• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ملاك الاستقامة

حدَّ قتادة الصبر بأنه الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، فخرج بتعريف يشعّ إيمانًا فيوقد في القلب الهمة إلى بلوغ هذه الرُّتَب وعَقد الهمم عليها.


أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْـمُنفِقِينَ وَالْـمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: ٧١]؛ قال: (الصادقين: قومٌ صدَقَت أفواهُهم، واسْتَقامَت قلوبُهم وأل سنتُهم، وصدَقوا في السرِّ والعلانية، والصابرين: قومٌ صبروا على طاعة الله، وصبروا عن مَحارمِه، والقانتين: هم المطيعون لله)[1].

وقد ذكر هذا الأثر أيضًا من المفسرين: الثعلبي والواحدي والبغوي وأبو حيان والشوكاني[2].

 وفيه تتجلى منهجية السلف في تزكية النفوس بالقرآن، وتناول قتادة لهذه المقامات القلبية العالية يبيّن مدى عنايتهم بأعمال القلوب؛ في إشارة منه إلى أنها العمدة عند الله، والأصل لأعمال الجوارح، وبدأ بأهمّ هذه الأعمال وهو الصدق بأركانه الثلاثة؛ قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ} [الزمر: ٣٣]. قال ابن القيم [ت: 751] -رحمه الله-: (فالذي جاء بالصدق: هو مَن شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله... وهو روح الأعمال ومحك الأحوال، ومناط الفلاح يوم الدين)[3]؛ ولهذا لما سُئِل الإمام أحمد [ت:  241]: كيف نجوت من سيف الواثق وعصا المعتصم؟ قال: (لو وُضِعَ الصدق على جرح برأ)[4].

وعطف الصدق على الصبر؛ لكون الصبر من شأن الصادق[5]، ومن أدلته: قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: ٧١]. وورد في القرآن أربى من تسعين موضعًا[6].

وهو شطر الإيمان، ومرجع الدين إليه، وجميع المقامات الأخرى لا تنفك عنه[7].

 وحدَّ قتادة الصبر بأنه الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، فخرج بتعريف يشعّ إيمانًا فيوقد في القلب الهمة إلى بلوغ هذه الرُّتَب وعَقد الهمم عليها.

وكما حدّ -رحمه الله تعالى- الصبر حدًّا إيمانيًّا؛ فكذلك عرَّف القنوت بأسهل عبارة وأسرعها فهمًا وأعظمها تطبيقًا، وهي أن القنوت طاعة الله، ويُلْحَظ فيه أنه عدل في تعريفه إلى الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، ويستدل له بقوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِـحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: ١٣].

 ومن التأملات البديعة في الأثر: توظيفه -رحمه الله- للعموم في الآية بما يعين قارئ القرآن على امتثال آيات القرآن واقعًا في حياته؛ فقد تناول -رحمه الله- هذه المراتب الإيمانية العظمى بأيسر عبارة، وأجمل إشارة، فجميع هذه الأمور: (الصدق/ الصبر/ القنوت) الواردة في الآية الكريمة هي ملاك استقامة الفرد؛ كما أشار إليه ابن عاشور -رحمه الله تعالى- في تفسيره[8].

جعلنا اللهُ وإياكم من عباده الصادقين، وحزبه المفلحين.

 


 


[1] تفسير الطبري (5/273).

[2] تفسير الثعلبي (3/29) التفسير الوسيط (1/420) تفسير البغوي (1/419) تفسير أبي حيان (3/57) تفسير الشوكاني (1/372).

[3] مدارج السالكين، ابن القيم (2/257).

[4] تاريخ دمشق، ابن عساكر (5/320).

[5] نظم الدرر، البقاعي (4/284) نقلاً عن الحرَالي المتوفى سنة (638).

[6] مدارج السالكين، ابن القيم (1/130).

[7] ينظر: المرجع نفسه (1/153).

[8] تفسير ابن عاشور (3/185).

 

 


أعلى