• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الدعاء للوالدين في ضوء القرآن الكريم

وتزداد المكافأة تأكيدًا ووجوبًا في حق ذوي الإفضال والإنعام، وفي مقدمتهم: الوالدان؛ فنعمتهما تلي نعمة المنعم الأعلى الملك العلام، وليس لأحد من البشر على أحد نعمة كما للوالدين،


جاء الإسلام بالحثّ والإلزام على الإحسان في العقيدة والعبادة والمعاملة بين كافة الخلق من الإنس والجن والحيوان والهوام، حتى شمل الإحسان في الإسلامِ الأعداءَ عند الحرب والخصام، بل ندب الإسلام إلى الإحسان إلى اللئام، ومقابلة الإساءة بالإنعام، فقال الملك العلام: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون: 96]، وعاب على مَن قابل الإحسان بالجحود والنكران؛ فقال: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وأوجب المكافأة على المعروف بوافر الامتنان، وجزيل العرفان؛ فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «... ومن صنعَ إليكم معروفًا فكافئوهُ، فإن لم تَجِدوا ما تكافئونَهُ فادعوا له حتى ترَوْا أنكم قد كافأتُموهُ»[1].

والمكافأة في الإسلام تكون على حسب حال ذوي المعروف والإنعام، قال ابن عثيمين: «من الناس من تكون مكافأته أن تُعطيه مثل ما أعطاك أو أكثر، ومِن الناس مَن تكون مكافأته أن تدعو له، ولا يرضى أن تكافئه بمال، فإن الإنسان الكبير الذي عنده أموال كثيرة، وله جاه وشرف في قومه إذا أهدى إليك شيئًا فأعطيته مثل ما أهدى إليك رأى في ذلك قصورًا في حقه، لكن مثل هذا ادعُ الله له «فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه»، ومن ذلك: أن تقول له: جزاك الله خيرًا؛ وذلك لأن الله -تعالى- إذا جزاه خيرًا كان ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة»[2].

وتزداد المكافأة تأكيدًا ووجوبًا في حق ذوي الإفضال والإنعام، وفي مقدمتهم: الوالدان؛ فنعمتهما تلي نعمة المنعم الأعلى الملك العلام، وليس لأحد من البشر على أحد نعمة كما للوالدين، ولذلك جاءت آيات القرآن بحقهما بعد حق الملك العلام؛ كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

وربط القرآن تحقيق شكر الله بشكرهما، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}، وأوجب القرآن لهما حقوقًا كثيرة؛ منها على سبيل المثال: الإحسان؛ فقال -تعالى- ذاكرًا حقهما بعد حقّه تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} قال الرازي: «إنما ثنَّى القرآن بهذا التكليف؛ لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى، ويتلوها نعمة الوالدين؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله -سبحانه-، وفي الظاهر هو الأبوان، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة، وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ من الضياع والهلاك في وقت الصغر»[3].

وقد أوجب القرآن الإحسان للوالدين؛ لأن نعمة الوالدين على ولدهما تلي نعمة الله -عزّ وجل-، قال الشيخ ابن عثيمين مبينًا النعم الحاصلة للأبناء بسببهما: «فهما سبب وجودك، وإمدادك، وإعدادك. وإن كان أصل ذلك من الله؛ فلولا الوالدان ما كنت شيئًا؛ والإحسان إلى الوالدين شاملٌ للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وغير ذلك من أنواع الإحسان؛ وضده أمران: أحدهما: أن يسيء إليهما. والثاني: أن لا يُحسن، ولا يسيء؛ وكلاهما تقصير في حق الوالدين مُنافٍ لبرّهما؛ وفي الإساءة زيادة الاعتداء»[4].

وبيَّن القرآن ماهية الإحسان للوالدين ووسائله في أمور عدة؛ منها: الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة أحياءً أو أمواتًا، فقد أمر بذلك القرآن في قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23] قال ابن سعدي: «أي: ادعُ لهما بالرحمة أحياءً وأمواتًا؛ جزاءً على تربيتهما إيّاك صغيرًا»[5].

والخطاب في هذه الآية وإن كان مُوجهًا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إلا أن المراد به أُمّته؛ لأنه لم يكن له -عليه السلام- في ذلك الوقت أبوان[6].

والدعاء للوالدين حقّ واجب لهما على الأبناء؛ كما يدل على ذلك سياق هذه الآية، فقد جاء الدعاء لهما بالرحمة مسبوقًا بفعل الأمر: {قُل}، وفعل الأمر يدل على الوجوب كما حرّر ذلك علماء الأصول، وقد دلت عبارات علماء التفسير على أن الدعاء للوالدين بالرحمة والمغفرة واجبة، قال القرطبي في تفسيره: «أمر تعالى عباده بالترحم على آبائهم، والدعاء لهم، وأن ترحمهما كما رحماك، وترفق بهما كما رفقا بك، إذ ولياك صغيرًا جاهلًا محتاجًا؛ فآثراك على أنفسهما، وأسهرا ليلهما، وجاعا وأشبعاك، وتعريا وكسواك، فلا تجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر الحد الذي كنت فيه من الصغر، فتلي منهما ما وليا منك، ويكون لهما حينئذ فضل التقدم»[7].

وقال ابن العربي المالكي عند تفسيره لهذه الآية: «معناه: ادعُ لهما في حياتهما وبعد مماتهما بأن يكون البارئ يرحمهما كما رحماك، وترفق بهما كما رفقا بك؛ فإن الله هو الذي يجزي الوالد عن الولد؛ إذ لا يستطيع الولد كفاء على نعمة والده أبدًا... وينبغي له أن يعلم أنهما ولياه صغيرًا جاهلًا محتاجًا، فآثراه على أنفسهما، وسهرا ليلهما وأناماه، وجاعا وأشبعاه، وتعريا وكسواه، فلا يجزيهما إلا أن يبلغا من الكبر إلى الحد الذي كان هو فيه من الصغر، فيلي منهما ما وليا منه، ويكون لهما حينئذ عليه فضل التقدم بالنعمة على المكافئ عليها»[8].

والدعاء بالرحمة والمغفرة خاصة بالوالدَيْن المؤمنَيْنِ بخلاف الوالدَيْن الكافرَيْنِ؛ فقد جاء القرآن باستثنائهما من عموم الأمر بذلك، قال الجصاص عند تفسيره للآية السابقة: «فيه الأمر بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين؛ لأنه قال في موضع آخر: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، فعلمنا أن مراده بالدعاء للوالدين خاص في المؤمنين»[9].

والعلة في تخصيص الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ بالدعاء بالرحمة والمغفرة، واستثناء الكافرين من ذلك: أن الكافرَيْن وإن ربّيا جسَد الولد فإنهما لم يربيا قلبه وإيمانه، فلا يَستحقان الدعاء لهما بذلك. ومع استثناء القرآن الوالدين من الدعاء بالرحمة والمغفرة؛ إلا أنه حثَّ على مصاحبتهما بالمعروف، والإحسان إليهما بالقول والفعل، فقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

ثم شرعت آية الدعاء في سورة الإسراء بعد الأمر بالدعاء ببيان صيغة الدعاء للوالدين، مُفتتحة ذلك بالتوسل على الله بربوبيته: {رَّبِّ}، وأفضل الأدعية ما جاءت بـ {رب}، أو {رَبَّنَا}، وبهذه الصفة جاءت أغلب أدعية القرآن، قال ابن سعدي: «كانت أغلب أدعية القرآن مُصدَّرة بالتوسل إلى الله بربوبيته؛ لأنها أعظم الوسائل على الإطلاق التي تحصل بها المحبوبات وتندفع بها المكروهات»[10].

وبهذه الصفة صدر الأنبياء أدعيتهم، قال ابن سعدي: «وذلك متضمن لاستحضارهم معنى تربيةِ الله العامة، وهو الخلق والتدبير، وإيصال ما به تستقيم الأبدان، والتربيةِ الخاصة لخيار خَلقه، الذين ربّاهم بلُطفه وأصلح لهم دينهم ودنياهم، وتولّاهم فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهذا متضمنٌ لافتقارهم إلى ربهم، وأنهم لا يقدرون على تربية نفوسهم من كل وجه، فليس لهم غير ربهم يتولاهم، ويُصلح أمورهم»[11].

ثم أعقب التوسل بالربوبية بالسؤال: {ارْحَمْهُمَا} في الدنيا والآخرة، وقد اقتصر الدعاء هنا على لفظ: الرحمة، قال القفال: «لفظ «لرحمة» جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا»[12].

 ثم بينت الآية العلة الموجبة للدعاء للوالدين، فقال: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؛ فالكاف هنا كاف التعليل، فكما رحمونا صغارًا وعطفوا علينا، فارحمهما يا رب «وتعطَّف عليهما برحمتك ومغفرتك، كما تعطَّفا عليّ في صغري، فرحماني وربياني صغيرًا حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما»[13].

والدعاء للوالدين يجب على الأبناء جميعًا؛ إلا أنه يزداد وجوبًا في حق الأبناء الذين قابلوا إحسان الوالدين بالعقوق والنكران، قال ابن الجوزي: «أف له -أي لكل عاقّ ماتا أبواه أحدهما أو كلاهما وهما عليه غضابًا- هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟ أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

كم آثرك بالشهوات على النفس، ولو غبت ساعة صارا في حبس، حياتهما عندك بقايا شمس، لقد راعياك طويلا فارعهما قصيرا: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؟

كم ليلة سهرا معك إلى الفجر، يداريانك مداراة العاشق في الهجر، فإن مرضت أجريا دمعًا لم يجرِ، تالله لم يرضيا لتربيتك غير الكفّ والحجر سريرًا: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؟

يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك، كم جرّعاك حلوًا وجرّعتهما مريرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؟

أتحسن الإساءة في مقابلة الإحسان، أو ما تأنف الإنسانية للإنسان؟ كيف تعارض حُسن فضلهما بقبح العصيان؟ ثم ترفع عليهما صوتًا جهيرًا: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؟

تحب أولادك طبعًا، فأحبب والديك شرعًا، وارع أصلاً أثمر لك فرعًا، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولاً وأخيرًا {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؟

تصدق عنهما إن كانا ميّتين، وصل لهما، واقضِ عنهما الدين، واستغفر لهما، واستدم هاتين الكلمتين، وما تكلف إلا أمرًا يسيرًا: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}»[14].

والدعاء للوالدين بالرحمة والمغفرة كان من هدي الأنبياء (قدوة الخلق)؛ فهذا نوح -عليه السلام- دعا لوالديه، فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وفي هذا الدعاء العظيم نلاحظ الترتيب من الأقرب إلى الأبعد، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِـمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِـمِينَ إلَّا تَبَارًا} [نوح: ٨٢] ؛ حيث بدأ بالدعاء لنفسه، وهذه هي السُّنة، والإنسان محتاج للدعاء أكثر من غيره، ثم الدعاء لوالديه {وَلِوَالِدَيَّ}؛ فهما أعظم الناس حقًا، {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا}؛ من أقاربي وإخواني في الله، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عمومًا من السابقين واللاحقين والأحياء والأموات والموجودين والذين مضوا، والذين سيأتون {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ}، ولعل من استغفر للمؤمنين والمؤمنات يَكتب الله له بكل مؤمن حسنة، ثم الدعاء على الظالمين والكافرين الهلاك والدمار والتبار.

وهذا إبراهيم الخليل -عليه السلام- وعد أباه بالدعاء له بالمغفرة، فقال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وفي آية أخرى طلب المغفرة لأبيه، فقال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}، وذلك كان قبل أن ينهاه ربه عن ذلك.

وعلى طريقة الأنبياء سار السلف في الدعاء لآبائهم بالرحمة والمغفرة؛ فهذا عروة بن الزبير كان يقول في صلاته وهو ساجد: «اللهم اغفر للزبير بن العوام ولأسماء بنت أبي بكر»[15].

وهذا عامر بن عبد الله بن الزبير يحكي عن نفسه فيقول: «مات أبي فما سألت الله حولًا إلا العفو عنه»[16].

وهذا أبو يوسف الفقيه الحنفي كان يقول عقب صلاته: «اللهم اغفر لأبوي، ولأبي حنيفة»[17]، والشواهد في هذه المسألة كثيرة، نكتفي بما سبق.

وأما الوقت المفضَّل للدعاء للوالدين، والكمية التي يتحقق بها الشكر للوالدين والمكافأة لهما على إحسانهما؛ فقد ذكر بعض العلماء أن الوقت المفضَّل للدعاء الأوقات التي جاءت السُّنة ببيان أنها مظنة الإجابة، وأما كمية الدعاء فخمس مرات في اليوم والليلة؛ مستشهدين على ذلك بقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}؛ قال سفيان بن عيينة في هذه الآية: «من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين»[18].

وقال القاسمي: «استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام؛ لأنه وقت فاضل»، ثم قال القاسمي حاكيًا عن نفسه: «لا أزال أدعو لهما في السَّحَر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته؛ لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره»[19].

ودعاء الأبناء للوالدين عائد بالمقام الأول إلى الأبناء في الدنيا والآخرة، قال تعالى في سورة النمل في آية دعاء سليمان -عليه السلام-: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وقال تعالى في سورة الأحقاف حاكيًا دعاء العبد الذي بلغ أربعين سنة من عمره: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

فهاتان الآيتان اتفقتا في بدايتهما على الدعاء بلفظ واحد، وهو قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}، واختلفتا في نهايتهما تبعًا لاختلاف حال الداعين بهما، ففي سورة النمل ختم سلميان -عليه السلام- دعاءه بقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وفي سورة الأحقاف ختم الأب الذي بلغ أربعين سنة من عمره دعاءه بقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

فاتفقتا في سؤال الله الإعانة على شكر النعمة التي أنعم الله بها على الوالد، والنعمة التي أنعم الله بها على الوالد: { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}؛ ففيها سأل العبد ربه الإعانة على شُكر نِعمه الخاصة به: {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}، ثم أردف ذلك بسؤال الله الإعانة على شكر النعمة الخاصة بالوالدين: {وَعَلَى وَالِدَيَّ}؛ ذلك أن النعم الحاصلة للوالدين نِعَم على أولادهم وذريتهم، قال ابن سعدي: «النعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم؛ لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصًا نِعم الدّين؛ فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم»[20].

وبهذا يتضح السر الذي لأجله دعا الابن ربه بشكر نِعَمه الخاصة بالوالد، والنعمة الحاصلة للوالدين، ذلك أن كل نعمة حصلت للوالدين عائدة على الأبناء في حياة الأبوين وبعد مماتهما، ويتضح ذلك أكثر من خلال الثلاثة الأمثلة التالية:

الأول: نعمة الصحة للأم يستفيد منها الأبناء في الغذاء.

الثاني: نعمة المال يستفيد منها الأبناء في حياة الأبناء بالعيش الرغيد، وبعد موت الآباء بما يحصل للأبناء من الإرث.

الثالث: نعمة صلاح الوالدين يستفيد منها الأبناء في الحفظ والرعاية بعد موت الآباء؛ كما قص الله علينا قصة ذلك الغلام في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]؛ فقد حفظ الله للغلامين كنزهما حتى كبرا؛ بسبب صلاح والديهما. وفي هذا توجيه وإرشاد للوالدين بالتحلي بالتقوى والعدل في حياتهما إن أرادا حفظ ذريتهما بعد موتهما، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} [النساء: 9]؛ فقد بينت الآية أن تحقيق الآباء لتقوى الله في حياتهما وعدلهما بين ورثتهم وبين سائر الخلق صمام أمان لذريتهم من الضياع بعد موت الآباء.

وفي قوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}؛ إشادة بنعمة الأبوة؛ حيث بينت أن الأبوة نعمة في الحال والمآل، أما في الحال فإنه لولا الآباء لما وجد الأبناء، حتى ولو كان الوالدين كافرين، وأما في المآل فإن الوالدان إذا كانا مؤمنين فإن هذه نعمة تكون أكمل من النعمة الأولى، فبها تكمل نعمة الأبوة، وتعظم ثمرتها، ويزداد أثرها؛ لما الآباء من عظيم الأثر في صلاح الأبناء واستقامتهم، فالبلد {الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فإذا كان الآباء أتقياء كان الأبناء -في الغالب- أتقياء، والعكس بالعكس.

بخلاف البنوة فإنها نعمة في المآل، لا في الحال، ذلك أن من الأبناء من يكون نعمة، ومنهم من يكون مصدر نقمة، تبعًا لحال الأبناء صلاحًا أو فسادًا.

فإذا إذا كانوا من أهل الصلاح كانوا نعمة، وإذا كانوا من أهل الفساد كانوا نقمة، ولذلك جاء في الآيتين السابقتين سؤال الله العمل الصالح المتقبل، قال تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ} في المستقبل عملاً {صَالِحًا} خالصًا لوجه الله، وموافقًا لما جاء به رسول الله {تَرْضَاهُ} أي تقبله مني. وفي هذا حثّ إرشاد للآباء بإحسان تربية الأبناء، والسعي في إصلاحهما، فبصلاحهما ينتفع الآباء بكل عمل صالح يعمله الأبناء، وتصلهم الدعوات النافعة إلى قبورهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة» وذكر منها: «أو ولد صالح يدعو له»[21].

ويزداد الآباء درجات في الجنة باستغفار الأبناء لهما؛ فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «... إن الرجل لتُرفَع درجته في الجنة، فيقول: أنَّى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك»[22].

ولأهمية صلاح الأبناء جاء دعاء الآباء بصلاح الأبناء في آيات عدة؛ منها قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}؛ أي جعلهم صالحين فطرةً وجِبِلَّةً، أو أصلحهم إذا تنكَّبُوا وانحرفوا عن جادة الصواب، لذلك كانت الغاية العظمى من الذرية: الصلاح، وبذلك جاءت أدعية الأنبياء والصالحين؛ فهذا زكريا -عليه السلام- طلب من ربه ذلك، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]؛ فاستجاب الله له: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39].

وهذا خليل الله إبراهيم (الأب) وإسماعيل (الابن) سألا ربهما ذلك، فقالا وهما يرفعان قواعد البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128]؛ قال ابن سعدي: «فتضرعا إلى ربهم في قبول الله عملهما، وأن يكون كاملاً من كل وجه، وتحصل منه الثمرات النافعة، وتوسلا إليه بأنه السميع لأقوالهما، العليم بجميع أحوالهما، ولما دعوا بهذا الدعاء الخاص في قبول عملهما سألا اللهَ أجلَّ الأمور وأعلاها، وهو أن يَمُنّ الله عليهما، وعلى من شاء من ذريتهما بالإسلام لله ظاهرًا وباطنًا، والعمل بما يحبه ويرضاه، وأن يعلمهما العمل الذي شرعا فيه، ويكمّل لهما مناسكهما -علمًا ومعرفةً وعملاً-، وأن يتوب عليهما لتتم أمورهما من كل وجه؛ فاستجاب الله هذا الدعاء كله، وبارك فيه وحقق رجاءهما، والله ذو الفضل العظيم»[23].

وأيضًا طلب إبراهيم الخليل -عليه السلام- من ربه تجنيبه وذريته الشرك: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، ولا خير في ذرية تفشها فيها الشرك.

وطلب عباد الرحمن الذرية الطيبة التي تقر بها أعينهم؛ فقالوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال ابن سعدي: «توسلوا بربوبية الله أن يهب لهم من أزواجهم وقرنائهم وذرياتهم ما تَقَرُّ أعيُنهم به، وهو أن يكونوا مطيعين لله، عاملين بمرضاته، وذلك دليل على أن طاعةَ الله قرةُ أعينهم ومحبتَه نعيمُ قلوبهم، فقويت هذه الحالة إلى أن سألوا اللهَ تعالى أن يجعل قرناءهم بهذه الحالة الكاملة، وذلك مِن فضل الله عليهم؛ فإن الله إذا أصلح قرناءَهم عاد مِن هذا الخير عليهم شيءٌ كثير، ولهذا جعلوا هذا من مواهب ربهم فقالوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا ... } إلخ، ولما كان غاية كمال الإنسان أن يكون مطيعًا لله، وأن يكون قرينًا للمطيعين؛ سألوا ربهم أعلى المراتب وأجلَّها، وهي الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوةً للمتقين، وذلك أن يجعلهم علماءَ ربانيين، راسخين في العلم مجتهدينَ في تعلُّمه وتعليمه والدعوةِ إليه، وأن يكون علمُهم صحيحًا؛ بحيث إن من اقتدى بهم فهو من المتقين، وأن يرزقهم من الأعمال الظاهرة والباطنة ما يصيرون به أئمةً للمتقين... فالحاصل أنهم سألوا ربهم أن يكونوا كاملين مُكمّلين لغيرهم، هادين مهتدين، وهذه أعلى الحالات، فلذلك أعدَّ الله لهم أعلى غرف الجنان: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا 75 خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75، 76][24].

وعوّذت الأم العابدة التقية ابنتها وحفدتها بالله العظيم من الشيطان: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}؛ فاستجاب الله لها، {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.

ثم ختمت آية الدعاء في سورة النمل بدعاء سليمان -عليه السلام- ربه بقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]؛ توسل إلى ربه برحمته أن يدخله مع الصالحين الذين امتن الله عليهم بالإنعام والإكرام كما أخبر بذلك في قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، قال ابن سعدي معلقًا على دعاء سليمان -عليه السلام-: «توسل إلى الله بربوبيته، وبنعمته عليه وعلى والديه؛ أن يُوزعه أي يُلهمه ويُوفّقه لشكرها بالاعتراف بها، ومحبته لله عليها والثناء عليه، والإكثار من ذِكْره، وأن يوفّقه عملاً صالحًا يرضاه، ويدخل في هذا جميع الأعمال الصالحة ظاهرها وباطنها، وأن يدخله برحمته في جملة عباده الصالحين، وهذا الدعاء شاملٌ لخير الدنيا والآخرة»[25].

وختمت آية الدعاء في سورة الأحقاف بدعاء العبد الذي بلغ سن الأربعين ربه بقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]؛ توسل إلى ربه بإسلامه، وعبوديته لربه، وتوبته من الذنوب، قال ابن سعدي معلقًا على دعاء الذي بلّغه اللهُ أشُدّه وبلغه أربعين سنة، ومَنَّ عليه بالإنابة إليه: «توسل بربوبية ربه له، وبنعمته عليه وعلى والديه، وبالتزام ترك ما يكرهه ربُّه بالتوبة وفعل ما يحبّه بالإسلام أن يمُنَّ عليه بالشكر المتضمّن لاعتراف القلب وخضوعه ومحبته للمنعم، والثناء على الله مطلقًا ومقيدًا، وأن يُوفِّقه لما يحبّه الله ويرضاه، ويُصلح له في ذريته، فهذا دعاء محتوٍ على صلاح العبد، وإصلاحِ اللهُ له أمورَه كلَّها، وإصلاحِ ذريته في حياته وبعد مماته، وهو دعاء حقيقٌ بالعبد -خصوصًا إذا بلغ الأربعين- أن يداوم عليه بِذُلّ وافتقار؛ لعلّه أن يدخل في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]»[26].

 

 


 


[1] رواه أبو داود: 1672، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1469.

[2] شرح رياض الصالحين: 4/22.

[3] مفاتيح الغيب: 13/178.

[4] تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة: 1/270.

[5] تيسير الكريم الرحمن، ص: 456.

[6] يُنظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 10/244.

[7] الجامع لأحكام القرآن: 10/244.

[8] أحكام القرآن، لابن العربي: 3/155.

[9] أحكام القرآن، للجصاص: 5/20.

[10] المواهب الربانية، ص: 32.

[11] المواهب الربانية، ص: 32.

[12] ينظر: مفاتيح الغيب: 20/327.

[13] ينظر: محاسن التأويل: 6/454.

[14] التبصرة، لابن الجوزي: 1/193.

[15] مصنف عبد الرزاق: 2/449، وشعب الإيمان: 10/297.

[16] بر الوالدين، الطرطوشي، ص: 78.

[17] بر الوالدين، للطرطوشي، ص: 77.

[18] معالم التنزيل، للبغوي: 3/588.

[19] محاسن التأويل، للقاسمي: 6/455.

[20] تيسير الكريم الرحمن، ص: 781.

[21] - رواه مسلم: 1631.

[22] رواه ابن ماجه: 3660، وأحمد: 10610، وقال محققو المسند: «إسناده حسن».

[23] المواهب الربانية، ص: 36.

[24] المواهب الربانية، ص: 35.

[25] المواهب الربانية، ص: 37.

[26] المواهب الربانية، ص: 37.

 


أعلى