حـنـيـن نصف عقد
أنزوي تحت شجرة التين الهرمة والوحيدة، أرنو
بحزن فادح إلى الأشجار، والعشب الذي علته النفايات والأوراق المتساقطة. أشير إلى
صاحبة العربة، ذات الملامح القاسية «قهوة سوداء». أغوص في أعماقي، وأتابع شريطاً
سينمائياً لا يراه سواي..
وجدتني
طفلاً في ربيعه العاشر يركض، ذات مغيب، خلف قطيع غنم ممتلئاً بالحياة، في قرية
يخيل إلي - هنا والآن- أنها صارت بعيدة، بعيدة جداً..!! أحسست بأنني في أمسِّ
الحاجة إلى أن أتوسد ساقها، وأسألها عن حيواناتها ودواجنها، وعن الأشجار
والنباتات.
أزف
الغروب، فتضاعف حزني المشوب بحنين موجع..
* *
*
هجرت
قريتي بعد أن علت الأطباق الهوائية أسطح بيوتها، واغتال الأسفلت ممراتها الزراعية،
وصرت أبحث عن ملامح ذلك الوجه الأليف، ذي التجاعيد المحببة والآسرة في ملامح
العجائز العابرات..
* *
*
ابتعد،
وإلا سأنادي الشرطة!
صرخت
العجوز التي اعتدت رؤيتها في حيّنا، تتوكأ عصاها وأتانها تسبقها.. أقبلت عليها،
وقلبي يخفق بشدة.. كانت تجلس على الرصيف وتشدّ لجام دابتها، التي تتململ مستعجلة
العودة إلى البيت، فتحدثها العجوز كما لو كانت تدرك ما تقول؛ تترجاها أن تصبر
قليلاً حتى تستريح، تحرك الأتان رأسها في غضب طفل مدلل، كأنما تحثها على النهوض،
تغمغم المرأة وهي تستوي واقفة: «الله، يا ابنتي.. ما بكِ؟». دنوت منها أكثر مدججاً
بشوق نصف عقد، كأنما أدنو من جدتي، التي رحلت قبل خمسة عشر عاماً، وندت عنها
صرخة..
تجمهر
بعض المارة، ولامني أحدهم معتقداً أنني أفكر في سرقة ما يجود به عليها الناس..
ابتعدت دون أن أنبس بكلمة، وأحسست بدمعة ساخنة ومالحة تغازل شفتي.
:: مجلة البيان العدد 309 جمادى
الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.