لا يستحون من الإجهار ونستحي من الإنكار
تسمع في الطريق وعند الإشارات
من يرفع صوت الموسيقى الصاخبة والأغاني الماجنة ولا يستحي، ومِنَّا من يكتفي برفع
نافذة السيارة وهو بجواره ولا ينصحه حياءً منه أو من الناس.. بل ونسير حول محلات
بيع الأغاني وأصواتها الفاجرة مدوية بلا حياء، ونستحي أن نناصح البائع وننكر عليه،
وقلْ مثل ذلك في محلات خُصِّصت لبيع آلات الموسيقى وبيع الأطباق الفضائية
المنحرفة.
يشرب السم الزعاف الانتحار
البطيء (الدخان) ويلوث الهواء النقي ولا يستحي، ونمر من جانبه ونستحي من نصحه،
وندخل البقالات ومحلات التموينات ونرى هذا السم يُباع جهراً بل وخانته الأبرز ولا
يهمّنا إلا ما نشتريه ولا نناصح، بل ونسير حول محلات خُصِّصت لبيع سموم الجراك
والمعسِّل والشيشة أو مقاهيها وكأن الأمر لا يعنينا.
ويناطح
المرابون الحرب علناً مع جبار السموات والأرض في بنوكهم الباسقة بين أظهرنا، وننظر
إليها، ونسير من جوارها ليلاً ونهاراً، ولا نكلِّف أنفسنا بوقت بسيط لمناصحة
مسؤوليهم حول هذه الكبيرة الـمُهلكة والجريمة الاقتصادية الـمُعلَنة.
وقسْ
على ذلك ما نراه ونسمع به من منكرات مُنكرَة ومعاص فاجرة جاهرة، بل ولا يتمعّر
أحدنا وجهه من ذلك خشيةً لله تعالى فضلاً عن أن يُنكر، إلّا ما رحم الله.
بل
وما نقرأه في بعض صُحفنا من تطاول بعض الكتَّاب على شرع الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم سامحاً وآذناً لهم محرّرهم بحجة حرية الفكر، ولم يعلم أنها حرية الكفر،
ولو كانت هذه الحرية - كما زعموا - صُرفت للإنكار على أمر ما ممنوع رسمياً؛ لـمُنع
المقال بل وربما فُصل كاتبه ورئيس التحرير من عمله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَارًا} [نوح: 13].
إننا
أحوج ما نحتاج إليه في هذا العصر الذي طغى فيه الفساد بكل ألوانه علناً وجهراً،
إلى التذكير بسفينة النجاة وشعيرة الإنقاذ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)،
والتي قد عدَّها بعض أهل العلم الركن السادس من أركان ديننا العظيم.
التذكير
بهذه الشعيرة العظيمة والذي تهاون فيها من يعقد عليه الأمل في القيام بها من بعض
من ينتسب للتدين في ظاهره ويرى المنكرات أمامه جهاراً بلا حياء وهو مُطرق رأسه
حياء، ألا يخشى أن يدخل ضمن الشياطين الـخُرس، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، بل ألا
يخشى أن يكون له نصيب من هذا الوعيد الشديد من هذه الآية: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ 78 كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[المائدة:78-79].. ألا يرحم نفسه من كان صالحاً في نفسه دون إصلاح ما حوله وما يستطيع، ألا
يرحم نفسه من الهلاك والعذاب.. قالت زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كما في
الصحيحين: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم؛ إذا
كثر الخَبَثْ[1].
فلم
تقل رضي الله عنها المصلحون، إنما الصالحون.
وصح
عند أبي داود قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يُعملُ فيهم بالمعاصي، هم أعزُّ
وأكثرُ ممن يعمله، ثم لم يغيروه، إلَّا عمَّهم الله تعالى منه بعقاب»[2].
ألا
نخشى الهلاك والعذاب مع أهل الفساد والمنكر بصمتنا وسلبيتنا واكتفائنا بهم أنفسنا،
ألم يخبرنا الله جلَّ جلاله بخبر أصحاب القرية وكيف أنجى الآمرين بالمعروف
والناهين عن المنكر وأهلك مع المفسدين الساكتين عن الإنكار كما ذكر ابن عباس - رضي
الله عنهما - حيث قال: «إن الطائفة التي لم تنه ولم تعصِ هلكت مع العاصية عقوبة
على ترك النهي»[3].. {وَاسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ 163 وَإذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ
مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 164 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا
بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163-165].
أضف
إلى الحرمان الأليم من إجابة دعوة الرحمن الرحيم، فَتحل بالساكت والتارك لهذه
الشعيرة الجليلة نكبة ونكبات ويدعو ويجأر بالدعاء ولكن لا يُستجاب له، ألهذا الحد،
نعم - والعياذ بالله -.. روى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله
عليه وسلم قوله: «والذي نفسي بيده لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو
ليوشكَنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم»[4].
وفوق
ذلك تسلّط الأعداء واشتداد البلاء، والتاريخ يشهد على ذلك، وهي سنن الجبَّار جلَّ
في علاه لا تتبدل.
ألا
نعلم أن الله عز وجل بدأ في كتابه العظيم مبيناً خيرية الأمة بهذه الشعيرة
الجليلة قبل الإيمان به: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
قال
ابن كثير - رحمه الله - في تفسيرها: (قال قتادة - رحمه الله - بلغنا أن عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - في حَجّة حَجها رأى من الناس سرعة فقرأ هذه الآية ثم قال:
ومن سرّه أن يكون من تلك الأمة فليؤدِ شرط الله فيها) رواه ابن جرير. فمن اتصف من
هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا الثناء عليهم والمدح لهم، ومن لم يتصف بذلك
أشبه أهل الكتاب الذين ذمَّهم الله تعالى بقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن
مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79][5].
قال
سماحة الشيخ العلَّامة عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في معرض كلامه عن سبب
تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان: (تأمل أيها المسلم الذي يهمّه
دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر قبل الإيمان، مع كون الإيمان شرطاً لصحة جميع العبادات، يتبيَّن لك عِظم
شأن هذا الواجب، وأنه سبحانه إنما قدَّم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام)[6].
بل
وأول وصف وصفه الله تعالى للمؤمنين والمؤمنات قبل أركان الدين: {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْـمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، بل وختم لهم بخاتمة
السعادة في الدنيا والآخرة ألا وهي رحمة أرحم الراحمين والتي من تداركته سَعَد
وفلح ونجا في الدارين: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71].
وحثَّ
المصطفى صلوات الله وسلامه عليه كل مسلم على الإنكار بقدر استطاعته، وفي ذلك ردّ
بليغ على من حكر الإنكار على الهيئة أو على سلطة أو صاحب منصب أو بل حتى على
متديّن، بل وجَّه عليه الصلاة والسلام قوله لكل مسلم ولو كان فاسقاً: (من رأى منكم
منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان)[7]، قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه للحديث
السابق في قوله صلى الله عليه وسلم (فليغيّره): «فهو أمر إيجابي بإجماع الأمة»،
وقال: وقد تتطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع
الأمة، وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين[8]، وقال الإمام الجصّاص: (فرض
الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه، وبيّنه رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه)[9].
إلى
هنا أقف في إيراد ما سبق من نصوص أدلة الكتاب والسنة وذكر الإجماع، فالموضوع لا
يُقصَد به الجمع والإحاطة بكل النصوص في ذلك؛ فهي كثيرة ومتكاثرة، بل وقد صنَّف
العلماء الأجلاء قديمـاً وحديثاً كتباً ومجلدات في ذلك، إنما قصدت أحث نفسي
وإخواني على عِظَم هذا الأمر الذي تساهلنا فيه، ونخشى أن يُصيبنا ما تُوعّد به من
رأى ما لا يرضي الله تعالى ولم يقم بأدنى تغيير.
على
أن هذه الشعيرة الجليلة تحفّها ضوابط مهمة وقواعد مقررة كما ذكر أهل العلم، منها
(باختصار):
- كون
المنكر مما عُلِم نهي الشرع عنه كالمحرمات المشهورة أو ترك للواجبات الظاهرة
المعلومة، وأمَّا إن كان من دقائق الأفعال والأقوال التي لا يميز حكمها إلا أهل
العلم فيرجع إليهم في ذلك.
- كون
المنكر أو الواجب المتروك ظاهراً من غير تجسس، أو يغلب على الظن وقوعه وآثاره
واضحة.
- أن
لا يترتب على إنكاره مُنكر أكبر منه، أو مفسدة أرجح منه، ولهذا قيل: (ليكن أمرك
بالمعروف ونهيك عن المنكر غير مُنكر).
- إذا
تمكن تغيير المنكر باليد ولم يترتّب على ذلك مفسدة أقوى منه وجب تغييره، أو كانت
سلطته في التغيير أقوى؛ مثل: الأب في منزله، أو المدير في إدارته، أو التاجر في
متجره، أو المعلّم في فصله، أو الموظف في مكتبه.
- إن
لم يتمكَّن من تغيير المنكر باليد فيُنتقل للمرتبة الثانية وهي الوعظ باللسان
بالرفق والحكمة، وإن استدعى الأمر فبالحزم إذا كان في موعظة.
-
وأما التغيير بالقلب (بمعنى لم يستطع التغيير باللسان والبيان لكون الإنكار
يترتَّب عليه مفسدة أرجح من المنكر أو عجز عن ذلك لفوات وقته أو لتكاسله وإهماله)؛
فالتغيير بالقلب يجب بكل حال، إذ لا ضرر في فعله؛ لأنه عبارة عن ضيق قلبه من
المنكر، ومن لم يتغيّر قلبه من المنكر ويضيق منه فليس بمؤمن كما قال صلوات الله
وسلامه عليه: «وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان»[10]، وقال عليه الصلاة والسلام:
«وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»[11]، وقيل لابن مسعود - رضي
الله عنه - من ميتُ الأحياء؟ فقال: «الذي لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً»[12].
-
الأمر بالمعروف يكون واجباً إن أُمر بواجب، ويكون مُستحباً إن أُمر بمُستحب،
والنهي عن المنكر يكون واجباً إن نُهي عن محرم، ويكون مُستحباً إن نُهي عن مكروه[13].
-
ومما يستدعي ذكره التنبيه إلى بعض الشبه التي قد تُعرَض على فريق من الناس من مثل
قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا
اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فقد يترك بعض الخيرين
المنكر بحجة تأويل هذه الآية تأويلاً خاطئاً، بينما قد جلَّاها الصديق أبو بكر -
رضي الله عنه - في خطبته؛ حيث قال: (إنكم تقرؤون هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم
مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يُغيّروه أوشك أن يعمّهم الله
بعقاب منه»)[14].
- ومن
مثل حديث: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور
بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ ألم
تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه،
وأنهى عن المنكر وآتيه»[15]. فجواب من يشتبه عليه ذلك
في الحديث ذاته، إذ إنه لم يعاقب على قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
إنما لتركه ما أمر الله به وارتكاب ما نهى الله عنه.
- ومن
مثل قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤]، فهي لا تعني: ترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة التقصير كما يستمسك بذلك من هوَ مُفرِّط في بعض ما
أمر الله به أو ارتكاب ما نُهي عنه، إنما كما ذكر أهل العلم وأنت ترشد الناس
وتوجّههم فلا تهمل نفسك، وليس في الآية دلالة على ترك النصح والتوجيه والإنكار.
- ومن
مثل ما يشيع عند البعض الذي تأثَّر ببعض المفاهيم الغربية من دعوى: أن الأمر
والنهي تَدخّل في الحرية والشؤون الخاصة أو الشخصية، وهذه الشبهة الواهية تردّها
بسهولة النصوص المتظافرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإنما يكون التدخل في
الشؤون الخاصة إذا كان المرء قد أغلق على نفسه الباب في بيته من دون قرائن تدلّ
على ارتكابه المنكرات أو تركه الواجبات.
-
ويُقاس على هذه الشبهات التي يلبّس إبليس بها البعض أي شبهة تُعرض من خلال نص أو
أثر لا تُفهَم دلالته، فالواجب حينئذٍ عرضها على أهل العلم لتجليتها، لا التسليم
لها لتبرير التقاعس والتكاسل عن القيام بهذه الشعيرة الجليلة والفريضة النبيلة.
-
وكذلك.. إن مما يُستحسن الإشارة إليه حتى لا يدب الفتور إلى نفس من يرى المنكر ولا
يغيره:
- أن
يقوي إيمانه دوماً بالتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات والابتعاد عن المنهيات حتى لا
يكون إنكاره فقط تغير قلبه، كما في الحديث: «وذلك أضعف الإيمان». ولا يعني ذلك أن
لا يخطئ المصلح أو يكون كاملاً تماماً أو لا ينكر إلَّا من كان على درجة من
التدين، لا ليس المراد، فقد رُوي حديث «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله،
وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله»[16]، وإن كان رُوي بسند ضعيف
لكن يُستأنس به في ذلك، ولكن في المقابل لا يعني التساهل في الوقوع في الآثام أو
الزهد في شيء من الواجبات بحجة أن الإنسان ليس بكامل، إنما يسدد المصلح نفسه
ويقارب للخير ما أمكنه، فإن وقع في زلة أو ترك واجباً فليجاهد نفسه ولا يترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر تعليلاً لذلك.
-
ومما يعين الـمُصلح على إصلاحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أن يشوِّق نفسه
للفضائل التي تترتب على نبل مهمته الشريفة، وبالمقابل يخوِّف نفسه ويردعها من
العقوبات الـمُهلكة التي تنتظره عندما يترك ذلك.
-
وليعلم علم اليقين أن عِظَم فضيلة الـمُصلح لا يقارن بالصالح لنفسه فحسب، يقول
فضيلة الشيخ عبد العزيز الطريفي - وفقه الله -: (مصلح واحد أحب إلى الله من آلاف
الصالحين، لأن المصلح يحمي الله به أُمة، والصالح يكتفي بحماية نفسه). وقال أيضاً
مُبيِّناً جلالة أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (الأمر بالمعروف يجلب
الخير، والنهي عن المنكر يدفع الشر، وهما كفّتا ميزان العدل، فإن نقص أحدهما اختل
الآخر وظهر الظلم في الدين والدنيا).
-
وأخيراً.. فلنعوّد أنفسنا - فالنفس على ما عوّدتها عليه - على إحياء هذه الشعيرة
الجليلة والمهمة النبيلة، خاصةً في عصرنا الذي جاهر فيه العصاة بمعاصيهم وفسقهم
عندما سكتنا عنهم، بل وخشي البعض أو استحيا منهم أو من الناس، وقد قال حبيبنا
صلوات الله عليه: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»[17]، وقال عليه الصلاة والسلام:
«إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟
فإذا لقَّن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس»[18]. فلا تخف أخي منهم إنما هم
بشر مثلك لا يضرونك إلا بإذن خالقهم، وعلّق قلبك بالذي بيده ملكوت السموات والأرض،
فإذا رأيت صاحب المنكر الـمُجاهِر الذي لم يستحي من خالقه ولا من خلقه، فِعظه بينك
وبينه برفق، وذكّره بقول خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه: «كل أُمتي مُعافى
إلَّا المجاهرين»[19]، ووضّح له معنى ذلك - كما ذكر أهل العلم - أي كل مسلم
أقرب إلى أن يعفو الله عن ذنبه إلّا المجاهر بذنبه وفسقه.
- وما
ذلك إلّا لأنها استخفاف بأوامر الله عز وجل ونواهيه، كما أنها تؤدي إلى اعتياد
القبائح واستمرائها وكأنها أمور عادية لا شيء فيها، بل وهي بمثابة دعوة للغير إلى
ارتكاب المعاصي وإشاعة الفساد ونشر المنكرات، والمجاهر بذلك لا يخلو من سوء الخُلق
والوقاحة وقلة الأدب مع قسوة قلبه واستحكام غفلته.
فاعلم
أيها الناصح الآمر بالمعروف والخير والناهي عن المنكر والشر أنك العزيز بطاعة
مولاك وقيامك بهذه الفريضة الجليلة، فلا تذلّ نفسك وتأمر وتنهى بمسكنة واستحياء،
ولا يعني ذلك الغلظة والفظاظة، إنما يعني الاعتزاز بما أكرمك أكرم الأكرمين به بأن
جعلك الطائع الذي توعظه وليس هو الذي يوعظك.
-
ولنتذكر كذلك ختاماً أن وسائل ذلك متعددة خاصةً في ظِل ثورة تقنية التواصل
الاجتماعي من رسائل جوال وواتس آب وفيس بوك وتويتر وما جدّ من الحديث منها، فليكن
لنا دور في إحياء الخير فيها وإنكار ما يمكن إنكاره من صور فاتنة أو مقاطع ماجنة
أو معازف فاسقة أو أخبار خاطئة أو أحاديث باطلة أو بدع مُستحسنة، مع سؤال أهل
العلم عمَّا يُشكل علينا، كما يُنبّه على وسيلة البرقية الهاتفية 969 عن طريق
الهاتف الثابت أو الجوال للإرسال لولاة الأمر أو المسؤولين في دعوتهم للخير
وتنبيههم لرفع مُنكر حادث.
وقبل
ذلك وبعده لا نهمل عِظَم أهمية الاستعانة بالمعين جلَّ وعلا وكثرة دعائه بأن يصلح
حال المجتمعات، وأن يهدي ضال المسلمين والناس، وأن يعيننا على حسن القيام بنصحهم
وتوجيههم وحسن الإنكار كما يحب سبحانه وتعالى ويرضى.
مع أهمية تحميس أنفسنا بين فترة وأخرى بالاطلاع على
سير المصلحين وقائدي سفينة النجاة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعمق آثار
صلاحهم على مجتمعاتهم وعِظَم أجورهم عند ربهم جل وعلا.
::
مجلة البيان العدد 317 محرم 1435هـ،
نوفمبر 2013م.
[1] متفق عليه.
[2] سنن أبي داود برقم 4338، وصححه الألباني
في صحيح الجامع برقم 5749.
[3] انظر تفسير القرطبي عند تفسيره للآيات من 163 إلى 165 من سورة الأعراف.
[4] أخرجه الترمذي برقم 2169، وغيره، وقال الألباني: حسن لغيره، وفي صحيح
الترغيب والترهيب برقم 2313.
[5] تفسير ابن كثير 2/105.
[6] من إملاءات سماحة الشيخ - رحمه الله -.. انظر الموقع الرسمي لسماحته
على هذا الرابط: http://www.binbaz.org.sa/.
[7] صحيح مسلم برقم 49.
[8] شرح صحيح مسلم للنووي 2/22.
[9] أحكام القرآن للجصَّاص 4/154.
[10] سبق تخريجه.
[11] أخرجه مسلم برقم 50، وأخرجه غيره من أئمة الحديث.
[12] أخرجه مسلم، جامع الأصول 10/121.
[13] انظر تلك الضوابط والقواعد من رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأثرهما في حفظ الأمة لـ: د. عبد العزيز المسعودي، وانظر مجموع فتاوى لابن تيمية
127/28-32. (وقد سيقت باختصار وتصرّف).
[14] انظر تفسير البغوي للآية 105 من سورة المائدة.
[15] أخرجه البخاري برقم 3397، ومسلم برقم 3989.
[16] مجمع الزوائد 7/280.
[17] أخرجه ابن ماجه برقم 4007، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم
3237.
[18] أخرجه ابن ماجه برقم 4017، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه برقم
3244.
[19] أخرجه البخاري واللفظ له برقم 6069، ومسلم برقم 2990.