• - الموافق2024/12/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
استيعاب المقالات وتحرير النزاع عند أبي العبّاس

استيعاب المقالات وتحرير النزاع عند أبي العبّاس


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

لا يُعلم لابن تيمية نظير في معرفة الملل والنحل، فدرايته بمقالات الفرق الإسلامية وغير الإسلامية تبهر العقول، بل إنه أدرى وأعلم بمقولات المبتدعة من المبتدعة أنفسهم.

يقول تلميذه ابن عبد الهادي: «ثم انفتح له بعد ذلك من الردّ على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع، ما لا يوصف ولا يعبّر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحث الدقيقة، في كتبه وغير كتبه مع أقرانه وغيرهم في سائر أنواع العلوم ما تضيق العبارة عنه»[1].

ومن أنعم اللهُ عليه بمطالعة التراث التيّمي يلحظ براعة فائقة، وقدرة عجيبة في فهم أقوال المخالفين، واستيعاب شبهاتهم، ودرايته بأصولها  وجذورها، ومهارةً في توضيحها وتقريبها  وتلخيصها بعلم  وعدل، وفقه وإنصاف.

كما يَشهد حدةَ ذكائه وتوقّد فكره في بيان تشابه هذه المقالات والقدر المشترك بينها تارةً، وبيان اختلافها وافتراقها تارة أخرى، وتفاوت الانحراف بين تلك المقالات، ومعرفته الراسخة بمراتب الطوائف  وتفاضلهم.. ثم إن ابن  تيمية لا يقتصر على ذلك بل يعقبه بالنقض المتين لتلك المقالات، والإتيان عليها من أصولها، ونسف قواعدها.

فابن تيمية - وكأن العلوم بين عينيه كما وصفوه- عندما ينظر في مقالات الفرق والنحل، فمع كثرة مقالاتهم وتشعبها، وعويص مذاهبهم وغموضها، وما قد يبدو من تضادّها وتقابلها، إلا أنه بذهنه السيال، وعلمه الزخّار،  ونور بصيرته استطاع أن يقرّب هذه المقولات وأن يردّها إلى أصولها، ويحرر منشأ الضلال، ويكشف عن أصل الاضطراب فيها، كما سيتضح من خلال الشواهد التالية:

- ما أكثر مقالات الفرق الإسلامية في تعريف الإيمان كالخوارج والمعتزلة والمرجئة.. ومع تقابل وتضاد الوعيدية (الخوارج والمعتزلةوالمرجئة لكنهم يتفقون على أصل فاسد تفرّعت عنه البدع في الإيمان، «فإنهم ظنوا أن الإيمان متى ذهب بعضه ذهب كلّه لم يبق منه شيء، ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار، وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تُذهِب الكبائرُ وتركُ الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان، إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئاً يستوي فيه البرّ والفاجر.

ونصوص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدلّ على ذهاب بعضه وبقاء بعضه..»[2].

وبيّن ذلك في موطن آخر فقال: «وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والمرجئة يقولون إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق.. ومن هنا  غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول»[3].

والحاصل أن الإنحراف في تعريف الإيمان ناشئٌ عن أصل فاسد يتفق عليه الوعيدية والمرجئة، وهو أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، فلا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه..

- وأما في مسائل القدر فقد احتفى ابن تيمية بهذا الفرقان المبين بين الإدارة الكونية القدرية، والإدارة الشرعية الدينية، وأثبت هذا التقسيم الشريف في في مواطن كثيرة جداً، وبيّن أن هذا التقسيم ذكره غير واحد من أهل السنة، وأن أبا الحسن الأشعري خالف ذلك فجعل المشئية هي المحبة والرضا.

فقال - رحمه الله -: «وجهم ومن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبته ورضاه بمعنى واحد، ثم قالت المعتزلة: وهو لا يحبّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه، فقالوا: إنه يكون بلا مشيئة، وقالت الجهمية، بل هو يشاء ذلك، فهو يحبّه ويرضاه، وأبو الحسن (الأشعري) وافق هؤلاء، ولم يفرّق بين المشيئة، والمحبة والرضا»[4].

ونقل ابن تيمية أن السلف على التفريق بين المشئية والمحبة، فقال: «وأما جمهور أهل السنة فيفرّقون بين الإرادة والمحبة والرضا، فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبّها ولا يرضاه، بل يبغضها ويسخطها، ينهى عنها، فهؤلاء يفرّقون بين مشيئة الله ومحبته..»[5].

والمقصود أن القدرية النفاة والجبرية على طرفي نقيض، إلا أن منشأ ضلالهم واحد، وهو التسوية بين مشئية الله تعالى، وبين محبته ورضاه، فجعلوا المشيئة هي المحبة، ثم قالت المعتزلة القدرية: إن المعاصي لا يحبّها الله فهي خارج مشيئته!

وقالت الجمهية الجبرية: المعاصي واقعة بمشيئة الله، فالله يحبها ويرضاها - تعالى الله عن ذلك -.

والحق أن المعاصي وإن كانت واقعة بمشيئة الله، إلا أن الله لا يحبها ولا يرضاها، فلا يرضى سبحانه لعباده الكفر، والله لا يحب الفساد.

- وأما ما يتعلق بمسائل الأسماء والصفات.. فهذا كثير ومن ذلك أننا نجد طرفين في إثبات أفعال الله تعالى، فالكلابية والأشاعرة يجعلونها قديمة بعينها ملازمة لذاته سبحاته، وأما المعتزلة فيجعلونها مخلوقة منفصلة عنه، وأهل السنة والجماعة يقولون: إن أفعال الله تعالى قائمة بذات الله تعالى-رداً على المعتزلة-وأنها متعلقة بمشيئته وقدرته ردّاً على الأشاعرة والكلابية[6].

لكن منشأ اضطراب الفريقين (المعتزلة والأشاعرة) واحد: حيث اشتركا في أن الله تعالى لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته، فلزم المعتزلة أنهم جعلوا أفعاله مخلوقة، ولزم الأشاعرة أنهم جعلوا أفعاله قديمة لازمة لذاته سبحانه، وليست متعلقة بمشيئته وقدرته[7].

وكذا مسألة دوام الحوادث وتسلسلها، فالفلاسفة يقولون بقدم العالم ودوام الحوادث بإطلاق، والمتكلمون ينفون دوام الحوادث في الماضي بإطلاق، وهذان القولان المتقابلان يشتركان في أصل واحد فاسد وهو أن تسلسل الحوادث يستلزم قدم العالم[8].

ثم إن قول الفلاسفة بوقوع الحوادث بلا محدث ولا صانع هو نظير قول المتكلمة بحدوث الحوادث بلا سبب[9].

والفيصل في مسألة دوام الحوادث هو التفريق بين أفرادها وبين أنواعها، والفلاسفة  والمتكلمون لم يفرّقوا بينها، فنعيم الجنّة مثلاً دائم لا يزول قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35] {إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54]  فالدائم الذي لا ينفد هو النوع، وإلا فكل فرد من أفراده نافد فقضى ليس بدائم[10].

وأخيراً فهذه النماذج الرائعة والشواهد السامقة ينبغي أن نوظّفها وأن نعتبر بها في التعامل مع النوازل العقدية والفكرية المعاصرة، وسبيل فهمها، وردّها إلى أصولها، وملابسات نشأتها، ومواطن الاتفاق والافتراق فيما بينها، ثم الحكم عليها وتقويمها وفق النقل والعقل، والله المستعان.

 

:: مجلة البيان العدد 298 شهر جمادى الآخرة 1433هـ، مايو2012م



[1]  العقود الدرّية، صـ67.

[2] الإيمان، صـ210.

[3] الإيمان، صـ337، وينظر: مجموع الفتاوى 12/471، 18/270، ومنهاج السنة 5/204، 4/570.

[4] الفتاوى 8/474.

[5] المنهاج 3/15= باختصار، وينظر: النبوات 1/287، الفتاوى 10/166.

[6] ينظر: الصفدية 2/89، الدرء 2/147، الفتاوى 6/144.

[7] ينظر: الدرء 2/112.

[8] ينظر: الدرء 9/147.

[9] ينظر: الفتاوى 12/187، الصفدية 1/133.

[10] ينظر: الصفدية 1/65، والمنهاج 1/426.

 

 

أعلى