• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تدافع وبناء القيم.. السياق الدولي والواقع الإسلامي

تدافع وبناء القيم.. السياق الدولي والواقع الإسلامي



نظَّم المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، بالتعاون مع حركة التوحيد والإصلاح ومجلة البيان؛ ندوة دولية عن (تدافع وبناء القيم.. السياق الدولي والواقع الإسلامي)، وذلك في مدينة الرباط في مؤسسة محمد السادس بتاريخ 7 شوال 1433هـ. وتأتي هذه الندوة إثر تغيّر سياسي واجتماعي واسع على صعيد الدول العربية، ما يجعل من موضوع القيم والهوية أحد أبرز الموضوعات اللازم إثارتها؛ لأن هذه الفترات من أخصب فترات غرس المفاهيم وتجذيرها في المجتمعات، ولكون موضوع القيم محلَّ تدافع بين مختلف المرجعيات الفكرية والثقافية في العالم العربي، ما يستدعي تعميق النظر في هذا الموضوع لتحصيل مجموع توصيات متعلقة يإصلاح المضامين المعرفية والسياقات العملية.

بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، ألقى الشيخ أحمد الصويان، رئيس تحرير مجلة البيان، كلمته الافتتاحية التي تحدث فيها عن أهمية الحديث عن القيم من حيث إن هوية المرء تتشكل من مجموع القيم التي يؤمن بها، وإن قوة الأمم والحضارات تكون بقدر قوة القيم وتماسكها. وذكر أن الأمم الغالبة تجهد في تصدير قيمها وتسويقها للمجتمعات. وندب واقع كثير من المثقفين المهزومين - على حدِّ تعبيره - الواقعين تحت سطوة القيم الغربية، ما حدا ببعضهم إلى أن يقبل كل ما أنتجته الحضارة الغربية من خير وشر. وختم كلمته بِحَثِّ الحاضرين على ضرورة مجاوزة تدافع القيم إلى بنائها وتصديرها في المجتمعات باعتزاز لا انكسار.

ثم ألقى المهندس محمد الحمداوي، رئيس حركة التوحيد والإصلاح، كلمة افتتاحية أخرى أكَّد فيها قيمة الحوار بين الجهات المنظمة للندوة، وثنَّى بالحديث عن العلاقة الوطيدة بين حركة التوحيد والإصلاح ومجلة البيان، ومدى التعاون بينهما، مع ما لكلٍّ منهما من خصوصية واجتهادات قد تخالف بها الجهة الأخرى.

المفهوم وآليات البناء:

ثم افتتح الأستاذ محمد بلكبير المحور الأول من الندوة المتعلق بـ (المفهوم وآليات البناء)، وقد تحدث عن الدلالة اللغوية لمصطلح (القيم)، وبيّن أن دلالته اللغوية تدل في أقرب مضامينها على معنى الثبات والدوام. وذكر أنه لا بد في بناء هوية المجتمع من العناية بسياق قيمي عام (بناء منظومة القيم)، لا أن يكون الشأن متعلقاً بقيم منثورة، وأنه لا بد من الاتفاق على جهاز مفاهيمي للقيم موحد نوعاً ما ليستقيم التفريع عليه. كما أشار إلى أن معركة القيم تستهدف الشباب والمرأة خصوصاً بدعوى التحرر والترفيه والارتقاء؛ من خلال المسلسلات وغيرها، وعن طريق المعاودة والتكرار لتُعاد صياغة ذواتنا وما يحكمها من معايير أخلاقية وقيمية. ثم ختم فقرته بالحديث عن تجربة الرابطة المحمدية - بصفته ممثلاً لها في الندوة - في بناء القيم ومكافحة السلوكيات الخاطئة التي تمس بها.

وعن (مناهج وإشكاليات البحث في قضايا الهوية والقيم)، ذكر الأستاذ أحمد فهمي أن العالم الإسلامي يتعرض لأكبر عملية تجريف حضاري. وعرض في حديثه لبعض الإشكاليات التي تظهر من خلال مطالعة البحوث والدراسات التي تناولت موضوع الهوية والقيم، ومنها:

1 - أن التصور في المنهجيات الإسلامية المطروحة يعتمد على الحدس ويفتقد التحليل.

2 - القصور الحاصل من استخدام المنهجيات المعرفية الغربية لعظم الفارق بين مكون الحضارتين، ومن أبرزها: تحييد هذه المنهجيات للجانب الإلهي.

3 - ثم تحدث عن سلبيات بعض المناهج، كالبنيوية والحداثية، وذكر أن هناك أعراضاً وأمراضاً ترد على الهوية، وهي: نسيان الهوية، تشوشها، وفقدانها. ولكلِّ عَرَضٍ معالجة تختص به؛ فنسيان الهوية يحتاج إلى إعادة تذكير، وتشوشها يحتاج إلى إعادة تعريف، وفقدانها يحتاج إلى إعادة تأسيس، ومن الخلل علاج بعضها بما يتناسب مع الآخر. وختم حديثه بذكر أنواع الدراسات التي نحتاج إليها في هذا الحقل من المعارف، وهي على سبيل الإجمال:

1 - دراسات فكرية: تتناول جانب النقد والبناء. وذكر أن في الدراسات الإسلامية استغراقاً في النقد.

2 - دراسات اجتماعية: تتناول الواقع القيمي في المجتمع الإسلامي، وترصد الواقع بصفته متغيراً ديناميكياً.

3 - دراسات سياسية: تختص ببلورة الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى السياسية الإسلامية في الحفاظ على الهوية.

4 - دراسات دعوية: تُعنى بوضع خطط وإقامة مشاريع لبعث القيم ونشرها.

وأسهم د. عبدالله ساعف في هذه الفقرة بحديث تاريخي عرض فيه للعلاقة بين القيم الأخلاقية والسياسة (إشكالية قديمة بأسئلة جديدة)، ووسَّع الحديث عن النظرية المكيافيللية وطرائق الباحثين في تناولها.

ثم استعرض د. يوسف العليوي بعض تصنيفات القيم، فذكر القيم الدينية، وأن منها ما هو سالم ومحرَّف، وذكر القيم العرفية، وأن منها الإيجابي والسلبي، وذكر أن من القيم ما يتعلق بهوية معينة، ومنها قيم مشتركة لا تخص أمة دون أخرى؛ كالعدل والصدق. وختم فقرته والمحور الأول بالحديث عن دور المؤسسات الدعوية في بناء القيم وتعزيزها ووظيفتها في تحصين قيم الإسلام الفاضلة.

واقع تدافع القيم في العالم العربي:

وأما المحور الثاني فكان عن (واقع تدافع القيم في العالم العربي)، وقد ابتدأه د. طيب بو عزَّة بالحديث عن الصراع على القيم من منظور فلسفي وتاريخي عرض فيه لمختلف الفلسفات في تعاطيها مع القيم من جهة مفاهيمية وتاريخية.

ثم تحدث الأستاذ محمد طلابي عن قيمة الآدمية في ميزان الحرية، وبيّن في حديثه الفارق في الغاية الوجودية بين القراءة الإسلامية والفلسفة الغربية، وأن الفرق بينهما يصل حدَّ التعارض المطلق، فإن الأساس الذي قامت عليه الفلسفات الغربية القيمةُ المادية، بخلاف الإسلام؛ فإنه قائم على قيمة الإيمان بالله تعالى، كما ذكر أن للربيع العربي مقاصدَ منها إنتاج القيم، وأنه لا بد من رسم خريطة طريق لإنتاج القيم، وفصَّل الحديث عن قيمة الحرية بصفتها مقتضى من مقتضيات الآدمية، وبيَّن الفرق بين الحرية في المنظور الإسلامي والمنظور الغربي، وأشار إلى أن إطلاق الحرية في المنظور الغربي هدرٌ للآدمية ودفعٌ لها نحو عالم القطيع، أما في المنظور الإسلامي فلم تكن الحرية مطلقة، بل جاء في التشريع الإسلامي ما فيه كبحٌ للشهوات حفاظاً على قيمة الآدمية.

ثم تحدث كلٌّ من د. سمير بو دينار ود. عمر الكتاني عن واقع تدافع القيم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فذكر د. سمير بو دينار بعض سمات ومعالم الحضارة المعاصرة التي ينبغي استحضارها حين بحث موضوع القيم، ومنها أن الحركةَ تسبق العمل، والجوابَ يسبق السؤال، ما خلق تحدياً وجعل الحضارة تدفع فاتورة باهظة، وخشي د. عمر الكتاني من تشكُّل معركة اجتماعية وطنية عند فقد التوازن في تدافع القيم، واستعرض النموذج الماليزي في التنامي الاقتصادي، وبيَّن أن سبب هذا التنامي ليس راجعاً للسياسة الاقتصادية، وإنما هو محصَّلٌ من تجانس القيم الاجتماعية.

وعن واقع تدافع القيم في العالم العربي على المستوى التعليمي، تحدث د. محمد الدويش عن بعض مناهج التعليم العربي ودساتير دولها، وأكَّد على حضور مجموعة من القيم فيها على تفاوتٍ بينها، واستشهد لذلك بثلاثة نماذج (السعودية، الأردن، والمغرب)، وذكر أنه لا بد من ترسيخ أن وظيفة التعليم ليست مجرد تخريج كوادر لسوق العمل، بل أساسُ وظيفتها تحقيق القيم ومعاني الإيمان بالله تعالى.

ثم عدَّ قوى التدافع الناشطة في طبيعة القيم فذكر منها: الحكومات الغربية، المنظمات الدولية، الحكومات العربية - على اختلاف بينها من جهة الخلفية الفكرية والضغط الدولي وحجم القوى المحلية ومدى إدارة الصراع -، القوى الإسلامية، سواء كانت مؤسسات أو حركات، والقوى الوطنية.

وتحدث عن الموقف اللازم تبنيه في هذا التدافع؛ كالاعتناء بالطرح الإيجابي، ومراجعة الواقع في ضوء المرجعية الإسلامية، وبذل الجهد والحراك الفاعل، وتفهُّم أن المدافعة سنة ربانية، والارتقاء بأداء المعلمين والمعلمات، والتعاون وتنسيق الجهود.

ثم ختم د. حسن الأسمري هذا المحور بالحديث عن واقع تدافع القيم على المستوى الإعلامي والفني من جهة الأساليب والمحتوى، ونبَّه على أن التربية الإعلامية باتت ضرورة نظراً لهذا الضخ الإعلامي الجارف الذي يجتاح كل فرد من أفراد المجتمع.

التجارب في تدافع القيم:

وأما المحور الثالث فتركَّز الحديث فيه عن (التجارب في تدافع القيم)، وافتتح الحديث فيه د. باسم خفاجي، وأكد على مجموعة من القضايا، منها: ضرورة ألا نغفل عن قيمنا بسبب استغراقنا في مدافعة الخصم، ومنها: أن أحد أهم عناصر القيم لدينا أن قيمنا مرتبطة بمصدر محفوظ، وأن من الخطأ أن نجعل قيم الغرب قيماً معيارية بحيث نقيس قيمنا على وَفقها.

وتحدث كلٌّ من د. فؤاد العبدالكريم ود. عزيزة البقالي عن تجربتين في ميدان تدافع وبناء القيم، فعرض د. فؤاد طائفةً من المشاريع الخليجية، وصنَّفها باعتبار عدة محددات، وهي: المكان، والزمان، والمجال، والكيفية، والوسائل، والجهة المنفذة، والفئة المستهدفة، والكلفة، والجودة، فاستعرض - بإيجاز - سبعة مشاريع توزَّعت في أربع مدن، وهي: الرياض والمدينة ومكة والكويت، وبعرض مفصَّلٍ تحدث عن مشروع ركاز لتعزيز الأخلاق، ومشروع مجتمع القيم النبوية، ومشروع قيمنا، ومشاريع مركز باحثات لدراسات المرأة.

أما د. عزيزة البقالي فخصَّصت حديثها عن التجربة المغربية، وعرضت لدور حركة التوحيد والإصلاح في ميدان تدافع القيم، وأن الحركة اعتمدت مسلك التدافع السلمي والمشاركة الإيجابية.

ثم ختم د. مصطفى الخلفي هذا المحور الأخير بالحديث عن مستقبل تدافع القيم، وبيّن المحددات الداخلية والخارجية المؤثرة في القيم، وانتهى إلى ضرورة إنشاء مشاريع علمية تتناول موضوع القيم، وتحدث عن دور مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والدراسات في ذلك.

إعلان الرباط حول ربيع القيم:

وبعد انتهاء المحاور قرأ د. مولاي عمر بن حمَّاد، نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح، (إعلان الرباط حول ربيع القيم)، ونصه ما يلي:

إننا نحن العلماء والمفكرين والباحثين المجتمعين في الرباط بتاريخ 25 أغسطس 2012 في إطار الندوة الدولية التي نظمها المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة تحت عنوان (تدافع القيم.. السياق الدولي والواقع الإسلامي)، وبعد البحث والنقاش لمختلف البحوث والدراسات التي تقدم بها علماء وأساتذة أجلاء من داخل المغرب وخارجه واستحضار السياق الدولي والجَهَوي المتميزين بتزايد التفاعل والتدافع بين المنظومات القيمية إيجاباً أو سلباً، تلاحقاً تلقائياً أو سعياً مقصوداً الإلحاق والتنميط القيمي والثقافي.

واستحضاراً للربيع الديمقراطي الذي هبت نسائمه في المنطقة العربية والإسلامية، وما برز من خلاله من تطلع لقيم العدالة والمساواة والاستقلال والكرامة، وما سيكون لذلك من تداعيات على تدافع القيم والهويات والتفاعل بين المرجعيات.

وبعد الشكر للجهة الداعية على حسن التنظيم والوفادة والتنويه بالمستوى العلمي الرفيع للبحوث والعروض المقدمة والتي تناولت القضايا والمحاور التالية:

- مفهوم القيم وآليات البناء.

- مناهج وإشكاليات البحث في قضايا الهوية والقيم.

- دور الأسرة ومؤسسات المجتمع المدني في بناء القيم.

- واقع تدافع القيم على المستوى السياسي والتعليمي والإعلامي والفني.

- بعض التجارب في مجال تدافع القيم.

فإن المشاركين من خلال هذا الإعلان (إعلان الرباط حول ربيع القيم) يؤكدون ما يلي:

أولاً: أهمية القيم في حياة المجتمعات وبناء المجتمعات والحفاظ على قوتها وتماسكها وضمان اضطلاعها برسالتها في مجال بناء الحضارة والعمران على اعتبار أن القيم هي معايير ملهمة ومرشدة لحياة الإنسان، فرداً وجماعة، في مختلف أنشطته العقلية والمعرفية والأخلاقية والسلوكية والانفعالية والوجدانية.

ثانياً: أن القيم هي أعظم رصيد تراكم لدى المجتمع وانتقل من جيل إلى جيل باعتبارها تختزل رصيد الحكمة الإنسانية ورصيد الخبرة البشرية الإنسانية، سواء تأتى لها عبر هداية الوحي أو عبر الحكمة الفلسفية والتجربة الإنسانية التاريخية؛ وأن الإفلاس في عالم القيم هو أقصر طريق يمكن أن يقود البشرية إلى الهاوية، وأنه إذا كان من الممكن أن نتصور إمكانية استدراك الإفلاس الاقتصادي أو السياسي وأن الأمم يمكن أن تستأنف مسيرتها وتقف من سقطتها إذا حافظت على رصيد مقدر من القيم الإيجابية الباعثة؛ فإن الإفلاس في مجال القيم ينتهي بالمجتمع إلى الإفلاس، وأنه مهما بلغ مجتمع من التكديس في عالم الأشياء فإن انتفاخه المادي أو التكنولوجي آيل إلى إحباط، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْـحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ 8 أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: ٨ - ٩].

ثالثاً: إن استقراء ذلك الرصيد المتأتي من الوحي الإلهي والحكمة البشرية المتراكمة، يؤكد أن القيم الكبرى، أي قيم الحق والخير والجمال وما يتفرع عنها وما يؤدي إليها من قيم أخرى؛ تتكامل ولا تتعارض، فلا يمكن تصور أن يكون الحق على حساب الجمال، والتأمل يفيد أن للأخلاق جمالاً، وأن حسن الخلق غاية الجمال، وأن الفن والإبداع باعتبارهما مجالين لقيمة الجمال لا يمكن أن يكونا معاكسين لقيم الحق وما يرتبط بها من قيم العدل والمساواة والكرامة، وأن الإخلال بقاعدة التكامل يعكس بداية أكيدة لانحدار المجتمعات في اتجاه التفكك والانحطاط.

رابعاً: يؤكد المشاركون أهمية رعاية الرصيد المشترك للقيم البنّاءة بين المجتمعات البشرية، انطلاقاً من أن التعدد الثقافي والقيمي للمجتمعات البشرية هو ثروة يتعين تعهدها من خلال الحوار بين الثقافات والحضارات والتلاقح الإيجابي في مجال القيم البناءة والإيجابية. ويؤكدون أن هذا المعنى معنى أصيل في القرآن الكريم، وقاعدة منصوص عليها في القرآن الكريم، وهي قاعدة التعارف، التعارف بما هو اكتشاف للمختلف وتبادل للخبرات والمنافع والتجارب والقيم البناءة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وينوهون بما قدمته التجربة الغربية المعاصرة لرصيد القيم الإنسانية، خاصة في مجال تنظيم العلاقات داخل المجتمعات، إنْ على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وفي مجال التأكيد على الحقوق الفردية والجماعية وتوسيع مجال الحريات مما لا يتعارض في الأغلبية الساحقة مع ديننا ومرجعيتنا، بل مما يؤكده ويقدم إبداعات غير مسبوقة في تنظيمه وتنزيله في صيغ عملية ملموسة

خامساً: وإذ يؤكد المشاركون أن قاعدة التعارف بين الحضارات والمجتمعات وتبادل المنافع والخبرات المادية والمعنوية، بما في ذلك التبادل أو التثاقف في مجال القيم انطلاقاً من أن هناك قدراً مشتركاً من القيم لا وطن ولا دين ولا انتماء جغرافياً أو عرقياً أو مذهبياً له؛ يؤكدون أن هذا المعنى من العالمية أو الكونية الحق قد تحقق في أبهى صوره خلال الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية، وأن أمتنا الإسلامية بمرجعية كتاب ربها وسنة نبيها قادرة على إنتاج هذا النموذج الحضاري المتقدم، حيث كانت الحضارة الإسلامية حصيلة تجربة مئات من الشعوب والثقافات واللغات التي كان الرابط الأساس بينها أساسيات العقيدة وكليات الأحكام وأمهات الأخلاق، بينما كانت السمة المميزة لها التعدد الثقافي واللغوي والغنى القيمي؛ فكانت وحدة في تنوع، وتنوعاً ضمن وحدة، وتفاعلاً خلاقاً بين منظومات ثقافية متعددة ائتلفت وتناغمت بفضل مرجعية موحدة.

سادساً: وبناء على ذلك يؤكد المشاركون رفضهم لكل عمليات الإلحاق والاستنباط باسم فهمٍ مضلل لمفهوم الكونية يسعون إلى فرض منظومة قيمية نمطية تبلورت ضمن سياق ثقافي وحضاري تميز في وقت من تطور المجتمعات الغربية ولأسباب تاريخية خاصة بالصراع بين النظرة الدينية الكنسية للعالم وبين النظرة الإنسانية الثائرة على ظلم الكنيسة وتواطؤ الإكليروس الكنسي مع الملكيات الإقطاعية.

وفي المقابل، يؤكد المشاركون أن السعي لتنميط العالم على هذا المستوى، وإلحاق المجتمعات الإسلامية بالنماذج القيمية التي تبلورت بسبب ذلك الصراع التاريخي وما أنتجه من تصورات مادية متطرفة في النظرة إلى الإنسان والمجتمع والأسرة والمرأة والدين والأخلاق قادت إلى صور من الانفلات الأخلاقي المهدد للاستمرارية المجتمعات الغربية؛ فيه خسارة محققة ليس فقط للمجتمعات الإسلامية التي ما زالت تملك رصيداً قوياً من العقيدة الدينية والمرجعية القيمية والأخلاقية ومن التماسك الاجتماعي، بل خسارة للبشرية جمعاء؛ لأنه إذا لم يكن من المتصور في الأمد القريب أن تسهم المجتمعات الإسلامية في التطور العلمي والتكنولوجي على نفس وتيرة ما يقع في المجتمعات الغربية المتقدمة تكنولوجياً وسياسياً، ولا أن تتدارك الفجوة التي ما فتئت تتسع؛ فإن لهذه المجتمعات ما تقدمه من قيمة مضافة في عالم القيم.

سابعاً: وحيث إن مفهوم تدافع القيم كما يتبناه المشاركون في الندوة يختلف عن مفهوم الصراع، حيث ينصرف إلى مفهوم التفاعل الثقافي والقيمي والمجتمعي إيجاباً أو سلباً بما هو عملية تاريخية وحضارية ضامنة لتحصين المجتمعات من القيم الميتة، أي القيم البالية المنحدرة إلى مجتمعاتنا من عصور الانحطاط التي أثبتت نهاية صلاحيتها والقيم القاتلة المحمولة على رماح الاستعمار القديم أو الجديد بما هي قيم إلحاقية قسرية فوقية مفروضة بكل أنواع الأسلحة المادية أو الثقافية؛ يؤكد المشاركون أهمية التدافع في مواجهة التحديات الفكرية والعلمية والثقافية واللغوية والأخلاقية والأسرية والاجتماعية:

- التدافع بما هو وعي بالتحولات القيمية والتحديات التي تواجهها منظومة القيم بما يقتضيه من دراسات رصدية علمية ميدانية للوقوف بموضوعية على المعطيات.

- التدافع بما هو رصد للاستراتيجيات الاختراقية المقصودة التي تسعى إلى تغيير منظومتنا القيمية وإلحاق مجتمعاتنا بمنظومات قيمية تتعارض في بعض جوانبها الأخلاقية والدينية والأسرية بمنظومتنا القيمية.

- التدافع باعتباره مبادرة وإبداعاً في جميع مجالات المعرفة والثقافة والنظم الاجتماعية والسياسية والإبداع الثقافي والفني والإعلامي، إبداعاً يعبّر عن هويتها وحقيقتها ويعزز هويتها ويقدم مصالحة بين قيم الحق والخير والجمال، ويقدم صورة مشرقة للقيم الإسلامية وصورتها الحضارية الجميلة.

ثامناً: إن المشاركين في الندوة إذ يستحضرون السياق الخاص الذي تنعقد فيه، أي سياق الربيع العربي السياسي الذي كشف أن المجتمعات العربية لم تمت كما روِّج لذلك من قبل بعضهم، وأن الاستبداد ليس قدرها الدائم، وأنها كانت تختزن بين جوانحها رصيداً هائلاً من التشوق لتحقيق قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة؛ يؤكدون أن الشعوب العربية والإسلامية كما أنها قد فاجأت العالم بقدرتها على إسقاط كل صور الاستبداد والتحكم، فإنه بإمكانها بالقدر الذي تتقدم فيه في تحقيق أهداف ثوراتها السلمية في الأصل؛ أن تستعيد مبادرتها وتسهم في مسيرة بناء الحضارة الإنسانية من خلال بوابة تدافع القيم أخذاً وعطاءً.

:: ملف كامل حول ندوة ( تدافع وبناء القيم.. السياق الدولي والواقع الإسلامي)

أعلى