انسداد الأفق السياسي في الـعـراق

انسداد الأفق السياسي في الـعـراق


حين تكتب كلمة انسداد في محرك البحث تفاجئك كلمات تسبقها كلمة انسداد؛ وهي: الأذن، والأنف، والشريان التاجي، والأمعاء... والقائمة تطول، لكن ليس من بينها انسداد الأفق على الإطلاق، فلطالما ارتبطت لفظة الأفق بكلمة الواسع، لكن إذا أضيفت كلمة السياسي إلى الأفق فستجد الانسداد واضحاً ولا تحتاج الإشارةُ إليه لكثير عناء، لا سيما أن الأفق الناشئ في العراق صناعة احتلالية.

الأفق السياسي مصطلح تتلاعب به الألسنة بتغيير مراميه حسب المخطط وحسب الانتماء، بل حسب الهوى، إلى أين يميل يمكن أن يسد الأفق من زاوية نظره الضيقة أو يفتحه إذا كانت الزاوية مفتوحة ويُنظر منها إلى الأفق من عل.

إذن؛ الانسداد والأفق والسياسي والعراق متلازمات هذه المقالة لبحث التدافعات والإزاحات والنزاعات والتكتلات التي تنتمي إليها وتتبناها أحزاب السلطة الحاكمة في العراق، وهؤلاء يمثلون الفسطاط الأول، بينما يمثل الفسطاط الثاني (مجموع القوى المناهضة والممانعة لمشروع الاحتلال) الذي تكالبت عليه القوى الاحتلالية وقوى التمدد الإقليمي الإيرانية، فهو فسطاط العمل السياسي المناهض والممانع للاحتلال ومشروعه.

وللأمانة القلمية ستتناول هذه المقالة الانسدادين؛ انسداد أفق أحزاب السلطة المنخرطة في المشروع الأمريكي، وكذلك انسداد أفق بعض القوى الرافضة للاحتلال، ما يجعلها عرضة للاختراق والانصياع أو الانخراط بمشروع كان يناكفه ويرفضه.

من معالم انسداد الأفق السياسي للفسطاط الأول أطروحات المشاريع التفكيكية أو تلك التي تدّعي التكتلية الجديدة أو التسقيط السياسي وما إلى ذلك من مشاريع القصدُ منها الاستفراد والاستقواء بما يملكه كل طرف منهم من دعم الإدارة الأمريكية أو الاعتماد الإيراني أو أي طرف يمتلك خيطاً من خيوط اللعبة السياسية الجارية في العراق.

العملية السياسية اليوم في العراق يمتلكها رئيس الوزراء نوري المالكي، فبيده عناصر الاستقواء مجتمعة فيما يخص تهديده باقي شركائه، فهو يمتلك السلطة والمال، يمتلك المؤسسات الأمنية؛ وزارة الدفاع ووزارة الداخلية والأمن الوطني والمخابرات، بإدارتها بالوكالة مع مضي أكثر من نصف مدته الثانية، ومعالجاته تشي بالتحضير لولاية ثالثة مع انسداد أفق شركائه في التحرك والمناورة، ولم يعد عند طالبي المناصب سوى الارتماء بحضن مشروع المالكي وتسويقه على أنه المنقذ للعملية السياسية والمذهب، أو أن انهيار العملية السياسية قادم على رؤوسهم إن لم ينخرطوا في مشروعه، وليس غريباً على أي متابع ما للمال السياسي من فعل في تغيير القناعات وانصياع التوترات.

دارت على مدى أشهر قليلة أطروحة سحب الثقة من المالكي تبناها خصمه المفترض إياد علاوي رئيس كتلة العراقية، ومسعود البرزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وبغض النظر عن نجاعة هذه الفكرة بمحاولة الحراك الداخلي في العملية السياسية، فالمراقب السياسي يرى فيها مشروعاً غريباً عن العراق مثلما العملية السياسية التي صنعها المحتل، فهي لا تختلف كثيراً عنها، ومع أن هذا الحراك المطروح لا يعني كثيراً تغيير الوجوه، لكن القوى الإقليمية المتمددة في العراق ترى ذلك تنافساً وتدافعاً لا بد من الدخول في خضمه، ما استدعى دخول مقتدى الصدر وتصدره شاشة التصريحات السياسية بضرورة عزل المالكي لاستحواذه على السلطة عبر بوابة سحب الثقة، ولما كانت كتلة علاوي وكتلة الأكراد بزعامة البرزاني لا تكفي لجمع الأصوات المطلوبة، تكفل مقتدى الصدر بإتمام عدد الأصوات من كتلة الأحرار التي تنتمي لتياره وتمثل (40 صوتاً) لطرح قضية سحب الثقة من المالكي، ومن خلال قراءة متعمقة لأسلوب التصعيد الموحي بأن سحب الثقة صار وشيكاً، يتفاجأ المراقب لهذه القضية بأن ثمة تصريحات توحي أيضاً بالتراجع، وهذه التصعيدات والتراجعات لها أسباب يمكن إجمالها بالتالي:

أولاً: إن شركاء العملية السياسية لا يصلون إلى مرحلة كسر العظم فيما بينهم مهما تطور خلافهم؛ لأن ذلك يعدّ من السيد الأمريكي خطاً أحمر.

ثانياً: إن معظم اللاعبين إنما هم طارئون على السياسة، فهمهم الأول جني الأموال من السحت الحرام وليست هناك قضية للانتماء.

ثالثاً: إن عملية التفكيك التي اتبعها المالكي لم تكلفه كثيراً، فقد وعد بمشاريع مقاولات للنواب المنسحبين من قضية سحب الثقة، وتعيين بوظائف لا تقل عن مدير عام لـ 25 شخصاً من أقارب النائبات اللاتي يسحبن تواقيعهن، فحقق بذلك ترغيباً لمن يريد أن يعب من المال الحرام، ويقابله ترهيب مزدوج لمن يبقى في قضية سحب الثقة من المالكي، وسلاحه في ذلك المادة 4؛ إرهاب لتجريم أي نائب يسعى لسحب الثقة منه إن كان مخالفاً له في المذهب، أما إذا كان موافقاً له في المذهب ويناكفه فإن ترتيب ملفات الفساد لن يكون بعيداً عن متناول القضاء العراقي الذي يستطيع تحريكه وقتما يشاء.

ماذا يمكن أن يدل هكذا نوع من الحراك من داخل العملية السياسية غير على انسداد في الأفق السياسي؟ بل ربما يمكن وصفه بنتيجته التي آلت إليه بأن هشاشة الموقف راجعة إلى نوعية الاختيار التي أرادتها إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق لمشروع تريد تسميته (العملية السياسية).

العملية السياسية في العراق هشة باعتراف أصحابها المنخرطين فيها، وليس ذلك تجنياً، وإن إطلاق مصطلح انسداد الأفق السياسي عليها تحصيل حاصل لطبيعة تشكيلها، فهي مجموعة شركاء متشاكسين يربطهم راعٍ واحد الجميعُ متفق على اتباعه فيما يريد أو يهوى ويطيعونه إلى أي طريق يريدهم أن يسلكوه، وقديماً قيل والأمثال تضرب ولا تقاس (الغنم تتبع راعيها)، فالانسداد يتأتّى من أن هذا الراعي ترك مساحة للتحرك والمناكفة والتدافع داخل حدود مساحة حددها بدقة، فالمطروح على هذه الساحة لا يتعداها، ويعلم جيداً من يطرح أي مشروع أن هناك خطوطاً لا يمكنه تجاوزها وقد سمح بها سيدهم من أجل إضفاء مسحة واقعية على الحراك ليحسب الناظر من غير هذه الساحة أو الذي يبعد عنها بمسافة ما أن حراكاً حقيقياً وعملية سياسية قائمة على قدم وساق، لكن هذه المحددات وتلك المساحة وهاتيك التصورات لم تعد تجدي نفعاً بتزاحم اللاعبين المستأجرين وخروجهم على بعضهم بالإزاحة والإقصاء بغية ضمان بطاقة التأهل لمرحلة بديلة يحاول أن يلعبها راعيهم، أو أنهم هكذا يحسبونها بأنه من الممكن التجديد لمرحلة لاحقة غير آبهين بانسداد الأفق السياسي وانغلاق النفق الذي اختاروه وهم يمنون أنفسهم أن ثمة مخرجاً في نهايته وإذا بهم في متاهة، لا سيما أن أخبار الاضطراب الإقليمي بدأت تضغط عليهم فراحوا يستصرخون النعرات الطائفية لركوبها مرة أخرى كما فعلوا في عامي 2005 و2007، لكن ليس في كل مرة تسلم الجرة كما يقال.

الحقيقة التي تظهر للمراقب للشأن العراقي ويجب الإشارة إليها، هي أن هذه العملية صنعت أناساً لم يكونوا قبل دخولها شيئاً يذكر، بمعنى أنهم لم يصنعوها لكنهم متكئون عليها يستندون إلى توجيهات مخرج هذا العمل البائس الذي عيّنهم واعتمدهم أدوات لمشروعه.

وفي الفسطاط الثاني القوى المناهضة للاحتلال والممانعة لمشروعه الرافضة بقوة الانخراط فيه على مدى ما يقرب من العقد من الزمن تكللت جهودها بنجاحات وإنجازات قلّ نظيرها في تجارب حفظها التاريخ وتغنت بها الشعوب الحرة، ومع ذلك فإن هذه الإنجازات وذلك الصمود لا يعني مطلقاً عدم مراجعة الخطوات السابقة والتهيؤ لخطوات لاحقة في ضوء هذه التطورات، فلا يجب أن يقودنا الاكتفاء بالإنجازات إلى عدم الالتفات إلى مواطن الفشل، فالفشل في موضع ما لو تأملناه بعين النقد والمواجهة لدلّنا بالتأكيد على طريق لم نسلكه لمعالجته. لقد عانت هذه القوى بعض الانسدادات في أفقها السياسي، بعضها داخلية، وأخرى خارجة عن إرادتها؛ نظراً لتكالب القوى الدولية ووقوف القوى الإقليمية ضدها بشدة.

القوى العراقية الرافضة للاحتلال ومشروعه ميدانها الواقع بكل تشابكاته، ومعايشة الواقع تدعوها لمراجعة التصورات بصورة مستمرة، لأن الواقع تتحكم به متغيرات ومخططات تختلف ما بين مرحلة وأخرى، ومعالجة الواقع بتصورات مسبقة من دون تحديثها تجعل بين الواقع والمعالجة تنافراً وعدم استجابة.

ما يعنينا اليوم ونحن في مرحلة ما بعد التطورات الإقليمية في المنطقة، أن القوى الرافضة لا بد لها أن تطرح مشروعها الأول بآليات جديدة تستطيع معها الصعود إلى منصة الحدث، وأن تكون قضيتها حاضرة في المشهد السياسي. وفي ظل المتغيرات الجارية في المحيط الإقليمي للعراق، لم يعد بإمكان قوة منفردة البقاء والاستمرار من دون وحدة واتحاد أو قل على أقل تقدير تنسيق الفعل الميداني وتحديد أهداف التغيير المنشود بنوعيه؛ القريب والاستراتيجي البعيد المدى.

من بين أخطر التحديات التي واجهت القوى العراقية الرافضة لمشروع الاحتلال، وجود شخصيات قابلة للشراء، صحيح أنها من خارج هذه الحركات، لكن التقسيم البريمري (نسبة للحاكم المدني بول بريمر الحاكم بأمر الاحتلال الأمريكي في العراق) يجعل هذه النماذج محسوبة على مكون معين، فتمت محاربة الحركات بمن ينتمون إليها نسباً عشائرياً أو انتساباً مذهبياً؛ لتشويه صورة الحركة مرة، وشيطنتها في مرة أخرى، والإيحاء بأن ثمة أناساً ينتمون للشريحة نفسها التي تنتمي إليها حركات الرفض في غالبها، يقبلون الانخراط في مشروع الاحتلال، وقد نجح فعلاً المحتل الأمريكي في استقطاب بعضهم والإغداق عليهم لمدة معينة، واليوم تعمل الحكومة بالأسلوب نفسه فيما يسمى المصالحة الوطنية، فهي أكذوبة لا يمكن تصديقها إلا ممن ارتضى لنفسه بيع موقفه.

خلاصة القول: إن الانسداد في الأفق السياسي ينبغي أن لا يكون نهاية المطاف، فإذا كان الانسداد في طريق ما نتيجة أسباب يمكن معالجتها، فلا بد من تتبع طرق العلاج. أما بالنسبة لانسداد أفق العمل السياسي للعملية السياسية الجارية في العراق، فإنه راجع بالتأكيد إلى بنيوية هذه العملية، وهو نتيجة طبيعية لها، والحل يكون بتمكين أبناء العراق من إقامة حكومة تكنوقراط تعمل على إدارة الدولة لمدة سنتين لتهيئة الظروف والأحوال لعمل الأحزاب وإقامة انتخابات حرة يستطيع أبناء العراق فيها ممارسة حقهم من دون تأثير خارجي أو إرهاب داخلي، لتأتي بعد ذلك مسؤولية كتابة الدستور وإقامة الحكم الرشيد على أساس صحيح، أما غير ذلك فلن تكون له نتيجة سوى الانسداد السياسي.

:: مجلة البيان العدد303 ذو القعدة 1433هـ، سبتمبر - أكتوبر 2012م.

أعلى