في ذكرى يوم العلم  جمعية العلماء المسلمين الجزائريين... مسار كفاح من أجل العقيدة ثم الوطن

ولعل في سلسلة مقالاته الماتعة، التي جاءت بيانًا وكشفًا وتحذيرًا من الطرقية وتلاعباتها ضد الجزائر والإسلام -خاصةً الطريقة العليوية، وشيخها ابن عليوة المستغانمي- ما يروي الغليل في فضح جهالات ومَكْر تلك الطرق المنحرفة.

 

لا يختلف اثنان في أهمية وتأثير انبعاث الحركة الإصلاحية بالجزائر عامةً، وبروز رجالاتها المنتسبين تنظيميًّا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصةً، والتي تأسست في 5 مايو 1931م، وهو التاريخ المُفترَض أن يكون يومًا وذِكْرى للعلم وأهله؛ لأنه يُمثّل انطلاقةً لتصحيح المسار، ووضع قاطرة الجزائر الثقافية في مسارها المنوط بها.

 جاء هذا الانبعاث نتيجةً حتميةً للغزو الفكري والثقافي الذي رافق الاحتلال العسكري الفرنسي الهمجي الذي سخَّر كل جهده لمسخ كلّ مقومات شخصية الجزائري، واقتلاعه من أرضه وفق منهجية إقطاعية صِرْفة، فكان نشاطها مُمهِّدًا لما تلا ذلك من أحداث مُناهِضَة للاحتلال وهمجيته، وصولاً للثورة التحريرية الكبرى (1954/1962م)، التي جاء على إثرها استعادة السيادة الوطنية المسلوبة منذ 1830م؛ وهو تاريخ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، والتي كانت حربًا صليبية، كونها مهَّدت لتصفية ممتلكات الخلافة العثمانية بتحالف من الدول الغربية، فيما عُرِفَ بـ«المسألة الشرقية».

ولعل أبرز المواجهات والتحديات التي اتَّحد رجال الجمعية لمجابهتها هي الطُّرقية التي استخدمها الاحتلال وسيلةً عامةً لتنويم وإبعاد الجزائريين عن جوهر وحقيقة الدين الإسلامي -المبني على سلامة العقيدة ونقاء المنهج-؛ عن طريق اتخاذ رؤوس وقيادات يغلب عليها سمة الجهل وحبّ الدنيا؛ حيث تم اتخاذ قباب ومزارات وأضرحة لاستغفال الناس ونشر الخرافة وسرقة أموالهم.

هذه الأماكن أضحت -في أغلبها، ومع مرور الزمن- أوكارًا للجهل والشرك والرذيلة، بتمرير أكذوبة سلطة الولي الصالح، وسياسة «اعتقد ولا تنتقد»، التي أبعدت الناس عن العلم وطلبه، والركون إلى أقوال شيخ طريقة جمع بين موالاة الاحتلال وتوطين الخرافة.

فكان العبء ثقيلًا، والعمل شاقًّا، والطريق صعبًا على رجالات حملوا على عاتقهم مهمة إرجاع السكان إلى الدين الصافي النقي، ومواجهة جبروت الطرقيين المستعينين بأجهزة الاحتلال الفرنسي.

ولأجل هذه المهمة النبيلة -التي ترقَّى بحملها إلى درجة الجهاد-؛ نذَر عُصْبَة من العلماء أنفسهم وأموالهم في سبيل هذا الهدف النبيل؛ تخليصًا للعقول، وشحذًا للهمم، ورسمًا لطريق التمكين.

ومن الأمثلة المهمة على أنشطة وإسهامات رجالات الجمعية: جهود الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي -رحمه الله-، الذي يُعدّ أنموذجًا يبيِّن بوضوح تلك العزيمة والروح النضالية وصِدق التضحية لغاية واحدة منشودة هي خدمة الدين ثم الوطن.

ولعل في سلسلة مقالاته الماتعة، التي جاءت بيانًا وكشفًا وتحذيرًا من الطرقية وتلاعباتها ضد الجزائر والإسلام -خاصةً الطريقة العليوية، وشيخها ابن عليوة المستغانمي- ما يروي الغليل في فضح جهالات ومَكْر تلك الطرق المنحرفة.

فذلك الكمّ من المقالات والدراسات، وما دوَّنه في مختلف الجرائد والمجلات -وقد جمعها غير واحد من الباحثين كالدكتور أحمد الرفاعي شرفي، رحمه الله-، يعكس قوةً في الحجة، وصرامةً في المواقف، وهو ما يؤكد صدق دعوته؛ رحمه الله.

ونذكر -على سبيل المثال لا الحصر- بعض عناوين لمقالاته التي تُعالج حقائق وتكشف أباطيل :[بدعة الطرائق في الإسلام (وهي سلسلة مقالات أبطل فيها الشيخ قواعد وأُسس يعتمد عليها الطرقيون وأربابهم في نشر الخرافة والشرك)- قد ضل مَن كان مثل هذا يهديه - أريد حياته ويريد قتلي  -من غشنا فليس منا - أيها الطرقيون -هل الخلوة العليوية من الإسلام؟... وغيرها.

 وكتب ردًّا عنيفًا على الطرقيين حين حاولوا اغتيال الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهي حادثة مشهورة جنَّد لها أحد أرباب الطرقيين رجالاً منهم لقتل الإمام ابن باديس سنة 1929م، فخاب الجاني، ومن أزَّه، وحفظ الله الشيخ ابن باديس.

وكان شديد التحذير من الأضرحة والمزارات والقباب، فلطالما حذَّر من الضريح المُقام قرب باب كركلا وسط مدينة تبسة، وبيَّن أن ما يُقام فيه وحوله من طقوس وتمائم لا يصح شرعًا ولا عقلاً؛ تحذيرًا منه من أوحال الشرك وحمايةً لجناب التوحيد. كما جاء في كتاب «تبسة مرشد عام» للأستاذ والمجاهد علي سلطاني -حفظه الله-.

 لقد كانت كتابات ومواقف رجالات الجمعية شُهبًا تحرق أوكار الخرافة، وتضيء سماء الجزائر بنور الحقيقة المبنية على التوحيد الخالص والمنهج القويم، فرغم التضييق الاستعماري وتحالف فرنسا مع الطرقيين، ومحاربتهم كل ما له علاقة بالجمعية بالوشاية تارة، والتهديد تارة أخرى؛ إلا أن العزيمة والرغبة وقوة الإرادة لدى الرجال الوطنيين المصلحين كابن باديس والإبراهيمي والعقبي والميلي... وغيرهم، تفوَّقت بما تحمله من يقينٍ بأن العاقبة الحسنة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا وكانوا محسنين.

ولا أدلّ على جهاد تلك المجموعة المباركة من إنتاج توعوي ودعوي نشروه في جرائد كالشهاب والبصائر والمنتقد، ... والكتب كتأريخ الجزائر، ورسالة الشرك ومظاهره لمبارك الميلي، والإسلام الصحيح لأبي يعلى الزواوي، وقصائد محمد العيد الخليفة والطيب العربي؛ رحمة الله على الجميع.

وكذلك تلك المدارس والمعاهد والنوادي، التي أنشأتها الجمعية، وتوزعت على ربوع الجزائر، بالإضافة للمواقف المشرِّفة في مواجهة الغطرسة الفرنسية التي كلّفت الكثير من العلماء السجن ومصادرة الممتلكات والتهجير، بالإضافة إلى مئات من الطلبة الذين أُوقدت بهم نار الثورة وتسعّر لهيبها في وجه الآلة الحربية الفرنسية في ميدانَي الكفاح العسكري والسياسي... كل هذا دليل جليّ وشامة بارزة ووسام صادق على نُبل وجهاد وتضحية رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذين قدَّر الله لهم أن تُدوَّن أسماؤهم بحروفٍ من نور في سماء الجزائر علمًا وجهادًا.

  

أعلى