معالم في تربية النفس في ظلال رمضان
لا شك
في أن شهر رمضان معلَم مهم في تربية النفس، ففيه من العبادات والأعمال الصالحة ما
يجعل النفوس تنقاد إلى رب العالمين، فتزكو النفوس، وتطهر القلوب، وتعيش الأرواح
أجواء إيمانية مفعمة بالبركات والرحمات.. ومما قيل من روائع الكلام عن دور شهر
رمضان في تربية النفس، ما كتبه الإمام ابن القيم (رحمه الله)، حيث قال: «لَمّا
كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ
تَعَالَى مُتَوَقّفاً عَلَى جَمْعِيّتِهِ عَلَى اللّهِ وَلَمّ شَعَثِهِ
بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلّيّةِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، فَإِنّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا
يَلُمّهُ إلّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطّعَامِ
وَالشّرَابِ وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ
الْمَنَامِ مِمّا يَزِيدُهُ شَعَثاً، وَيُشَتّتُهُ فِي كُلّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ
عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ
اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ
الصّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ
الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشّهَوَاتِ الْمعوقةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ
تَعَالَى، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهْ الْعَبْدُ
فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَلَا يَضُرّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ
الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَشَرَعَ لَهُمْ الِاعْتِكَافَ الّذِي مَقْصُودُهُ
وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيّتُهُ عَلَيْهِ
وَالْخَلْوَةُ بِهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ
وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ؛ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبّهُ
وَالْإِقْبَالُ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمّ كُلّهُ بِهِ، وَالْخَطَرَاتُ كُلّهَا
بِذِكْرِهِ، وَالتّفَكّرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرّبُ مِنْهُ؛
فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاَللّهِ بَدَلاً عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ فَيَعُدّهُ
بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ
لَهُ وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ
الْأَعْظَم»[1].
ورغم
الدور التربوي لشهر رمضان، إلا أن هناك ما يُضعف تأثير الصيام والأعمال الطيبة عند
كثير من الناس، فلا يستفيدون من رمضان، فيخرجون منه كما دخلوا فيه، وفي أحيان
كثيرة تكون المعاصي مؤجّلة فقط لما بعد الشهر، فلم يتركوها ويبغضوها ويتوبوا إلى
الله منها، بل هي فقط مؤجّلة لما بعد رمضان، والسبب الرئيس في هذا هو إلف العادة!
إلف العادة
من الآفات الخطيرة:
إن من
أعظم آفات العبادات: آفة الإلف والعادة، فعندما
يعتاد المرء العبادات وتصبح جزءاً من برنامجه اليومي كالصلاة، والأسبوعي كالجمعة،
والسنوي كرمضان والحج؛ تتحوّل هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تُضيف
جديداً إلى حياة الفرد.
وإن
مَن يدقق النظر في ركن الدين الأعظم بعد توحيد الله تعالى، وهو الصلاة، التي وصفها
الله سبحانه بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر فقال سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ
الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]؛ يجد أنها تحوّلت إلى عادة
من العادات عند كثير منا، فأصبحت لا تنهى عن الفحشاء ولا المنكر! بل صارت أشبه بجهاز تسجيل، يكبر المسلم ليدخل صلاته،
فيكرر لسانه المحفوظات التي اعتادها بلا تفكير منه فيما يقرأ ولا تدبّر لأذكارها،
ويخرج منها كما دخل، فلا خشوع ولا خضوع ولا قرب، إلا من رَحِمَ الله تعالى.
وكذا
في صيام رمضان، فالملاحظ أننا في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، نسمع قبله
بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته، وما يجب علينا من اغتنامه، حتى حفظ الناس
أحاديثه وآياته، فلم يتدبروها ويفكروا فيها، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ
في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها؛ عبر
أحداث رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم. ولئن كان الاعتياد على كثير من شؤون حياتنا الدنيوية
مقبولاً، فإن من غير المقبول أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله
سبحانه.
لذلك
ينبغي لنا أن نتذكر جيداً أن من آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة
إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثراً في نفسه أو سلوكه.
عبرة
تربوية في استقبال رمضان:
قبل
عام ودّعنا شهر رمضان، ثم ها هو يقبل الآن، وربما لم يشعر كثير منا بقيمة الزمن
الذي طُويت فيه الأيام والشهور، وأننا مسافرون إلى الله، ولكل عبد نهاية ولا بد،
قال الله تعالى: {وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْـمُنتَهَى} [النجم: 42]. وقد ذكر ابن أبي حاتم عن
عمرو بن ميمون الأودي أنه قال:
قام
فينا معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: «يا بني أوْد، إني رسولُ رسولِ الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى
الجنة أو إلى النار»[2].
وإن
مما يجب على العبد المسلم أن يبحث عن الزاد الذي يقرّبه إلى الله تعالى؛ حيث إن
الطريق موحش وطويل، ولا بد فيه من زاد، وقد جعل الله تعالى شهر رمضان لتطهير
القلوب من الخطايا والعيوب وغفران الذنوب، فهل استقبلنا رمضان بتوبة تغسل عنا
الذنوب؟! ومن ثم يُزال الران من
القلوب فنحسن اغتنام أيامه، لنخرج من رمضان بلا ذنوب، وما أدرانا فقد يكون رمضان
الأخير في حياتنا.. فاغسل ذنوبك قبل مماتك.
ومع
الأسف، فإن من الناس من يستقبل الشهر بعدم اهتمام وعدم اكتراث، كأنه شهر من
الشهور، وقد أخطأ من لا يفرق بين رمضان وغير رمضان، وأن يجعل يوم صومه كيوم فطره. وهناك من يعرف للشهر فضله ومكانته، لكنه لا يستقبله
بتوبة نصوح، وعزم أكيد على الاستقامة في أيامه ولياليه، بل يستقبله بفتور وعدم
جدية وقلة نشاط.
ومن
المعالم التربوية لشهر رمضان ما يلي:
تربية النفس
على التقوى:
تدريب
النفس على تحقيق التقوى والخوف من الله سبحانه وتجنب مساخطه والالتزام بطاعته؛ من
أسمى أهداف فريضة الصيام، قال تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قال
الإمام الرازي: «بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا
الْكَلَامِ أَنَّ الصَّوْمَ يُورِثُ التَّقْوَى لِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ
الشَّهْوَةِ وَانْقِمَاعِ الْهَوَى؛ فَإِنَّهُ يَرْدَعُ عَنِ الْأَشَرِ
وَالْبَطَرِ وَالْفَوَاحِشِ، ويهون لذات الدنيا ورئاستها؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ
الصَّوْمَ يَكْسِرُ شَهْوَةَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَمَنْ أَكْثَرَ الصَّوْمَ
هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ هَذَيْنِ وَخَفَّتْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ
رَادِعاً لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمُهَوِّناً
عَلَيْهِ أَمْرَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ جَامِعٌ لِأَسْبَابِ
التَّقْوَى فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَرَضْتُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ
لِتَكُونُوا بِهِ مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَثْنَيْتُ عَلَيْهِمْ فِي
كِتَابِي»[3].
تربية النفس
على التوبة:
عبر
عام طويل يحمل العبد على ظهره العديد من الذنوب والمعاصي ويقع في مخالفات كثيرة،
والذنوب تميت القلوب، وغبارها يزكم الأنوف، وإذا اعتاد العبد الذنب استسهله وخاض
في غماره، فيظلم قلبه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا
أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ
نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى
تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ» {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14][4].
قال
المباركفوري: «وقوله: (نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ) أَيْ جُعِلَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ أَيْ
أَثَرٌ قَلِيلٌ كَالنُّقْطَةِ شَبَهُ الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما،
وَيَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْرِهَا، وَالْحَمْلُ عَلَى
الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ وَالتَّشْبِيهِ؛
حَيْثُ قِيلَ شَبَّهَ الْقَلْبَ بِثَوْبٍ فِي غَايَةِ النَّقَاءِ وَالْبَيَاضِ
وَالْمَعْصِيَةَ بِشَيْءٍ فِي غَايَةِ السَّوَادِ أَصَابَ ذَلِكَ الْأَبْيَضَ
فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ يُذْهِبُ ذَلِكَ الْجَمَالَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ
إِذَا أَصَابَ الْمَعْصِيَةَ صَارَ كَأَنَّهُ حَصَلَ ذَلِكَ السَّوَادُ فِي ذَلِكَ
الْبَيَاضِ»[5].
وسواد
القلب – عياذاً بالله - ينعكس على الجوارح، فتسيء الأفعال، وترتكب القبائح، قال
الشيخ مصطفى العدوي: «السواد على القلب يمنع
الإيمان ونور الإيمان من الخروج من القلب إلى الصدر، فتجد الصدر مظلماً، كما أن
المشكاة تكون مظلمة إذا كانت الزجاجة سوداء، فتجد اليد تتحرك في ظلمة، والرجل تخطو
في الظلمات، والعين تنظر في الظلمات، وهكذا يتحرك كبهيمة عمياء إذا كان القلب قد
اسود من المعاصي»[6].
ولذلك
كان تحصيل المغفرة من أهم معالم تربية النفس في رمضان، فمن خرج من رمضان غير مغفور
الذنب فالوعيد في حقه شديد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ
أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ
لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ
يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ»[7].
قال
المباركفوري: «وقَوْلُهُ: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ) أَيْ:
لَصِقَ
أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ كِنَايَةً عَنْ حصول الذل. الرَّغَامِ وَهُوَ التُّرَابُ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ
ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الذُّلِّ وَالْعَجْزِ عَنِ الِانْتِصَافِ وَالِانْقِيَادِ
عَلَى كُرْهٍ. انْتَهَى.
وَهَذَا
إِخْبَارٌ أَوْ دُعَاءٌ وَالْمَعْنَى بَعِيدٌ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَكَّنَ
مِنْ إِجْرَاءِ كَلِمَاتٍ مَعْدُودَةٍ عَلَى لِسَانِهِ فَيَفُوزَ بِهَا فَلَمْ
يَغْتَنِمْهُ فَحَقِيقٌ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ، ثُمَّ انْسَلَخَ رَمَضَانُ أَيِ
انْقَضَى قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ أَيْ بِأَنْ لَمْ يَتُبْ أَوْ لَمْ
يُعَظِّمْهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الطَّاعَةِ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ
يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ لِعَقُوقِهِ وَتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهِمَا»[8].
وقال
المناوي: «رغمَ أنفُ من علم أنه لو كفّ
نفسه عن الشهوات شهراً في كل سنة، وأتى بما وُظِفَ له فيه من صيامٍ وقيام، غُفِرَ
له ما سلف من الذنوب، فقصّرَ ولم يفعل حتى انسلخَ الشهرُ ومضى، فمن وجدَ فرصةً
عظيمةً بأن قام فيه إيماناً واحتساباً، عظمه الله ومن لم يعظمه حقره الله وأهانه»[9].
إن
رمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة، ودواعيها متيسّرة، والأعوان عليها
كثيرون، وعوامل الفساد محدودة، ومردة الشياطين مصفَّدون، ولله عتقاء في كل ليلة،
وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى
تناله إذن؟! وإذا لم يُغفر له في رمضان
فمتى يُغفر لمن لا يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدّ في ليلة القدر؟! ومتى يصلح مَن لا يصلح في رمضان؟ ومتى يصلح من كان فيه
من داء الجهالة والغفلة مرضان؟ مَن فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد
غير الندم والخسارة[10].
وحصول
العبد على مغفرة الله سبحانه في رمضان ميسرة، متعددة الطرق والوسائل، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ»[11]، وزاد الإمام أحمد في مسنده[12]:
“وما
تأخر”. قال الحافظ ابن حجر: «قَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضاً فِي حَدِيثِ
عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ
وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ»[13].
وبيَّنت
هذه الأحاديث أن للمغفرة شرطين، الإيمان بالله سبحانه والإخلاص له واحتساب الأجر
عنده، قال الحافظ ابن حجر:
«قوله (احتساباً)
لأن
الصوم إنما يكون لأجل التقرب إلى الله، والنية شرط في وقوعه قربة، أي: مؤمناً محتسباً، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية
صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: (احتساباً) أي عزيمة، وهو أن يصومه على
معنى الرغبة في ثوابه طيّبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه»[14].
تربية النفس
على العفو والصفح:
من
الأمور التربوية التي يجب أن يخرج بها العبد من رمضان؛ أن يبتعد عن أذى الناس،
ويسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا ينبغي للعبد أن يصوم رمضان وهو واقع في الغيبة
والنميمة والسبّ والشتم والكذب، وهي معاصٍ يجب الحذر منها واجتنابها من الصائم
وغيره؛ إذ إنها تجرح الصوم وتُضعف الأجر؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه»[15]، ولقوله
صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنّة، فإذا كان يوم
صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم»[16].
فالصوم
ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والجِماع من الفجر حتى غروب الشمس، كلا، فهناك
حِكَم وأسرار هذا بعضها، لكننا نرى كثيراً من الناس تصوم بطنه ولا تصوم جوارحه،
فيصوم عن الحلال المباح، ويتناول ما حرم الله من المنكرات كقول الزور وفعل الزور،
فلا يتورع بلسانه عما حرم الله، ولا يغض بصره كذلك عن المحرمات، ويقع بيده ورجله
في المحرمات، بل ربما يفطر عند إفطاره على كسب محرم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن
مما يستجلب العبد عفو الله عنه بعفوه عن الناس، ولين الجانب معهم، وخفض الجناح
لهم، فعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا
أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ
عَنِّي)[17].
قال
ابن رجب: «والعفوّ من أسماء الله
تعالى، وهو الذي يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو، فيحب
أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض؛ فإذا عفا بعضهم عن بعض
عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته»[18].
الشعور
بوحدة الأمة:
وأنت
تصوم هذا العام وتفطر على ما رزقك الله من خيره وفضله، تذكّر إخوانك المبتلين في
كل مكان، في أرض الشام وبورما وغيرها، فاستشعر معاناتهم وآلامهم، وابذل لهم من
مالك ودعائك ما تستطيع، واحمد ربك على نعمة العافية، فإن من الأمور التربوية في
رمضان الشعور بوحدة الأمة وجماعية الطاعة، فلو أن الله تبارك وتعالى كلّف كل واحد
منا بصيام 30 يوماً وحده وقيام 30 ليلة منفرداً عمن حوله؛ لوجد صعوبة كبيرة، وكان هذا
العمل فيه مشقة عظيمة، لكن من رحمة الله تبارك وتعالى بالأمة أن جعل الطاعة
جماعية، ففي رمضان يصير الغالب على المجتمع حرصه على الصيام مع أعمال الطاعة
والخير والبر، فالمساجد تمتلئ، وأعمال البر والصدقات يتسابق فيها المتسابقون،
والأخلاق السمحة تفرض نفسها، والكل يقرأ القرآن ويجلسون في المساجد، وما ذلك إلا
بما أودعه الله في هذا الشهر من بركات، وتيسيره للناس سبل الخير عن غيره من الشهور.
حمية للجسد:
من
رحمة الله تبارك وتعالى بالعباد أن جعل الصيام وقاية وحماية وتنظيفاً للبدن مما
فيه من سموم وأدواء، ففي الصوم صحة البدن، وخلوصه من الأخلاط الرديئة.. وفي الصوم إضعاف للشهوات التي تزداد مع الأكل والشرب
وإطلاق النظر، فيأتي الصيام ليكسر هذه الشهوات، فيحفظ الإنسان جوارحه.
إن
البدن طوال العام مع العمل يكلّ ويملّ وقد تصاب أجهزة الجسم بالآلام والأسقام،
والأفضل أن تستريح الأعضاء بعضاً من الأوقات لتستعيد نشاطها وقوتها مرة أخرى، فمن
رحمة العزيز العليم أن جعل للمعدة وقتاً تستريح فيه كما يستريح غيرها من الأعضاء.
وبامتناع
الإنسان عن الشهوات بالصوم المشروع؛ ترتقي نفسه وتسمو روحه، وكأنها تقترب من الملأ
الأعلى الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون؛ فيكون هذا السمو الروحي وكسر حدة
الشهوات عاملاً مهمّاً ليتخلص المرء من حصار الآفات المهلكة.
الصوم في الحر
واستدارة الزمان:
الصوم
في الحر ومع طول النهار مدرسة عظمى في الصبر، وفيه من الأجر الكثير لمن صبر على
ذلك، وقد شاء الله سبحانه أن يجعل الشهر القمري رمضان محلاً للصيام، ولهذا الشهر
علامته الكونية الكبيرة؛ القمر بدءاً وانتهاءً يحمل في طياته عوامل الوضوح
والثبات، فلا تستطيع سلطة أو جماعة أن تُخفيه أو تحرّف المسلمين عنه، قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ
فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ»[19].
واختيار
السنة القمرية في التوقيت له فيه حِكَم عظيمة، فالسنة القمرية أقل من السنة
الشمسية بنحو عشرة أيام، فعلى هذا يتقدم شهر رمضان كل عام عنه في السنة الماضية
عشرة أيام، وعلى هذا ففي خلال ستة وثلاثين عاماً لا يبقى يوم من أيام السنة إلا
وقد صامه المسلم، يشهد له بصومه لربه.
اليوم
القصير.. واليوم الطويل.. واليوم الحار.. واليوم البارد.. وبذلك يتساوى المسلمون في كل
أقطار الدنيا في مقدار الصيام وشدته، ولولا هذا لكان نصيب أهل المناطق الحارة أشد
من نصيب أهل المناطق الباردة، وناس يصومون يوماً طويلاً أبد الدهر وناس يصومون
يوماً قصيراً.
ومن
رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن علق الصوم والإمساك على علامتين سماويتين يسهل
تمييزهما، هما طلوع الفجر، وغروب الشمس، وفي ذلك ضبط للوقت يستطيعه أي إنسان في
أكثر مناطق العالم كما قال سبحانه:
{وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْـخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْـخَيْطِ
الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ومن
رحمة الله بعباده أن منح الناس في رمضان وقتاً يعوّضون فيه كل ما فقدوه في صيام
اليوم من حاجة الجسد، وذلك بإباحة الطعام والشراب والنكاح ليلاً، ومنعه منهم
نهاراً، وبذلك يتمحض الصيام نفعاً خالصاً للإنسان بدنياً ونفسياً.
وفي
تعيين شهر رمضان بالذات شهراً للصوم، دون ترك التعيين للإنسان ليختار شهراً معيناً
لنفسه من السنة؛ إشعار للمسلمين بوحدتهم، ومن تعويدهم النظام والانضباط والاستسلام
لله عزَّ وجلَّ، وفيه فتح الباب لأعمال موحدة من الخير ينال كل مسلم من المسلمين
فيها نصيبه، وإعلان لدخول المسلمين جميعاً في يوم واحد مدرسة واحدة فيها الصيام
والقيام، والبذل والإحسان، وتلاوة القرآن.
يا باغي الخير
أقبل:
إن
أبواب الأجر في الإسلام كثيرة، وإن أسباب اكتساب الحسنات متعددة، وفي شهر رمضان
تتضاعف أجور الأعمال الصالحة، فضلاً من الله - عز وجل
- على
عباده، وينادي مناد في أول ليلة من رمضان فيقول: «يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر!
أقصر»[20].
إن
الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلّدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة
الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنزل فيه
القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء
وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلا أن بعض الناس أرخص لياليه، وأرهق فيها
بصره مع الفضائيات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال، ويتطلع لها لعل
فيها سعادة السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربح
الناس وهو الخاسر.
إن من
رحمة الله بعباده في رمضان أن ساعدهم على الطاعات وهيّأ لهم الوسائل المعينة على
ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت
الشياطين” [متفق عليه]. ففي شهر رمضان المبارك يفتح الله سبحانه وتعالى أبواب
الجنة على مصراعيها لكل تائب توبة نصوحة وفق شروطها الشرعية المعتبرة، وتغلق بوجهه
كل أبواب الجحيم.
ومن
رحمات الله تبارك وتعالى بالناس في شهر رمضان المبارك أنه يصفد الشياطين الذين
يسعون في الأرض فساداً.
تربية النفس
على الاستيقاظ بالأسحار:
الليل
واحة المتّقين، تجتمع فيه شتات الهموم، وتصفو النفوس، ويتوجه العبد للقاء الحي
القيوم، والسَّحَر وقت شريف، يقترب الله جل وعلا من عباده، لعلهم يتوبون إليه أو
يناجونه ويُنزلون حاجتهم به، لكن كثيراً من المسلمين طوال العام يكونون نائمين في
هذا الوقت الشريف، فإذا جاء رمضان قاموا إلى السحور فذكروا ربهم وصلوا ركعتين في
جوف الليل ودعوا ربهم واستغفروه.
وما
أروع ليل رمضان، يتقلب العبَّاد بين أنوار الساعات المباركة في ساعات رمضان، فتهتز
قلوبهم من روعة المشهد ولذة الإيمان، فتنساب الدموع.
أيها
المقبل على ربه! ما أحوجك في رمضان إلى توبة
صادقة ودمعة صادقة تغسل عنك أدران الذنوب، تكون عنوان ضراعتك لمولاك، وبرهان خوف
ورجاء ومحبة للرحمن، علها تكون طوق النجاة.
إن
السعيد من اغتنم مواسم الشهور، والأيام، والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها
من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة من يأمن
بعدها النار وما فيها من اللفحات.
فإياكم
والغفلة، وإياكم والتكاسل عن فعل الطاعات والخيرات في هذا الشهر المبارك، فإن
الغفلة ضيعت عمرَ كثير من الناس، واستهلكت لياليهم وأيامهم، وحين ينزل الموت بساحة
أحدهم يستذكر ما فرط فيه.
الانتباه لأيام
الخير ومواسم الفضل:
وختاماً.. فقد أظلتنا أيام غالية، ستمر كما مرَّ ما قبلها، لكن هل
ربحت تجارتك فيها أم خسرت؟ هل ازددت قرباً من ربك أم زدت عنه بُعداً؟ هل آواك ربك
ونصرك وسددك وأعانك، أم تجد الأخرى من ضنك الحياة؟
إن
الغفلة عن هذه الأيام وتضييعها ليس من سمات الصالحين، وإنما الصالحون يهتفون
دائماً: {وعجلت إليك رب لترضى} قولاً وعملاً واعتقاداً، فرضاً ونفلاً وإحساناً.
اللهم مُنَّ علينا بأعمال صالحة في رمضان وتقبلها
منّا، واملأ نفوسنا ثقة بك، ومحبة لك، وطمأنينة بذكرك، وأعنّا اللهم على ذكرك
وشكرك وحُسن عبادتك.
** ملف خاص (رمضان..
حكم وأحكام وآداب)
::
مجلة البيان العدد 313 رمضان 1434هـ، يوليو – أغسطس 2013م.
[1] زاد المعاد
لابن القيم (2/86- 87).
[2] تفسير ابن
كثير (4/335).
[3] مفاتيح الغيب
(5/240).
[4] سنن الترمذي
(3334)، وابن ماجه (4244)، وحسنه الألباني.
[5] تحفة الأحوذي
(9/178).
[6] سلسلة
التفسير للشيخ مصطفى العدوي (5/36).
[7] صحيح سنن
الترمذي للألباني (3545).
[8] تحفة الأحوذي
(9/372).
[9] فيض القدير
(4/34).
[10] لطائف
المعارف، لابن رجب، ص211، بتصرف يسير.
[11] أخرجه
البخاري (1901)، ومسلم (759).
[12] أخرجه أحمد
في المسند (22713).
[13] فتح الباري
(4/138).
[14] فتح الباري
(4/138).
[15] أخرجه
البخاري (5710).
[16] أخرجه
البخاري (1805)، ومسلم (1151).
[17] أخرجه الترمذي
(3513) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4423).
[18] لطائف
المعارف لابن رجب ص (228).
[19] أخرجه
البخاري (1909)، ومسلم (1081).
[20] أخرجه
الترمذي والنسائي وغيرهما وحسنه الألباني.