الزمان، «وكذلك ما حصل
من الحوادث حين مولده صلى الله عليه وسلم، وكذلك إخبار الكهان بأموره، وما صارت
الجن تخبرهم به من نبوته، أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته، وكذلك ما أخبر به
أهل الكتاب وما وجد مكتوباً عند أهل الكتاب من إخبار الأنبياء المتقدمين بنبوته
ورسالته وأمر الناس باتباعه، أمور خارجة عن قدرته وعلمه وإرادته»[18].
فهذه
الحوادث تدل على أن النبوة التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن راجعة
إلى تجربته الحياتية ولا إلى قوة مخيلته، وإنما هي اصطفاء واختيار إلهي وإعداد
وترتيب رباني، ولهذا تهيأت لها كل الظروف والأحوال المناسبة.
الطريق السادس: أن الوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن خاضعاً لإرادته ولا لاختياره ولا لرغبته، فلم يكن توقيت نزول الوحي أو
تحديد مكانه وحالته خاضعاً لإرادة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ملبياً
لمطالبه وحاجاته في وقت الاحتياج، فقد ابتلي في عرض زوجته، وهو من أعظم البلاء
الذي يمكن أن يصاب به الإنسان، وكذلك سئل أسئلة فلم يعرف جوابها، وكذلك مرت به
وقائع لم يعرف فيها الحكم، ومع ذلك لم ينزل عليه الوحي إلا متأخراً، فلو كان الوحي
خاضعاً لقوة مخيلة النبي أو لتجربته الشخصية أو لحدة ذكائه أو لرغبته، لبادر النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الدفاع عن زوجته مباشرة، أو لأجاب عن تلك الأسئلة مباشرة؛
دفعاً للحرج عن نفسه.
وفي بعض الأحوال
يأتيه الوحي في لحظات تدل حاله على أنه لم يكن مستعداً له ولا منتظراً له ولا
طالباً له[19].
وكل هذه
الشواهد تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له تأثير في الوحي، لا من جهة
مشاعره ولا عواطفه، وإنما هو متلقٍّ له ومبلغ له عن الله فقط.
وهناك
براهين أخرى كثيرة تؤكد أن الوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له
مصدر إلا الله تعالى، وتدل على بطلان وخطأ كل التفسيرات الأخرى التي قدمها الخطاب
الحداثي وغيره عن ظاهرة الوحي.
والنتيجة
التي تتفق عليها كل تلك البراهين – ما ذُكر منها وما لم يُذكر – أن الرؤية التي
يقدمها الخطاب الحداثي عن الوحي لا يمكن أن تكون ممثلة للوحي الإلهي، ولا يمكن أن
تجتمع مع دلالات القرآن والبراهين العقلية، ولا مع حال النبي صلى الله عليه وسلم
في نبوته؛ وإنما هي في ميزان القرآن والسنة كفر وضلال وانحراف عن سواء السبيل.
فكيف يصح
مع ذلك أن يفسَّر بها ظاهرة الوحي الإلهي في الأديان مع أن القرآن ذاته يدل على
إبطالها؟! وكيف يصح أن يقول بها من يظهر الإيمان بالقرآن وبصحة النبوة؟!
فمع الرؤية
الحداثية ليس لنا إلا واحد من خيارين: إما أن نحكم ببطلان وخطأ النظرة الحداثية في
تفسير الوحي ونأخذ بما يدل عليه القرآن والأدلة التاريخية، وإما أن نأخذ بالنظرة
الحداثية ونضرب بقواطع القرآن والبراهين العقلية عرض الحائط!
إن من يفسر
الوحي الإلهي بالتفسير الحداثي هو كمن يفسر كلام أرسطو في الكون والطبيعة بأنه كان
يصف دواءً لبعض الأمراض في زمنه! أو كمن يفسر كلام المتنبي في مدح سيف الدولة بأنه كان
يقصد شرح بعض النظريات الفيزيائية!
وإذا كنا
لا يمكن أن نوفّق بين هذه التفسيرات لكلام أرسطو والمتنبي وبين مقصدهما الحقيقي،
فإنه لا يمكن أن نوفق بين التفسير الحداثي للوحي وبين حقيقة الوحي الإلهي كما يدل
عليها القرآن.
وحين كان ابن تيمية يناقش مذهب الفلاسفة المليين في
تفسير النبوة – وهو لا يختلف عن تفسير الحداثيين للوحي –، أعلن المفاصلة التامة مع
مذهبهم، فقال: «ومن عرف مذهبهم وعرف ما قالته الرسل، علم بالضرورة أن ما يقولونه
مخالف لما يقوله الرسل لا موافق له، فيلزم إما تصديق الرسل وتكذيبهم، وإما تكذيب
الرسل وتصديقهم»، وكذلك الحال مع التفسير الحداثي للوحي، فإنه ليس لنا معه إلا
واحد من حالين: إما أن نصدق تفسيرهم ونكذب أدلة القرآن والعقل، وإنما أن نصدق أدلة
القرآن والعقل ونكذب تفسيرهم.
::
مجلة البيان العدد 318 صفر 1435هـ،
ديسمبر 2013م.
[1] انظر: معجم
الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي، عبد الله الحبشي، (2/1256) و(2/1338).
[2] انظر: تثبيت دلائل
النبوة، القاضي عبد الجبار، وإثبات نبوة النبي، أبو الحسن اليزيدي، والصفدية، ابن
تيمية، وغيرها.
[3] انظر: القرآن من
التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، (17)، والعلمانيون
والقرآن، أحمد الطعان،
(669).
[4] الإسلام
بين الرسالة والتاريخ
(40).
[5] القرآن من
التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (76).
[6] انظر: المرجع السابق (28).
[7] الفكر
الإسلامي نقد واجتهاد
(83).
[8] المرجع
السابق
(83).
[9] المرجع
السابق
(84).
[10] مفهوم
النص (49).
[11] انظر: المرجع السابق (27).
[12] انظر: موقف
الليبرالية العربية من محكمات الدين، صالح الدميجي، (237).
[13] انظر: آراء المستشرقين
حول القرآن الكريم وتفسيره، عمر رضوان، (1/381-405)، ووحي الله.. حقائقه
وخصائصه، حسن ضياء الدين عتر، (139-205)، والعلمانيون والقرآن، أحمد الطعان، (627).
[14] انظر: النبأ العظيم،
محمد عبد الله دراز،
(39-45)، ومباحث في علوم القرآن، مناع القطان، (43).
[15] النبأ
العظيم، محمد عبد الله دراز، (84).
[16] انظر: مدخل إلى
القرآن الكريم، محمد عبد الله دراز، (181).
[17] الصفدية (1/163).
[18] الصفدية،
ابن تيمية،
(1/219).
[19] انظر: مصادر المعرفة
في الفكر الديني والفلسفي، عبد الرحمن الزنيدي، (150).