سد النهضة بين سيناريو المؤامرة وجدوى التنمية
الأزمات
التي تتعلق بالأمن القومي عادةً لا تظهر فجأة، بل تسبقها تراكمات من الإهمال وسوء
التقدير والممارسات، إلى أن تصل الأزمة إلى ذروتها، حينها ينتبه صانعو القرار إلى
وجود أزمة تهدّد الأمن القومي. ويتجلى ذلك بوضوح في أزمة (سد النهضة) الذي شرعت
إثيوبيا في بنائه، وقامت بتحويل مسار النيل الأزرق لاستكماله. كان ذلك بمنزلة صدمة
وذعر لدولة المصب «مصر» على المستويين الشعبي والسياسي، حيث المياه تعني أمناً
قومياً وشريان حياة، خاصة أن مصر تُعد داخلة في حزمة الدول الصحراوية في شمال قارة
إفريقيا وليس لها مصدر مائي غير نهر النيل، واحتياجاتها للمياه تتزايد مع تزايد
عدد السكان ومع مشاريع التوسع في الأراضي الزراعية الجديدة، وكذلك حاجتها إلى عدم
نقصان الطاقة الكهربائية المُولدة من السد العالي، بل السعي إلى زيادتها، حيث ظهرت
مؤخراً أزمة طاقة.
والأزمة
ما هي إلا ميراث من سياسات نظام سابق أسقطته الثورة كان قد استبعد الدائرة
الإفريقية من دوائر اهتمامات وأولويات السياسة الخارجية المصرية، وترك القارة
تماماً لتملأ الفراغ دول أخرى مثل «إسرائيل» والصين وإيران، بل إنه في عام 1996 لم
يعترض النظام السابق على تمويل البنك الدولي إثيوبيا لإقامة عدد من السدود لتوفير
180 مليون متر مكعب من المياه تم خصمها من حصة مصر والسودان مناصفة، وكذلك موافقة
النظام السابق عام 2001 على طلب إثيوبي آخر لبنك التنمية الإفريقية لتمويل عدد آخر
من السدود الإثيوبية على نهر النيل.
فالأزمة
مركَّبة ونتيجةُ إهمال لملف المياه في حوض النيل لأكثر من 20 عاماً؛ لذلك لا بد
للتعامل معها من هذا المنطلق من إيجاد حلول مرحلية وحلول أخرى بعيدة المدى تعالج
المشكلة مستقبلاً، ومن ثم لا بد من تصور الأخطار الناتجة عن بناء سد على مجرى رافد
يمدّ مصر بـ 60% من المياه.
أخطار «سد النهضة»
على مصر
أولاً: عجز في نصيب المياه يصل إلى 15 مليار متر مكعب من حصة مصر
البالغة 55.5 مليار متر مكعب.
ثانياً: تقليص الرقعة الزراعية بمعدل مليون ونصف المليون فدان.
ثالثاً:
تخفيض الطاقة الكهربائية
المنتجة من السد العالي بنسبة 20%.
وقد
جاء في تقرير اللجنة الثلاثية لتقييم سد النهضة (المكوّنة من عضوين من مصر
والسودان وإثيويبا وأربعة أعضاء كخبراء دوليين)، بعض الملاحظات، هي:
«في ضوء التعديلات التي أُدخلت على تصميم السد في العامين
ونصف العام الماضي، فإن التقرير الحالي خادع جزئياً».
«لم
يأخذ التصميم في اعتباره الاحتباس الحراري، ما قد يتسبب في فيضانات».
«لم
تقدم معلومات بشأن طبيعة التدفق في اتجاه دول المصب».
«لم
تقدم معلومات بشأن تأثير السد في الزراعة على جانبي النهر في السودان ومصر».
«أهم تأثير للسد فيما يخص مصر هو تقليص قدرة السد العالي على
توليد الكهرباء بسبب نقص المياه في بحيرة ناصر».
«وجود أخطاء في تصميمات السد»، وأوصت اللجنة «بإجراء تعديلات
في التصميم الحالي وتغيير أبعاد وحجم السد».
وأوصت
اللجنة أيضاً «بعمل دراسات استكمالية للتأكد من سلامة وزيادة معدل أمان السد».
وفي ضوء هذا التقرير يتضح أن هناك تعتيماً وغياب شفافية من
قبل الطرف الإثيوبي حول مشروعه في بناء سد النهضة، إما عن عمد، وإما عن دراسات غير
كافية تعجّلتها إثيوبيا، وفي كلتا الحالتين هذا يدعم «سيناريو المؤامرة» بأن هناك
أطرافاً خلف المشروع تعمل على تركيع مصر مائياً ومحاصرتها، وهذا الطرف بالطبع
«إسرائيل»، وسبق وقد كان لها دور في انفصال جنوب السودان، وبمشروع سد النهضة تكون
محاصرةُ مصر قد اكتملت من حيث تضييق البُعد الاستراتيجي وتهديد مصادر الطاقة
والمياه، لا سيما أنه كان هناك تعجّل في بناء السد رغم التقرير الذي تم تقديمه من
الشركة الإيطالية الاستشارية، حيث أقرّت باستحالة بناء السد لاندفاع المياه بقوة
73 مليار متر مكعب في المكان الذي كان مقرراً إقامته فيه، ثم جاءت فكرة من مهندس
إسرائيلي باختيار مكان آخر، حيث سيتم نسف ثلاثة جبال لإمكانية تحويل مجرى النيل،
فجاء التقرير من الشركة الإيطالية مرة أخرى بإمكانية بناء السد، لكن لن يستمر
لأكثر من خمس سنوات، وبعدها سينهار، ووافقت إثيوبيا ومن ورائها إسرائيل؛ لأن هذا
يعني تقليص الرقعة الزراعية المصرية بنسبة 12.5% سنوياً، ما سيؤثر في الأمن
الغذائي المصري طيلة الخمس سنوات.
وهناك
سيناريو آخر وهو «الحاجة الفعلية للتنمية»، وهذا السيناريو يفترض أن إثيوبيا تُعد
من دول المنبع لنهر النيل وأنها لا تستطيع استغلال ذلك بشكل يدعم التنمية من خلال
توليد طاقة، حيث التنمية تحتاج إلى طاقة متجددة ومستمرة، وأن سد النهضة يعد
مشروعاً قومياً كما كان السد العالي بالنسبة لمصر، كما أن مطالبة إثيوبيا ودول
المنبع بإعادة توزيع حصص المياه ليست جديدة، بل هي موقف ثابت منذ حقبة حكم هيلا
سيلاسي حتى الآن، وكذلك الموقف المصري ثابت منذ الحقبة الناصرية بعدم التنازل عن
قطرة ماء حتى الآن.
ولذلك تعترض إثيوبيا على اتفاقية 1929، واتفاقية 1959 التي
كانت بين مصر والسودان وكانت امتداداً وتكملة للاتفاقية الأولى التي تنص على حق
مصر في الاعتراض على أي مشاريع ري وسدود تهدد بنقصان نصيبها من المياه، وأن لها حق
«الاعتراض»، وكذلك تؤكد حقوق مصر الطبيعية والتاريخية لهذه المياه. ورفض إثيوبيا
هذه الاتفاقيات مبني على أن منها ما كان مع المستعمر، وأخرى كانت بين مصر والسودان
ولم تكن إثيوبيا طرفاً فيها، وهذا لا يجعلها ملتزمة بأي حقوق أو اتفاقيات، بجانب
أنه ليس هناك حقوق تاريخية بين شعب مصر وإثيوبيا، ومن ثم لجأت إثيوبيا إلى إنشاء
اتفاقية جديدة مع دول حوض النيل؛ ففي مايو 2010 كانت اتفاقية «عنتيبي» في أوغندا،
حيث تنص على إعادة تقسيم حصص المياه بين دول حوض النيل، وقد وقعت على الاتفاقية
دول حوض النيل باستثناء مصر والسودان، والاتفاقية تعني انتهاء الحصص التاريخية
لمصر والسودان والاستخدام المنصف والعادل (من وجهة نظر إثيوبيا) لمياه نهر النيل
بين دول حوض النيل.
سيناريوهات الحل
أولاً: الحل التفاوضي
وهذا
ما صرّح به الدكتور عصام حداد، مستشار الرئيس المصري للعلاقات الخارجية، حيث قال:
(إن مصر تتبنى توجهاً جديداً لإعادة بناء العلاقات المصرية - الإثيوبية يعتمد
اقتراباً متعدد الأبعاد ويرتكز على مبدأ الشراكة في التنمية، وإن توجه السياسة
الخارجية المصرية ينصرف إلى محاولات التفاهم المستمر مع إثيوبيا حول كيفية إدارة
مشروع السد من خلال قضايا فنية عديدة تشمل المواصفات الهيدرولوكية للسد بما فيها
معاملات الأمان اللازم توافرها فيه، وخطة الملء والتشغيل المناسبة التي لا تؤدي
لتضرر المياه المتدفقة، واشتراك الخبراء المصريين في لجنة إدارة وتشغيل السد).
ثانياً: مشاريع بديلة
لزيادة حصة مصر من المياه
مشروع نهر الكونغو، حيث يسمح باستغلال جزء من فاقد نهر
الكونغو الذي يصل إلى 1000 مليار متر مكعب سنوياً يُلقى في المحيط الهادي، وهو
عبارة عن إنشاء قناة حاملة بطول 600 كيلو متر لنقل المياه إلى حوض نهر النيل عبر
جنوب السودان إلى شمالها، ومنه إلى بحيرة ناصر. المشروع يوفر لمصر 95 مليار متر
مكعب من المياه سنوياً توفر زراعة 80 مليون فدان تزداد بالتدرج بعد 10 سنوات إلى
112 مليار متر مكعب؛ ما يصل بمصر إلى زراعة نصف مساحة الصحراء الغربية، إضافة إلى
أن المشروع يوفر لمصر والسودان والكونغو طاقة كهربائية تكفي أكثر من ثلثي قارة
إفريقيا بمقدار 18 ألف ميجاوات.. والمشروع يعترضه بعض العقبات ويمكن العمل على
حلها.
أو مساعدة إثيوبيا على بناء سد آخر أصغر حجماً لتوليد
الكهرباء دون أن يقلص من حصة المياه الخاصة بمصر، وأن توقع إثيوبيا مع مصر على
اتفاقية بعدم الإضرار بحصة مصر من مياه النيل.
كما أن أساتذة الري والموارد المائية أوصوا باتباع سياسات
تُرشّد من أسلوب الري، مثل الالتزام بكل خطط ترشيد استخدام المياه، سواء نظم الري
أو الالتزام بالتركيب المحصولي، خاصة المحاصيل الشرهة للمياه، مثل الأرز وقصب
السكر، وهناك أيضاً بعد التجارب نجد أن تطوير الري الحقلي في زراعات قصب السكر
يوفر على الأقل من 15 إلى 20% والمياه المستخدمة.
ثالثاً: الحل القضائي
إذا
فشلت المفاوضات بين مصر وإثيوبيا فإنه سيتم اللجوء إلى وسائل أخرى، مثل عرض الأمر
على مجلس السلام والأمن الإفريقي لإيجاد تسوية إفريقية، ثم اللجوء في نهاية الأمر
إلى محكمة العدل الدولية، وهذا هو السيناريو المطروح في الاتفاقيات الدولية
المعنية بمياه الأنهار الدولية وعلى رأسها الاتفاقية التي أقرَّتها منظمة الأمم
المتحدة عام 1997 الخاصة باستخدامات النهر دولياً. ومصر من حقها اللجوء للتحكيم
الدولي للحفاظ على نصيبها في مياه النيل، حيث إن القانون الدولي ينظم علاقة الدول
المرتبطة بحوض أي نهر ويحمي الحقوق المكتسبة لمصر وحصتها المائية المقررة في نهر
النيل بموجب المعاهدات السابقة.
رابعاً: الحل العسكري
من خلال ضربة جوية للسد أو إرسال فرقة عمليات خاصة لتخريب
السد، ولا شك أن هذا يحتاج إلى تنسيق مع السودان لإقلاع الطائرات من هناك، حيث
السد على بعد 40 كيلو من حدود السودان.. والحل العسكري مستبعد لعدة أسباب:
-
موقف السودان من بناء السد إيجابي وليس سلبياً، وقد صدرت تصريحات باسم الناطق
الرسمي باسم حكومة السودان الدكتور أحمد بلال (بأن بلاده ليست ضد إقامة السد
الإثيوبي، وأن المشروع يمكن أن يكون مفيداً للسودان، وأن إنجاز المشروع لن يؤثر في
حصة كل من السودان ومصر من المياه)، فهذا يعني عدم استعداد السودان للتنسيق
العسكري وأنها لا تميل إلى ذلك، على العكس من التصريحات الإثيوبية التي تقول إنها
تتخوّف من تنسيقات مصرية - سودانية لضرب السد من خلال طائرات إف 16.
-
لا بد من التنبؤ برد الفعل الذي سيكون من إثيوبيا بعد تدمير سد النهضة، وهو قد
يكون عملية عسكرية تهدد السد العالي وتتحول إلى حرب إقليمية، حيث إثيوبيا تدعمها
دول موّلت السد، وكذلك ستجد دعماً إسرائيلياً غير معلن.. ومصر لن تستطيع أن تدخل
في حرب في ظل الأوضاع والظروف الداخلية، سياسياً واقتصادياً.
- السياسة الخارجية المصرية تمهد لرجوع القارة الإفريقية مرة
أخرى إلى مصر من خلال القوة الناعمة وإعادة العلاقات مع دول حوض النيل ولن تستهلها
بحرب على إثيوبيا.
معلومات عن
«سد النهضة»
سدُّ النهضة هو سد إثيوبي، يقع على النيل الأزرق في ولاية بني
شنقول قماز بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، ويبعد عنها نحو 20 أو 40 كيلو
متراً.
وعند اكتمال إنشائه يصبح أكبر سد
كهرومائي في القارة الإفريقية، والعاشر عالمياً، وارتفاعه سيبلغ نحو 145 متراً،
وطوله نحو 1800 متر، وستبلغ سعته التخزينية 74 مليار متر مكعب من المياه، وسيحتوي على
15 وحدة لإنتاج الكهرباء، قدرة كلٍّ منها 350 ميغاواط.
::
مجلة البيان العدد 313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.