• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مكاسب إقليمية محتملة بين ثنايا «الغَزَل الإيراني»

مكاسب إقليمية محتملة بين ثنايا «الغَزَل الإيراني»


 أحدثت المكالمة الهاتفية بين حسن روحاني، الرئيس الإيراني المنتخب حديثاً، وبين الرئيس الأمريكي باراك أوباما؛ جلبة كثيرة على الساحتين الدولية والإقليمية، فيما اعتبره مراقبون أنه «غزل إيراني» للولايات المتحدة؛ حيث إنها مثلت علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين البلدين، كما أنها اعتُبرت مؤشراً على انفراجة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الإيرانية. لكن تلك المكالمة أغضبت أطرافاً إقليمية أخرى؛ لأنها قد تمثّل من الجانب الآخر تحولاً في المنظومة الأمنية قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، لا سيما بالنسبة للمنظومة الخليجية، وأيضاً الكيان الصهيوني.

فتلك المكالمة لم تكن حدثاً عابراً منبتاً عن السياقين الإقليمي والدولي، فقد لمست دول الخليج العربية تحولاً في المواقف الأمريكية فيما يتعلق بإقليم الشرق الأوسط؛ بداية من انحسار الاهتمام الأمريكي بالمنطقة الذي تزامن مع انسحابها من العراق وتسليمه فعلياً لدائرة النفوذ الإيرانية، وما أعقبه من رفع يد الولايات المتحدة في حقبة أوباما عن ملف القضية الفلسطينية وسلام الشرق الأوسط، وانتهاءً بما مثّل ضربة قاصمة للقوى الخليجية، وهو عدم إيفاء الولايات المتحدة بوعدها بضرب نظام بشار الأسد في حالة تخطيه الخط الأحمر واستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد شعبه.

وتلك الخطوة الأخيرة استدرّت غضباً سعودياً تمثل في عدم إلقائها كلمتها في الأمم المتحدة، وكذلك رفضها مقعداً في مجلس الأمن، وتلك الخطوات الاحتجاجية تعد مؤشراً على مدى وصول العلاقات الأمريكية - السعودية إلى منحنى حرج؛ فيما تتصاعد أصوات من داخل المملكة ومقرّبة من النظام الحاكم بأن الوقت قد حان لكي تعتمد السعودية على نفسها دون الالتفات إلى الولايات المتحدة، وأن تكون لها سياستها الخارجية المستقلة، وأن تتصرف كما لو أن أمريكا غير موجودة في المنطقة، وحينئذ ستتبع الولايات المتحدة سياسة السعودية في المنطقة وليس العكس، وذلك استباقاً لإمكانية قيام تحالف غربي إيراني محتمل أو صفقات سرية يتم عقدها ضد مصلحة دول الخليج.

لذلك؛ فإن الصورة الأوسع لتلك المكالمة التاريخية بين الرئيسين الأمريكي والإيراني، هي أن المنطقة يعاد تشكّلها وفقاً للمصلحة الإسرائيلية من جديد: انسحاب أمريكي من أجل ملاحقة القضايا الأخطر على الأمن الأمريكي في المحيط الهادئ، وترك المنطقة تتجاذبها الأطراف السنية الشيعية، وتعادل القوة بين الفريقين سيحقق الأمن لإسرائيل وسيبعد غبار المعارك عنها، فيما تدور رحى الصراع الإقليمي بعيداً عن ساحتها الخلفية، وذلك لن يتم بالأساس إلا في إطار صفقة أمريكية إيرانية.

فإيران تلعب دوراً وظيفياً مهماً لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، فبعد التلاحم العربي في حرب أكتوبر 1973 ضد الكيان الصهيوني، بزغت إيران بعد ثورتها عام 1979 كثقل موازن لدول الخليج والعراق، وتحول الاهتمام إلى مواجهة ذلك الخطر القادم من الشرق، واستنزفت منذ ذلك الوقت قدرات تلك الدول، سواء في حرب طاحنة بين العراق وإيران، أو في سباق التسلح الذي تلا ذلك وكان للولايات المتحدة النصيب الأكبر من تلك الصفقات التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

واليوم، فإنه في غير المصلحة الأمريكية أن تنهار إيران اقتصادياً إلى حد الكسر وزوال ذلك «البعبع الشرقي» الذي يسحب العرب بعيداً عن إسرائيل، فقد أثبتت العقوبات الاقتصادية الغربية فعاليتها على قطاعي الطاقة والبنوك الإيرانية، وتصاعد أنين الشعب الإيراني من تلك العقوبات إلى الحد الذي جعله يستغيث في النهاية بالمرشح الإصلاحي حسن روحاني، والذي نجح من الجولة الأولى متفوقاً بفارق شاسع عن أقرب منافسيه الأكثر تشدداً وقرباً من خامنئي؛ فقد جاء روحاني ببرنامج يدفع التعاون الغربي والتعايش في المنطقة مع دول الجوار وإنعاش الاقتصاد، مع الاحتفاظ بحقوق بلاده في تخصيب اليورانيوم، الذي يعد خطوة من أجل تعزيز نفوذ بلاده الإقليمي.

لذلك؛ فإن رؤية روحاني هي أن القدرات النووية وسيلة وليست غاية، فالنفوذ الإقليمي هو الغاية، لكن في تلك الحالة فماذا ستفعل الوسيلة «السلاح النووي» للنفوذ الإقليمي إذا انهار الاقتصاد وأصبحت إيران دولة على حافة الانهيار السياسي والمجتمعي على حد سواء؟ لذلك جاءت تلك المكالمة التاريخية لتدشن عصراً جديداً في العلاقات بين إيران والغرب، وذوبان الجليد في العلاقة بين البلدين أزعج الأطراف الخليجية التي رأت الصورة تتشكل في غير صالحها.

فعلى النطاق الأوسع للصورة أيضاً أضيف محدد جديد للمعادلة، وهو أمن الطاقة الأمريكي؛ فبعد اكتشاف مخزونات هائلة من الغاز الصخري الأمريكي، والتي ربما تجعل الولايات المتحدة من أكبر مصدري الطاقة في العالم، وتوقعت وكالة الطاقة الدولية، التي تمثل مصالح الطاقة لأغنى 35 دولة في العالم، أن تصبح الولايات المتحدة أول منتج عالمي للنفط بعد أربع سنوات، متجاوزة السعودية وروسيا، وأنها ستحقق الاستقلالية على مستوى الطاقة بحلول عام [1]2023؛ فإن الاهتمام الأمريكي المستقبلي بالمنطقة بدا أنه في طريقه للتراجع، لا سيما أن الصين أيضاً اكتشفت مخزونات هائلة من ذلك الغاز، وهو ما سيجعل المعادلة كالتالي: انحسار أهمية الشرق الأوسط كمصدر للطاقة والمشكلات معاً، وزيادة قدرة الصين المستقبلية على أن تهدد عرش الولايات المتحدة بعد أن أصبحت عملاقاً اقتصادياً وأثبتت قدرتها على التصنيع العسكري، واليوم ستصبح لديها مخزونات هائلة من الطاقة أيضاً، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تبدأ الاهتمام بذلك المارد الجديد الذي بدأ بالتشكل، وتنتقل أولويات الأمن القومي الأمريكي إلى البحر الأصفر وإلى شرق آسيا وإلى كيفية إحاطة ذلك المارد قبل أن يخرج من قمقمه.

لذلك من المصلحة الأمريكية وهي تغادر الشرق الأوسط، أن تنظر إليه من بعيد وهو يحطم بعضه بعضاً، وأن يسهم توازن القوى في حفظ أمن إسرائيل بالحفاظ على النفوذ الإقليمي الإيراني، الذي يلعب دوراً وظيفياً كمثل ذلك الذي يلعبه نظام بشار في سورية، لذلك كان تأجيل الضربة الأمريكية لدمشق محسوباً ومقدراً بالحفاظ على المنطقة كأحجية Puzzle غير مكتملة؛ فاكتمال الأحجية لصالح أحد الأطراف يعني تهديداً لأمن إسرائيل، وزوال إيران كدولة مهددة للخليج بانهيارها اقتصادياً سيسهم في التحام شطري الوطن العربي من جديد، وربما إعادة ظهور التيار القومي الذي يريد الانبعاث من رماد تجربة الإسلام السياسي المصرية من جديد.

وعلى الجانب الآخر من الخليج، فإن إيران مقتلها الاقتصاد، أما هدفها الأسمى فهو النفوذ الإقليمي، ومن أجل تحقيق تلك المعادلة الصعبة يجب عليها أن تتحول إلى حية ناعمة تتودّد إلى الجميع عرباً وعجماً، وذلك من أجل شراء الوقت ومن أجل إنعاش اقتصادها وكذلك تحقيق نفوذها الإقليمي الناعم، فالاصطدام الخشن السابق مع الغرب أنهك اقتصادها دون تحقيق فائدة تذكر، ما دفع الشعب الإيراني لاختيار روحاني أملاً في مستقبل أفضل على المستوى الداخلي، في تحدٍّ لخامنئي الذي لا يملك الآن سوى أن ينحني للعاصفة لكي لا ينهار نظام الملالي برمته تحت وطأة تشدده وعدم قدرته على إنعاش الاقتصاد.

فبالرغم من سيطرة خامنئي على النظام السياسي بأذرعه المختلفة وأهمها الحرس الثوري، بما يمثل القلب الصلب للنظام السياسي الإيراني؛ إلا أن كبح جماح روحاني ومبادراته الناعمة سيؤدي إلى انتكاسة سياسية داخلية، وسيؤدي إلى قلاقل شعبية لا يمكن لخامنئي أن يتحملها حالياً في ظل التدهور الاقتصادي؛ لذلك فإن فرص نجاح مبادرات روحاني مدفوعاً بتأييد شعبي تتزايد يوماً بعد يوم، فيما يتبقى الرهان الإقليمي على قبول تلك اليد الممدودة من روحاني بالسلام الإقليمي رهاناً صعباً.

فإيران تستشعر الرغبة الأمريكية في الانسحاب من المنطقة؛ لذلك فإن خيار روحاني هو «مساعدتها» على استكمال انسحابها بعيداً، وذلك بعقد صفقة بشأن برنامجها النووي، وبذلك تستعيد إيران عافية اقتصادها برفع العقوبات، وتستكمل نفوذها الإقليمي الذي عطلته العقوبات الاقتصادية، فيما تمد يدها بالسلام الإقليمي؛ فقد مارس روحاني غزلاً إقليمياً في الاتجاه الآخر، حيث وصف السعودية بأنها «دولة صديقة وشقيقة» للجمهورية الإسلامية في المنطقة، داعياً إلى رفع مستوى العلاقات بين طهران والرياض، وقال خلال استقباله مسؤولي بعثة الحج الإيرانية: إن «هناك الكثير من المشتركات والمصالح بين البلدين»، مؤكداً «ضرورة التحرك في مسار رفع مستوى العلاقات والتعاطي بين البلدين»[2].

أما على الجانب السعودي، فيبدو أن الرياض عازمة على تدشين حقبة جديدة في سياستها الخارجية بالاستقلالية عن الولايات المتحدة، استشرافاً أيضاً لما هو آت من انحسار الاعتماد الأمريكي على مصادر الطاقة الشرق أوسطية مستقبلاً، وقد هنَّأ ملك السعودية الرئيس الإيراني الجديد بفوزه في انتخابات الرئاسة في إيران، مشيداً بتصريحاته بشأن تحسين العلاقات بين البلدين، وعبّرت البرقية، التي نشرتها وكالة الأنباء السعودية، عن تمنيات المملكة والشعب السعودي بموفور الصحة والسعادة للرئيس الجديد، والتقدم والازدهار للشعب الإيراني «الشقيق»، كما أشادت بتصريحات روحاني بشأن «حرصه على التعاون وتحسين العلاقات بين البلدين الشقيقين»[3].

فهل يؤدي الانسحاب الأمريكي من المنطقة إلى دفع القوى الإقليمية للعمل معاً من أجل إنهاء الملفات العالقة، والتي معظمها طائفية، بأن تتقارب الأجندات والعمل على التعاون الإقليمي لا سيما في ظل اعتماد اقتصادات المنطقة الأحادية على النفط المهدد عرشه بالزوال؟

هناك مساران للمنطقة بعد التحولات الأخيرة: إما أن يسعى كل فريق إلى ملاحقة نفوذه الإقليمي على حساب الآخر وتغليب المذهبية والطائفية على المصالح القومية العليا لشعوب المنطقة، وهنا يمكن للمنطقة أن تحطم بعضها بعضاً.

وإما أن تدفع المصالح المشتركة والتهديدات المشتركة أيضاً الجميع إلى العمل معاً من أجل تذويب الخلافات المذهبية ورفع مصالح الشعوب فوق مستوى الخلافات الضيقة والعمل على الاستقرار والتعاون الاقتصادي وانتشال اقتصادات المنطقة من الاعتماد المطلق على الغرب وتوسيع نشاطاتها الاقتصادية في مختلف المجالات الأخرى غير تلك المعتمدة على النفط وصناعاته المشتقة منه.

ربما تدفع الخطوات الأمريكية الأخيرة بتغليبها مصالحها على مبادئها فيما يتعلق بالكيماوي السوري، الأطراف الإقليمية هي الأخرى إلى المسار الثاني، والذي يتطلب دبلوماسية شعبية أكثر من مجرد تحركات نخبوية على مستوى الحكومات؛ فمؤشرات فوز روحاني الساحق وتياره الإصلاحي في المجمل تعد مؤشرات مهمة يجب استثمارها على المستويات الشعبية لتقريب وجهات النظر بين شاطئي الخليج، كما أن اعتلال صحة خامنئي ومسألة خلافته قد تدفع بمقعد آية الله لمن يكون أكثر عقلانية ورشاداً وعدم رغبة في المتاجرة بالمذهبية على حساب الشعوب، وعلى الجانب الآخر ربما يمثل التقارب الأمريكي الإيراني و«الصفقة المرتقبة» فرصة لدول الخليج لامتلاك برنامجها النووي هي الأخرى، من أجل تحقيق التوازن الأمني في المنطقة، وأن يعمل الجميع على النظر إلى المصالح القومية العليا لشعوب المنطقة.

ربما مثّلت تلك المكالمة الهاتفية نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات الأمريكية الإيرانية، لكنها بالإضافة إلى الخطوات الأمريكية بعدم ضرب سورية ورعايتها مصالحها العليا، مع بدء انسحابها من المنطقة وزيادة اهتمامها بشرق آسيا، مع مخزونات الطاقة الأمريكية الجديدة؛ كلها تعد عوامل متضافرة من أجل أن تدفع القوى الإقليمية للعمل معاً من أجل أمنها ومصالحها المشتركة، وربما يبزغ عن ذلك الانسحاب الأمريكي تقارب إقليمي شبيه لذلك الذي كان دعا إليه نظام الدكتور مرسي، بتشكيل لجنة رباعية سعودية مصرية تركية إيرانية، من أجل حل المشكلات العالقة منذ عقود، لتكون تلك المنظومة الرباعية بديلاً للهيمنة الأمريكية على سياسات المنطقة.

لذلك؛ فإن الكرة الآن في ملعب روحاني، انتظاراً لمبادرة حقيقية تجسّد قدرته على تحقيق وعوده بالتقارب الإقليمي، وربما تسهم تركيا أيضاً في تحقيق وساطة من نوع ما بتوجّهها السابق الذي يهدف إلى تعظيم التعاون الإقليمي وإزالة الحواجز في العلاقات بين دول المنطقة وتصفير المشكلات، كما أننا بانتظار تشكل ملامح السياسة الخارجية السعودية الجديدة وإذا كانت بالفعل ستعمد إلى سياسة المبادأة والمبادرة، لا سيما بالسير في مسار متوازٍ يحقق الاستقرار الإقليمي: تطوير علاقاتها مع إيران إلى آفاق جديدة، والبدء ببرنامجها النووي السلمي على حد سواء.

:: مجلة البيان العدد  317 محرم 1435هـ، نوفمبر  2013م.


 [1] وكالة الأنباء الفرنسية، 24 سبتمبر 2013، نشرته القدس العربي بعنوان: «الغاز الصخري يبعث أحلام أمريكا بتحقيق اكتفاء ذاتي بالطاقة.. ومخاوف خليجية من تقلص السوق والعائدات»، على الرابط التالي:

 http://www.alquds.co.uk/?p =87299.

 [2] سي إن إن العربية في 19 سبتمبر 2013 على الرابط التالي:

 http://arabic.cnn.com/2013/middle_east/9/19/iran.rohani.saudia /.

 [3] الجزيرة نت في 17 يونيو 2013، على الرابط التالي:

 http://www.aljazeera.net/news/pages/c60fa270-88d4-4777-a346-fe9cff82d47a.

 

 

أعلى