هل كتبت غزة هوية   المنتصر؟!

حيث تلقَّت تل أبيب أكثر من 300 مليار دولار منذ الحرب العالمية الثانية من المساعدات الأمريكية، وقد أشار السيناتور ليندسي جراهام إلى قيمة هذه العلاقة بقوله: «إن الدولة العبرية هي عيون وآذان أمريكا في المنطقة».


لا تزال المقاومة الفلسطينية تُحافظ على قوّتها في الميدان؛ رغم الثمن الكبير الذي دفعته مقابل صمودها سياسيًّا وعسكريًّا في مواجهة الاحتلال الصهيوني خلال الأشهر الستة الماضية.

وبفضل هذا الصمود تمكَّنت من دَفْع المنظومة الغربية باتجاه النظر في مستقبل الشعب الفلسطيني بكامله، وليس فقط البحث عن حلول أمنية لمخاوف الدولة العبرية؛ فبدلًا من التأكيد على رؤية الحكومة الصهيونية الاستيطانية للقطاع، والتي أفشلتها المقاومة؛ صرَّح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أمام لجنة المخصّصات بمجلس الشيوخ قائلًا: «إن الولايات المتحدة ودولًا أخرى تدرس مجموعة من الخيارات لمستقبل قطاع غزة، ليس منها وجود إسرائيل هناك».

وأضاف عرّاب الدبلوماسية الأمريكية في هذه الحرب: «إن الأمر الأكثر منطقية هو وجود سلطة فلسطينية فعّالة، لكن ذلك ليس من السهل تحقيقه». وطرح بلينكن -ضمن الخيارات الأمريكية الرائجة- حلًّا يتمثل في وجود قوات دولية بين غزة والكيان؛ بهدف حماية أمن الكيان الصهيوني، بعد أن فشلت الدولة العبرية في حماية نفسها.

وفي تقرير نشرته وكالة بلومبيرغ قالت: «إن من بين الخيارات الأمريكية: وجود قوة متعددة الجنسيات، قد تضمّ قوات أمريكية تكون تحت إشراف الأمم المتحدة؛ للإشراف على غزة. لكن هذا الحل الذي تريده واشنطن يشبه إلى حد كبير إنشاء جدار بشري عازل بين المستوطنات الصهيونية وقطاع غزة، وهو حلّ اتبعته المنظومة الغربية حينما ساعدت الدولة العبرية في تفادي المواجهة مع حزب الله في جنوب لبنان عقب حرب 2006م، وقد أكَّدت المواجهة الأخيرة فشله.

وتركّز واشنطن دائمًا على خطاب واضح وصريح، وهو خطة خروج صهيونية فعّالة من قطاع غزة. لكن في تصريحات لوزير الجيش الصهيوني يوآف غالنت أكَّد أن الخيارات الأربعة التي تضعها المنظومة الأمنية في غزة جميعها صعبة، وأولها السماح للسلطة الفلسطينية بحكم غزة، والأمر الثاني مرتبط بتأمين حكم عشائري يشبه إلى حد كبير تسليح عشائر فلسطينية تدعمها حركة فتح لحكم القطاع، لكنَّ هذه الخطوة تمّ وأدها بعد إعدام 11 شخصية عشائرية قامت السلطة الفلسطينية بالتواصل معها لهذا الغرض.

ويضيف غالنت: «إن احتلالًا صهيونيًّا كاملًا لقطاع غزة أمرٌ مُستبعَد؛ نظرًا للتكلفة الباهظة التي يمكن دفعها في هذا المستنقع»، بالإضافة إلى خيار وجود قوات دولية، وهو خيار طُرِحَ كثيرًا، لكن لا توجد أيّ دولة مستعدة للقبول بتحمُّل تبعات مثل هذا الملف؛ بسبب صعوبة التعامل مع المقاومة الفلسطينية التي هدَّدت منذ بدية الحرب باعتبار أيّ طرف أجنبي يدخل تحت المظلة الصهيونية بأنه عدو.

في تقرير لمجلة فورين بوليسي، أورد أن الدعم الأمريكي الثابت للدولة العبرية يُعدّ عنصرًا ثابتًا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ نكبة فلسطين عام 1948م، وقد أكَّد الرئيس الأمريكي جو بايدن على ذلك بقوله: «لو لم تكن هناك إسرائيل، لكان علينا اختراع واحدة»، لذلك يُنْظَر للمساعدات الأمريكية للدولة العبرية بأنها جوهر هذه العلاقة؛ حيث تلقَّت تل أبيب أكثر من 300 مليار دولار منذ الحرب العالمية الثانية من المساعدات الأمريكية، وقد أشار السيناتور ليندسي جراهام إلى قيمة هذه العلاقة بقوله: «إن الدولة العبرية هي عيون وآذان أمريكا في المنطقة».

لقد صرّح الرئيس الأمريكي جو بايدن في بداية الحرب على غزة، عقب إرسال واشنطن حاملات طائرات لحماية الدولة العبرية، بقوله: «لقد جئت للتأكد من أن إسرائيل قادرة للدفاع عن نفسها». وهذا الأمر تمت ترجمته من خلال تدفق أكثر من 230 طائرة شحن و20 سفينة محملة بالأسلحة منذ بداية الحرب؛ بحسب تقرير نشرته صحيفة يديعوت آحرونوت. وهذا الأمر عبَّر بصورة كبيرة عن مدى اعتماد الأمن الصهيوني على الدعم والتصنيع الأمريكي، وقد أوجز ذلك الباحث الراحل عبدالوهاب المسيري بقوله: «إن أهم أسباب بقاء إسرائيل هو الدعم الأمريكي اللامحدود والصمت العربي اللامحدود».

لكنَّ هذه الحرب تسبَّبت بأضرار بالغة للإدارة الأمريكية، وقوَّضت بشكل كبير مكانتها في الشرق الأوسط، وأكَّدت ضَعْفها وتجاوزها لمحاولة صهيونية عديدة لجرّها لمواجهة مع إيران التي استثمرت حرب غزة عبر ميليشياتها لإظهار تأثيرها في المنطقة؛ عبر مهاجمة مواقع أمريكية في سوريا والعراق، بالإضافة إلى قيام ميليشيات الحوثي بمهاجمة الملاحة المرتبطة بالدولة العبرية في البحر الأحمر.

وأضافت مجلة فورين بوليسي -في مقالة مطولة تناقش تقييم العلاقات الأمريكية الصهيونية بعد الحرب على قطاع غزة-: «لقد حان وقت تطبيع العلاقة بين الولايات المتحدة والدولة العبرية، والتعامل مع تل أبيب بالطريقة نفسها التي تتعامل فيها واشنطن مع أيّ دولة أجنبية أخرى؛ من مسافة بعيدة».

ما جاء على صفحات الفورين بوليسي يبدو أنه خرج نتيجة متغيرات أفرزتها الحرب وصمود الفلسطينيين في قطاع غزة، وفشل محاولات التهجير والانكسار والهزيمة التي تم استشعار كليهما في صفوف الجيش والمجتمع الصهيوني؛ فقد أظهرت الدولة العبرية بزعامة نتنياهو أنها فاشية ونازية؛ من خلال جرائمها التي ارتكبتها في قطاع غزة. بالإضافة إلى تجويع السكان الممنهج وتدمير البنية التحتية دون أيّ جدوى أمنية؛ لذلك دعا تشاك شومر، كبير الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي الناخبين الصهاينة إلى استبدال نتنياهو، ووصفه بأنه عائق أمام «محادثات السلام في غزة». وهنا يمكن تفسير الموقف الأمريكي من الحرب في غزة بين مسارين؛ الأول مرتبط بموقف شعبي يتزايد سخطه من الدعم الحكومي للدولة العبرية بسبب جرائمها، وبين موقف دولة عميقة تنظر إلى الدولة العبرية، على أنها أحد ركائز الأمن القومي الأمريكي في المنطقة.

لذلك فإن الحرب في قطاع غزة تحوَّلت من مجرد صدام أمني بين المقاومة والجيش الصهيوني إلى معضلة كشفت وعرّت توحُّش المنظومة الغربية بأكملها، فواشنطن التي تناقش بصورة مستمرة مستقبل غزة مع دول الجوار ومع حلفائها في المنطقة؛ ترفض مناقشة الفلسطينيين في هذا الأمر! من هنا يقول مايكل ميلشتين -أستاذ الشؤون الفلسطينية في جامعة رايخمان العبرية-: «إن القضاء على المقاومة في غزة مجرد شعارات شعبوية يعرف حقيقتها المجتمع الصهيوني؛ فالخيارات التي يطرحها الأمريكان جميعها سيئة، ولا يوجد خيار جيد بالنسبة للدولة العبرية».

لذلك يبقى مستقبل غزة رهينة بالفلسطينيين أنفسهم؛ لأن المقاومة في القطاع مُتجذّرة في عمق الكتل الاجتماعية الفلسطينية، ولا يمكن التعامل معها بصفتها معضلة أمنية تشبه «داعش» في العراق، فقد حاربت واشنطن في أفغانستان أكثر من 20 عامًا، ثم جلست مع حركة طالبان للتفاوض والانسحاب، وهذا الأمر هو الأقرب تحقيقًا في قطاع غزة، لكن المعضلة الحقيقية بالنسبة للأمريكيين والصهاينة هي الدور والأثر الذي سيلعبه الانتصار الفلسطيني في هذا المعركة؛ فالمطّلع على سير مفاوضات التهدئة المتواصلة من الجانبين يكتشف أن الصهاينة الذين يواصلون ادعاءهم بالانتصار يرسلون وفودًا رفيعة المستوى بصورة مستمرة لجلسات التفاوض، بالإضافة إلى الخلافات الكبيرة التي تتزايد بين نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب، ومن أبرزهم بيني غانيتس.

وهذا يؤكد أن الخلافات الحالية مرتبطة فقط بالضمانات الأمنية التي يمكن الحصول عليها من المقاومة حتى لا تُكرّر طوفان الأقصى، بالإضافة إلى ملف مؤثّر وفاعل في مستقبل غزة، وهو ملف الغاز، فقد وزعت الدولة العبرية 12 رخصة على ست شركات للتنقيب عن الغاز في الحقول التي تقع على السواحل الفلسطينية.

وقد قُدّرت احتياطيات الغاز الضخمة قبالة سواحل القطاع بتريليون قدم مكعب، وظلت مجموعة BGG متعددة الجنسيات تتفاوض وتتعاون مع الحكومة الصهيونية للحصول على حقّ التنقيب قبالة السواحل الفلسطينية.

ولقد خططت هيئة الجيولوجيا الأمريكية لاستخراج 122 مليار قدم مكعب من الغاز في منطقة بحرية تمتد قبالة سواحل فلسطين وسوريا ولبنان بقيمة صافية تزيد عن 453 مليار دولار، وقد زاد الاهتمام الأمريكي والغربي بهذه المنطقة عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا، خاصةً مع سعي الكتلة الغربية للحصول على بديل للغاز الروسي، وقد وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقية بهذه الخصوص مع مصر والدولة العبرية. وتم تأسيس منتدى غاز الشرق الأوسط عام 2019م لحماية مصالح الطاقة الغربية والصهيونية في ساحل شرق المتوسط، ويضم المنتدى قبرص ومصر وفرنسا واليونان وإيطاليا والأردن والدولة العبرية، وقد كانت فلسطين عضوًا في المنتدى، لكن تم استبعادها، وقد اقترحت الدولة العبرية تصدير الغاز المُستخرَج من حقول الغاز الفلسطينية لمحطات الغاز الطبيعي المسال المصرية، ورحَّبت مصر بهذا الاتفاق بعد انخفاض إنتاجها من الغاز.

لذلك يمكن القول: إن مستقبل غزة تجاوز هوية المنتصر في هذه الحرب؛ فجميع الأطراف المشاركة في الجريمة -التي استمرت لأكثر من ستة أشهر استشهد خلالها أكثر من 32 ألف فلسطيني، ودُمِّرت البنية التحتية للقطاع- مشغولة اليوم بوضع سيناريو يركّز على التركيز على منافع غزة الاقتصادية، والمشهد الأخير سيكون بكل تأكيد فلسطينيًّا، وستكون بداية لتحجيم قوة الاحتلال السياسية والعسكرية في المنطقة، وترويض الإدارة الأمريكية على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واعتباره طرفًا رئيسيًّا في تقرير مصيره.

  

أعلى