الإرث التاريخي وأثره في تشويه العلاقة بين آل البيت والأصحاب

إنَّ روايات الرافضة -على العموم- تُشوِّه العلاقة بين آل البيت والأصحاب، وترسم صورة قاتمة لهذه العلاقة التي كانت، بحسب الرافضة، مبنية على العداء والتوتر الدائم؛ إذ لم يَرْضَ الرافضة أن يتركوا العلاقة بين آل البيت والأصحاب تأخذ مجراها الطبيعي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

لقد كان لأهل الأهواء دورهم في تدوين التاريخ الإسلامي، ويبرز منهم في هذا المقام الرافضة الذين كان لهم القدح المعلّى في تدوين هذا التاريخ، وكان لهم أكبر عدد من الرواة والإخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم ومفترياتهم.

وقد عملوا على تشويه تاريخ الصحابة، وتشويه العلاقة بين آل البيت والأصحاب، ورسم صورة قاتمة لها؛ لأن هذا التشويه والتحريف يُعينهم على الطعن في نَقَلة هذا الدين.

ولذلك ينبغي للمسلم عند قراءة التاريخ الإسلامي الحذر والتثبُّت من النصوص، وتمحيص الأخبار؛ لأن الدراسة المستفيضة لأحوال الرواة والتحرّي عن ميولهم المذهبية وصفاتهم وأخلاقهم وعقائدهم تؤدي إلى توثيق سند الروايات التاريخية، وفحص أولئك الرجال الذين تناقلوها. 

على أن حجم التشويه لتاريخ الصحابة، وللعلاقة بينهم وبين آل البيت؛ يستدعي فِقْه تاريخ الصحابة، ومعرفة المنهج الواجب اتباعه عند النظر في تاريخهم. ومن ذلك: منزلتهم في الكتاب والسُّنة وعدالتهم، وموقف المسلم مما رُوِيَ في قَدْحهم، وتعريف معنى سبّهم، وحُكمه الشرعي، والخائضين فيه باسم النقد العلمي وحرية البحث.

تحرير مصطلح الشيعة والرافضة

في هذا العصر التبس الأمر على الناس، حتى المثقفين منهم؛ فأصبحوا لا يُميّزون بين التشيع والرفض، وكثيرًا ما نسمع عن الرفض والرافضة. ولذلك يجب تحرير هذين المصطلحين حتى نعرف الفرق بينهما.

أ- الشيـعـة

الشيعة في اللغة: الفرقة والجماعة من الناس؛ ففي التنزيل العزيز: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] ، وتُطلق كذلك على الأتباع والأنصار، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]. والشِّيَع: الأهواء المختلفة كما في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65].

وفي التعريف الاصطلاحي؛ فإن التَّشيُّع بدأ كعاطفة وجدانية لآل البيت بعد انفصال الخوارج عن أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- في صفين؛ لمَّا قَبِلَ التحكيم، فبقي فريق من جيشه معه مُؤيِّدًا له بقول قائلهم: «في أعناقنا بيعة ثانية؛ نحن أولياء من واليتَ، وأعداء مَن عاديتَ»[1].

ثم تطورت هذه العاطفة إلى تفضيل عليٍّ على عثمان -رضي الله عنهما-، ويُطلَق على هؤلاء الشِّيعة المُفضِّلة. أما الشيخان أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، فإنهما في نظرهم مُفضَّلان على غيرهم. وهذا كان في أول عهد التشيع، فقد قيل لشريك بن عبد الله القاضي: أنت من شيعة عليٍّ وأنت تُفضِّل أبا بكر وعمر؟، فقال: «كل شيعة عليّ على هذا، سمعته يقول على أعواد هذا المنبر: خيرُ هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، أفكُنّا نُكذِّبه، والله ما كان كذابًا»[2].

ب- الـرفـض

ثم ظهر بعد ذلك الرفض، وهو الغلو والبدعة والبراءة من الشيخين؛ فالرافضة هم الذين يرفضون خلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ويحطّون من قَدْرهمـا ويَدْعون إلى ذلك.

وقد اتفق جمهور العلماء المحققين على أن إطلاق هذه التسمية: الرافضة، يعود تاريخها إلى زيد بن عليّ حينما خرج على هشام بن الملك في سنة 121هـ. وسبب ذلك أن جماعة من الناس التفت حوله، فلما أراد الخروج على بني أمية قالوا له: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: «رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدًا من أهل بيتي يتبرَّأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرًا»؛ ففارقوه ونكثوا بيعته، فسماهم زيد: الرافضة[3].

 تأملوا -وفَّقكم الله- كيف كانت العلاقة قائمة على الودّ والإخاء والمحبة بين آل البيت والأصحاب.

ولأجل ذلك، نجد علماءنا الأوائل يُفرِّقون بين الشيعة والرافضة. فهناك فئة مُتشيِّعة، ولكن بدون غلو فيه، بمعنى أن تشيُّعهم لا يتجاوز تقديمهم عليًّا على عثمان -رضي الله عنهما-. وكان يَكْثُر هذا في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. ثم جاء غلوّ أعظم وهو المُتمثِّل في الرفض، ولذلك كان موقف علماء السنة منه واضحًا. فقد سُئِلَ الإمام مالك عن الرافضة؛ فقال: لا تُكلِّمهم ولا تَرْوِ عنهم؛ فإنهم يكذبون. وقال الشافعي: لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة. إلى غير ذلك من أقوال العلماء فيهم.[4]

وعلى العموم؛ فإن كلّ مَن يرفض خلافة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ويطعن فيهما، ويشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  وأزواجه، ويَدّعي العصمة لآل البيت وللأئمة، فهو رافضيّ. فالشيعة الأقحاح هم الذين يتولون الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ويُفضِّلوهما على غيرهما، كما مرَّ قبل قليل عن شريك القاضي، وكان من أصحاب علي -رضي الله عنه-.

بيان حجم التشويه التاريخي للعلاقة بين آل البيت والأصحاب          

إنَّ روايات الرافضة -على العموم- تُشوِّه العلاقة بين آل البيت والأصحاب، وترسم صورة قاتمة لهذه العلاقة التي كانت، بحسب الرافضة، مبنية على العداء والتوتر الدائم؛ إذ لم يَرْضَ الرافضة أن يتركوا العلاقة بين آل البيت والأصحاب تأخذ مجراها الطبيعي، بما ميَّز هذه العلاقة من الودّ والمحبة والإخاء والصفاء، وإنما تدخَّلوا باختلاق روايات لا أساس لها من الصحة، أو حرَّفوا بعض الروايات الصحيحة لتوافق أهواءهم المفرطة.

 وهذه الروايات تكشف عن مدى حجم التشويه التاريخي لهذه العلاقة؛ فالإخباريون الرافضة يُصوِّرون خبر السقيفة وبيعة أبي بكر -رضي الله عنه- بأنها بيعة انتُزِعَت بالقوة والقهر، وأنَّ عليًّا كان أحقّ بالخلافة من أبي بكر، ولكنَّ تخلّي الناس عنه أجبَره على البيعة لأبي بكر.[5]

على أن الروايات التي ساقها الإخباريون الرافضة لا أصل لها، ولم يَرْوِ شيئًا منها علماءُ الحديث، وإنما انفردوا بنقلها، فهي ساقطة سندًا.

أما من حيث المتن؛ فالأدلة على أن رسول الله لم يستخلف أحدًا بعينه كثيرة، وإجماع الصحابة على اختيار الصِّدِّيق وبيعته بالخلافة أطبقت عليه كتب الصحاح والمسانيد والمعاجم. فقد أخرج البيهقي في «دلائل النبوة» بسنده إلى عمرو بن سفيان قال: لما ظهر عليّ على الناس يوم الجمل قال: «يا أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئًا، حتى رأينا من الرأي أن نَستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله...» إلى آخر الحديث.[6]

ثم إن الخلاف بين أبي بكر وفاطمة -رضي الله عنها- كما رواه المُحقِّقون من العلماء والمؤرخين؛ لم يكن حول البيعة على الخلافة، وإنما كان حول ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لما سألت فاطمة أبا بكر حقها في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ اعتذر إليها بعُذْر يَجِب قبوله، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا نُورَث، ما تركنا صدقة». والحديث أخرجه الإمام البخاري في جامعه الصحيح المسند.[7]

وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهلٍ، وتكلَّفوا ما لا عِلْم لهم به، وأَوَّلُوا الآيات القرآنية لتناسب أهواءَهم. لكنَّ المقطوع به عند أهل الحديث أن أبا بكر -رضي الله عنه- استرضى فاطمة -رضي الله عنها- قبل وفاتها؛ فقد روى الحافظ البيهقي عن الشعبي قال: «لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال عليّ: يا فاطمة! هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقال: أتحبين أن آذن له؟ قالت: نعم، فأذِنَ له، فدخَل عليها يترضَّاها؛ فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاءَ مرضاة الله ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت.. ثم ترضَّاها حتى رضيت». وهذا إسناد جيد قويّ؛ كما قال ابن كثير.[8]

ورغم أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان معه الحق في قضية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إلا أنه ترضَّى فاطمة -رضي الله عنها- احتفاءً بآل البيت، واحترامًا لهم. ومع الأسف، سار المؤرخون الرافضة على نهج إخبارييهم فشَوَّهُوا العلاقة بين آل البيت والأصحاب، وتصرَّفوا في الروايات بطريقةٍ تُوحي بالجفاء وسوء الظن بين الفريقين.

موقف المسلم من هذا الإرث التاريخي

لا نشكُّ لحظةً واحدةً بأن تركة هذا الإرث التاريخي ثقيلة ومُكلِّفة بالنسبة لوحدة الأمة الإسلامية وائتلافها؛ لأن مَن يقرأ التاريخ الإسلامي -وهو يمثل ذاكرة الأمة- بوعي وعقيدة سليمة، سيشعر فعلاً بضخامة الانحراف والخطأ الذي وقع فيه كثير من الإخباريين والمؤرخين القدامى، حين نقلوا لنا أخبارًا كاذبة مُلفَّقة تُلقِي ظلالًا قاتمة على تاريخ العلاقة بين آل البيت والأصحاب، حتى صارت لأشرف القرون في أذهان الناس صورة مشوهة تُخالف ما كان عليه أولئك الأولياء الأخيار والبَرَرة الأتقياء.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الخروج من المأزق والوضع السيئ الذي أحاط بكتابة التاريخ الإسلامي يتطلب منا القيام بأمرين:

الأول: التثبُّت من النصوص وتمحيص الأخبار، وتحقيق الروايات التاريخية وفق الموازين النقدية التي اتبعها علماء الحديث النبوي؛ لأن الحقائق الناصعة في تاريخنا تحتاج إلى استخراجها من أنقاض الأهواء والبدع والمفتريات التي افتراها الوَضَّاعُون من بين رواة الأخبار، وهم كثيرون.

الثاني: الحكم على الأحداث وفق التصور الإيماني الصحيح والموازين الشرعية؛ إذ لا بد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرُّفات الناس في صدر الإسلام، وعلاقة هذه البواعث بالمواقف والحوادث والعلاقات الإنسانية والاجتماعية ونُظُم الحكم وطُرُق التشريع في إطار المبادئ والمفاهيم والقيم الإسلامية.

على أن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام كانت تتأثر كثيرًا بالتطلع إلى ما عند الله -تعالى- وإلى الجزاء الأخروي.

ولذلك، فإن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام، وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم، وإخلاص عقيدتهم وتوجههم إلى الله -تعالى- وحده، يجعل من البديهي التسليم بأن الدافع لهم في تصرفاتهم وسلوكهم لم يكن دافعًا دنيويًّا نابعًا من الهوى، بقدر ما كان وازعًا دينيًّا أخلاقيًّا يَحُثّ على الأُلْفة والمحبَّة والوحدة بين المسلمين.

ومن هذا المنطلق؛ فإن آل البيت والأصحاب كانوا جماعة واحدة، ذات عقيدة واحدة، تجمعهم رابطة الإيمان بالله ورسوله، كما كانوا كتلة واحدة في الدفاع عن حياض الإسلام، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الله.

ولأجل ذلك ينبغي للمسلم أن يعرف لهم قَدْرهم وفَضْلهم جميعًا، وأن يُعرِّف بمواقفهم وأعمالهم، لنُحبِّب إلى شبابنا التأسي والاقتداء بهم، والاعتزاز والانتساب إليهم جميعًا؛ ليرتبط حاضر الأمة بماضيها العريق ذي التاريخ المشرق رغم أقلام الأعداء التي شوَّهته.

سُـبُـل المعـالـجـة

أما سبل المعالجة لهذه القضية فتتمثل في تذكير المسلمين بالمنهج الواجب اتباعه عند النظر في فقه تاريخ الصحابة، بدلاً من الاستغراق في مناقشة مسائل جزئية، والدخول في جدل الإثبات والنفي مع أصحاب الأهواء والنزعات المختلفة.

وهذا المنهج قام بتأصيله علماء أهل السنة تأصيلاً فقهيًّا على أساس الكتاب والسُّنة، كما تُؤصَّل جميع الأحكام الشرعية.

وبذلك أصبح تاريخ الصحابة، والحكم فيه من عمل المحدثين والمؤرخين المسلمين، وأصبح لزامًا على كلّ باحث ومُؤرِّخ مسلم أن يَرُدّ جميع ما جاءت به الأخبار عن الأصحاب والعلاقة بينهم وبين آل البيت إلـى هذا المنهج، وعلى شرطه. لا سيما أن هذا الأمر غدا في العصر الحاضر ضرورة يَفْرضها جهل كثير من المسلمين بذلك المنهج، وما يؤدي إليه هذا الجهل من شكّ واضطراب في الموازين وبلبلة في الأفكار، مما يدفع إلى الإقرار بما يُفْتَرى به على الصحابة وآل البيت، بل إلى الوقوع فيهم مع الواقعين، فيقع المسلم في الإثم أو تحت حدّ من حدود الله وهو لا يدري.

ويعني منهج فقه تأريخ الصحابة تلك الضوابط والأحكام الشرعية التي يمكن من خلالها التعامل مع تاريخ الصحابة، ويتكون هذا الفقه من مجموعة من الأحكام المستمدَّة من مصادر التشريع الأساسية وهي الكتاب والسُّنة والإجماع. وللاستدلال على هذه الأحكام أو على هذا الفقه، نظر الفقهاء والمحدثون في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوا جملة من هذه النصوص منصوصًا عليها بنصوص صريحة قطعية الدلالة؛ فأخذوها كما هي، وبعضها الآخر استنبطوه من جملة النصوص الشرعية أو بعضها.

ومن هذه الأحكام: منزلة آل البيت، وعدالة الصحابة، والواجب لهم على المسلمين، وتعريف سبّهم، وحكم مَن سبَّهم، والخائضون في هذا السَّبّ باسم النقد العلمي وحرية البحث.

وسأذكر هذه الأحكام بإيجاز فيما يلي:

أ- منزلة آل بيت رسول الله

لا يُنكر الوصية بأهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم، وهم قرابته وأزواجه-؛ إلا جاهل بمكانتهم في الكتاب والسنة؛ إذ أمر الله -تعالى- ونبيه صلى الله عليه وسلم  بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم؛ فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وُجِدَ على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متَّبعين للسنة متمسكين بها، كما كان عليهم سلفهم كالعباس وبَنِيه وآل عليّ وآل عقيل وآل جعفر -رضي الله عنهم أجمعين-.

قال الله عز وجل: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْـمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]؛ وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره.[9]

وقال تقدَّست أسماؤه: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: ٣٣]؛ وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  في أهل البيت ها هنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية؛ كما ذكر ابن كثير في تفسيره.[10]

وهذا النص القرآني يدحض ما ذهب إليه أصحاب الأهواء بأن نساء النبي لسن من أهل البيت. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعِتْرَتي أهلُ بَيْتي، وإنّهما لن يَفتَرِقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوضَ».[11]

ولأجل ذلك، فلا جدال بأن آل البيت كانوا قدوةً لكل مسلم فيما يتعلق بأمور الدين. ولا مجال للطعن في تديُّنهم، وصحة عقيدتهم، وسلامة أخلاقهم، كما يفعل النواصب.

ب- منزلة الأصحاب وعدالتهم

لقد دلت النصوص المتواترة على وجوب محبَّة الصحابة وتعظيمهم وتوقيرهم، والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان بآثارهم، وحرمة سَبّ أحد منهم؛ لما شرَّفهم الله -تعالى- به من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والجهاد معه، والصبر على أذى المشركين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وأولادهم، وتقديم حبّ الله -تعالى- ورسوله على ذلك كله، فاستحقوا بذلك الثناء عليهم، والتجاوز عما فرط منهم؛ إذ نزل الوحي من الله -تعالى- بأنه رضي عنهم ووعدهم الجنة، وبشَّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم  بها، ونادى بإجلالهم وتوقيرهم، وأخبر أنهم أَمَنة لأُمّته ونجومها الذين يُقتَدى بهم.

ج- الموقف مما رُوِيَ من القدح في الصحابة

من المعلوم أن مذهب أهب السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وسطٌ عدل بين طرفي الإفراط والتفريط، وسط بين الغلاة الذين يرفعون مَن يُعظّمونهم من الصحابة من آل البيت إلى مصافّ النبيين والمرسلين، ويُوجبون لهم العصمة، وبين الجفاة الذين يَنتقصون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  ويشتمونهم، ولا يعرفون لهم قدرهم ولا مكانتهم. والرافضة في هذا السياق غلاة وجفاة في آنٍ واحدٍ.

فأهل السنة والجماعة وسط بين أهل الغلو والجفاء يحبّون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُنزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالإنصاف والعدل، فيعرفون لكلٍّ فَضْله وقَدْره، فلا يَرفعونهم إلى ما لا يستحقون، ولا يَقصرون بهم عما يليق بهم.

وما صح فيما جرى بينهم فهم فيه مجتهدون؛ إما مُصِيبون لهم أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون لهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور؛ لأنهم اجتهدوا عن حُسْن نية. وإنهم ليسوا معصومين، بل هم بشر يُصيبون ويخطئون، وقد وعدهم الله -تعالى- المغفرة والرضوان.

ولأجل ذلك ينبغي صيانة القلم عن ذِكْر ما نُسِبَ إليهم من مساوئ، وإحسان الظنّ بهم، والتَّرضّي عنهم أجمعين، ومعرفة حقّهم ومنزلتهم، والتماس أحسن المخارج لما ثبت صُدوره من بعضهم.

ثم إن الأخبار المروية عنهم في بعض القضايا المشتبهة لم تُوضَع في سياقاتها الصحيحة؛ فمنها ما هو كَذِب، ومنها ما قد زِيدَ فيه أو نُقِصَ منه، حتى تحرّف عن أصله وتشوّه مضمونه.

ولذلك وجب الإمساك عما شجَر بينهم؛ إذا كان الخوض فيما وقع بينهم على سبيل التوسع في الجزئيات، وتتبُّع الظنون، والتَّنقُّص لفئةٍ، والانتصار لأخرى، وعدم نَشْر ذلك بين العامَّة وتلاميذ المدارس وطلبة الجامعات الذين التبس عليهم الأمر بسبب الشُّبهات التي يثيرها أصحاب الأهواء من الرافضة وغيرهم.

أما في ظل الموازين العلمية المستقيمة والمهتدية بالنصوص الشرعية؛ فإن البحث في تاريخ الصحابة لا يُمتنع؛ إذا قُصِدَ به بيان بعض الأحكام الشرعية، وبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأخطاء التاريخية التي أُثيرت حول مواقف بعضهم من بعض، أو مواقفهم من حروب الفتنة، وغيرها.

د- تعريف سبّ الصحابة: حُكمه، الخائضون فيه باسم النقد العلمي وحرية البحث

فسَّر القاضي أبو يعلى السَّبّ الذي يطعن في عدالة الصحابة بقول بعضهم: إنهم ظلموا وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا الأمر بغير حق.[12]

أما حكمه، فيتراوح -حسب العلماء- بين التعزير والحبس؛ فقد روي عن الإمام مالك قوله: «من شتم النبي صلى الله عليه وسلم  قُتِلَ، ومن سبَّ أصحابه أُدِّب»[13].

وقال الإمام أحمد: «إنه يجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه».[14]

وقال القاضي عياض: «فسَبّ أحدهم (أي الصحابة) من المعاصي والكبائر، ومذهب الجمهور أن من فعل ذلك يُعزَّر».[15]

والسَّبّ المذكور آنفًا هو ما أصبح يسميه البعض في العصر الحاضر بالنقد العلمي لتأريخ الصحابة، وهو بعينه السَّبّ الذي سبَّ به الروافض والسبئية والباطنية والزنادقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو السَّبّ الذي دسَّه الرواة الكذابون، خصوصًا من الرافضة في كتب التاريخ الإسلامي. وهو الطعن الذي نفاه أهل العدل والحق من أهل السنة في تأريخهم للصحابة -رضي الله عنهم-، وهو السَّبّ الذي يستحق به أصحابه اللّعن من الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والبراءة من المسلمين، والحكم عليهم بالجلد أو الحبس؛ وَفْق ما تقرَّر آنفًا عند العلماء. 

في الختام أقول: إن ما يسمى اليوم بالنقد العلمي الموضوعي لتاريخ صدر الإسلام، والتعريض بالصحابة ولَمْزهم لم يخرج قيد أنملة عن السَّبّ القديم، وكلّ ما فعله الطاعنون الجدد هو أنهم أحيوا السَّبّ الذي أماته أهل السنة؛ لمَّا كانت الدولة دولتهم والسلطان سلطانهم، وكان أهل البدع والزندقة مقموعين.

وهذا السَّبّ إنما أُحيي حديثًا على يد الرافضة والمعاصرين، وطوائف من الشيوعيين واليهود والصليبيين، لا سيما المستشرقين منهم الحاقدين على الإسلام، ومَن قلَّدهم من العلمانيين افتتانًا بالغرب والشرق ومنهاجهما المادية، الواقعون في حرمات الله باسم حرية الرأي والبحث العلمي، جاهلين أن للمنهج العلمي في الإسلام وتاريخه قواعد وأصولاً وضوابط شرعية، يجب على الباحث أن يلتزم بها، ويكون بَحْثه واجتهاده في نطاقها، حتى لا تأتي نتائج أبحاثه ودراساته مناقضة للواقع وللقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية.

إن أهل الأهواء من الرافضة؛ سواء القدماء منهم أو المعاصرين، ومن سار على خطاهم من العلمانيين في ديار الإسلام، إنما يَهدفون من وراء شَتْم الصحابة وسبّهم، والتفريق بينهم وبين آل البيت، واصطناع العداوة بينهم إلى عدة أمور:

الأول: إن انتشار الإسلام وامتداد الفتوح الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة أثار حفيظة أعداء الإسلام من الفُرْس الذين راموا الكيد للإسلام والنيل من المسلمين؛ إذ لما باءت جهودهم بالفشل في ميادين القتال، رأوا أن الكيد بالحيلة والوقيعة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام ورفعوا شعار محبة آل البيت، واستشناع ظُلْم عليّ وَصِيّ النبي صلى الله عليه وسلم  في زعمهم، ليدقُّوا إسفينًا بين آل البيت والأصحاب.

الثاني: تجريح شهادة الصحابة والطعن في عدالتهم، ومِن ثَمَّ التشكيك في الكتاب والسنة؛ إذ إن الصحابة -رضي الله عنهم- هم حَمَلة الشريعة ونَقَلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله.

الثالث: إثبات عجز الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق والعمل، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر.

فإذا أُشِيعَ -كذبًا وزورًا- أنه عجَز عن تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم النبي صلى الله عليه وسلم  بمدة بسيرة؛ فهو عاجز ليكون منهاج حياة ووسيلة للإصلاح في عصرنا هذا.

وفي الختام: إن المصادر التاريخية تعتمد على روايات الإخباريين الرافضة في تدوين التاريخ الإسلامي، وهؤلاء شوَّهوا وزيَّفوا كثيرًا من الأخبار المتعلقة بتاريخنا، وتأثر بهم كُتّاب التاريخ قديمًا وحديثًا. ولذلك ينبغي مراجعة كثير من الأخبار المشهورة للتأكُّد من صحتها، وقراءة هذا التاريخ قراءة واعية متفحصة، لنُقدِّم للنشء وللناس على العموم تاريخًا صحيحًا موضوعيًّا ينسجم مع بناء الأمة العقدي والحضاري؛ مساهمةً منَّا في تصحيح الأفكار والمفاهيم؛ لأن التاريخ الإسلامي هو ذاكرة الأمة، وهو بمثابة عِرْضها وشرفها؛ إذ هو القناة التي أوصلت هذا الدين جملةً وتفصيلاً.

 


[1] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج5، ص 64.

[2] ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج13، ص34.

[3] انظر ابن تيمية: منهاج السنة (الطبعة الأولى: تحقيق محمد رشاد سالم، تحت إشراف جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض)، ج1، ص34.

[4] الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص 202. والذهبي: المنتقى، ص21.

[5] عبد العزيز نور ولي: أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري، ص308.

[6] البيهقي: دلائل النبوة، ج7، ص223.

[7] ابن حجر: فتح الباري، ج12، ص6.

[8] ابن كثير: البداية والنهاية (خلافة أبي بكر الصديق، تهذيب محمد بن صامل السلمي، ص75).

[9] انظر: تفسير ابن كثير، ج4، ص162.

[10] المصدر السابق، ج3، ص762.

[11] انظر: صحيح مسلم، كتاب الصحابة.

[12] ابن تيمية: حكم سب الصحابة، ص36- 35.

[13] القاضي عياض: الشفا بتعرف حقوق المصطفى، ج2، ص652.

[14] الإمام أحمد: السنة، ص78.

[15] صحيح مسلم بشرح النووي، ج16، ص93.

 


أعلى