الوجوه والنظائر في القرآن

يجب على الباحث أن يضع نصْب عينيه عند بيان دلالة لفظ من الألفاظ، قضية السياق القرآني، ومناسبة مدلول الآية لِمَا قبلها وما بعدها، ومناسبة مدلول المفردة القرآنية لسياق الآية، وجوّ السورة التي ورد فيها


مصطلح «الوجوه والنظائر» يعني أن تكون الكلمة الواحدة قد ذُكِرتْ في مواضع متفرِّقة من القرآن على لفظٍ واحد وحركةٍ واحدة، ولكنْ يُرَاد بها في كل مكانٍ ذُكِرت فيه معنًى يخالف معناها في المكان الآخَر. فذِكْر الكلمة في موضع وذِكْر نظيرها في موضعٍ آخَر هو ما يُسمَّى بالنظائر. أمَّا تفسير الكلمة بمعانيها المختلفة فهو ما يُسمَّى بالوجوه.

وبناءً على هذا؛ يكون المراد بالنظائر: اسم للألفاظ، والمراد بالوجوه: اسم المعاني.

 وقد تنبَّه علماءُ اللغة الأوائل لهذه الظاهرة اللغوية، وألَّفوا فيها روائع الكتب، والتي حملتْ عناوين: «الأشباه والنظائر» أوْ «الوجوه والنظائر»، ومن بين هذه الكتب: «الأشباه والنظائر في القرآن الكريم» لمقاتل بن سليمان البلخي (المتوفَّى سنة 150هـ). «التصاريف: تفسير القرآن ممَّا اشتبهت أسماؤه وتصرَّفت معانيه» ليحيى بن سلام (المتوفَّى سنة 200هـ). «تحصيل نظائر القرآن» للحكيم الترمذي (المتوفَّى بعد سنة 318هـ). «الأشباه والنظائر في الألفاظ القرآنية التي ترادفت مبانيها وتنوعت معانيها» للثعالبي (المتوفَّى سنة 429هـ). «الوجوه والنظائر» لأبي عبد الله الحسين الدامغاني (المتوفَّى سنة 478هـ)، وغيرها.

يقول ابنُ الجوزي (ت:597هـ) في كتابه «نزهة الأعيُن النواظر في عِلم الوجوه والنظائر»: «واعلم أَنَّ معنى الوُجُوه والنظائر أَن تكون الْكَلِمَة وَاحِدَة، ذُكرت فِي مَوَاضِع من القُرآن على لفظ وَاحِد، وحركة وَاحِدَة، وَأُرِيد بِكُلِّ مَكَان معنًى غير الآخَر. فالنَّظائِر: اسم للألفاظ، وَالوجُوه: اسم للمعاني.

 نستنتج من كلام ابن الجوزي: أنَّ الوجوه والنظائر تنقسم إلى قسميْن: حقيقية، وغير حقيقية.

الوجوه والنظائر الحقيقية هي: أن تكون للمفردة القرآنية نظائر بوجوه مختلفة، نتعرّف عليها من خلال السياقات القرآنية لكل مفردة. ولْنَذْكُر مثالًا لذلك:

 جاء في كتاب «الوجوه والنظائر في القرآن العظيم» لمقاتل بن سليمان البلخي، ما يلي:

«لفظ (كتب) على أربعة أوجه:

 الوجه الأول: كُتب، يعني: فُرض. وذلك قوله في البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]. يعني: فُرض عليكم. وقال فيها:  {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، يعني: فُرض عليكم. وكقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْـمَوْتُ} [البقرة: 180]، يعني: فُرض. وكقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، يعني: فُرض. وقال في النساء: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء: ٧٧]، يعني: فلمَّا فُرض. {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء: ٧٧]. يقول: لم فَرَضْتَ.

 الوجه الثاني: كَتَبَ، يعني: قَضَى. فذلك قوله في المجادلة: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، يعني: قضى الله. وقال في براءة: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]. يعني: إلاَّ ما قَضَى اللهُ لنا. وقال في الحج: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ} [الحج: ٤]، يقول: قضى الله عليه، لإبليس، {أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: ٤]. وقال في آل عمران: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. يعني: قُضي عليهم القتل.

 الوجه الثالث: كَتَبَ، يعني: جعل. فذلك قوله في المجادلَة: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} [المجادلة: ٢٢]. يعني: جعل. وقال في آل عمران: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]. يقول: فاجعلنا. وكقوله في المائدة:  {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. يقول: فاجعلنا. وكقوله في الأعراف: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. يعني: فسأجعلها.

الوجه الرابع: كَتَبَ، يعني: أمر. فذلك قوله في المائدة: {الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]. يعني: التي أمركم اللهُ أن تدخلوها».

 وقد عرّفَ الزركشيُّ الوجوهَ والنظائر بقوله: «فالوجوه: اللفظ المشترك الذي يُستعمل في عدة معانٍ كلفظ الأُمة، والنظائر كالألفاظ المتواطئة». أمَّا صاحب «كشف الظنون» فيرى أنَّ «النظائر أن تكون الكلمة واحدة ذُكِرت في مواضع من القرآن على لفظٍ واحد وحركةٍ واحدة، وأريد بها في كل مكان معنًى غير الآخَر، وتفسير كل كلمة بمعنى غير معنى الأخرى هو الوجوه».

 فالعلماء في هذا المجال يذكرون الكلمةَ الواحدة، ثمَّ يذكرون معانيها المتعددة، ويستدلّون على كل معنى بالآيات القرآنية، ممَّا يدل على أنَّ الوجوه للمعاني؛ إذْ يشيرون إلى الكلمة، ويقولون: وفيها سبعة عشر وجهًا.. وفيها أربعة وجوه.. وهكذا نجد أنهم يريدون بهذا الوجه معنًى يختلف قربًا وبُعدًا عن معنى آخَر مرادًا من آية أخرى.

وهذه قاعدة بديهة في عِلْم الدلالة وقواعد التفسير؛ فإنَّ الألفاظ المستخدمة في الكلام تتقيَّد دلالتها بالمعنى المناسب لسياقها في الكلام، فإذا خرجت المفردة عن المعنى المناسب لسياقها في الكلام أخرجت الكلام كله عن المعنى المراد منه.

=انظر مثلًا إلى كلمة (اليأس): التي تعني القطع على أَن المطلوب لَا يتَحصَّل لتحقيق فَوَاته. يُقَال: يئسَ الرجل ييأس يأسًا. وذكَر المُفَسّرون أَنه فِي القُرآن على وجهَيْن:

 أَحدهمَا: القنُوط. وَمِنه قَوله تَعالَى فِي سُورَة يوسُف: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وَإِنَّمَا عبر باليأس عَن الْقنُوط لأَن الْقنُوط ثَمَرَة الْيَأْس.

 والثانِي: العلم. وَمِنه قَوله تعالَى فِي سُورة الرعد: {أفلم ييأس الَّذين آمنُوا أَن لَو يَشَاء اللهُ لهدى النَّاس جَمِيعًا}، أَيْ: أفلم يعلمُوا.

= وانظر إلى كلمة (اليوم)، إذْ تختلف دلالاتها حسب السياق الواردة فيه:

 فقد يكون المراد بها (يوم القيامة)؛ كما فِي سورة النبأ: {إنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 17].

وقد تعني: (يَوم عَرَفَة)، وَمِنه قَوْله تَعَالَى فِي الْمَائِدَة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣].

أوْ تعني (يوم بدر)، ومنه قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ} [الأنفال: 41].

أوْ تعني (الحِين)، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْأَنْعَام: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١].

أوْ تعني (الْوَقْت)، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: ٥].

أوْ تعني (النِّعمَة)، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيم: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: ٥]؛ (أَي: بِنِعَمِهِ).

 =وقد ذكر أهلُ التَّفْسِير أَنَّ كلمة (هوى) فِي الْقُرْآن على ثَلَاثَة أوجه:

أَحدها: بِمعنى نزل. وَمِنه قَوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} [النجم: ١].

 والثَّانِي: بِمَعنى هلك. وَمِنْه قَوْله فِي سورة طه: {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه: 81].

والثالِث: بِمعنى الذّهاب. كما فِي سورة الحَج: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، أَي: تذهب.

=كلمة (النَّاس) قد تعني جميع الناس:

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 21]؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1]؛ ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: 57].

 وقد تعني عددًا محدودًا من الناس:

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ [آل عمران: 173].

وقد تعني المؤمنين من الناس:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: 161]. ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].

وقد تعني الكافرين من الناس:

﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24].

 وقد تعني أهل مصر خاصة:

﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: 49].

 =كلمة (الأرض) قد تعني الكوكب الأرضي:

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [قّ: 38].

﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19].

﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾ [يونس: 24].

وقد تعني أرض مصر: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]. ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ [يوسف: 73].

 وقد تعني أرض فلسطين: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].

وقد تعني رقعة محدودة صغيرة من الأرض: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ [البقرة: 71]. ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: 31].

=كلمة (آيـة): قد تعني كلام الله المقروء الذي يُتلَى على مسامع الناس:

﴿تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس :1]. {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 7 يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: ٧، ٨]. ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [المؤمنون: 105].

وقد تعني «المعجزة» وهي البرهان والحجَّة التي تُؤتَى للرسل والأنبياء، تصديقًا لهم:

 ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء :8]؛ ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى﴾ [طه: 23]؛ ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59].

وقد تعني العلاَمة على حدوث شيء عظيم جلل:

 ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ [الأنعام: 158].

وقد تعني الشاهد أوْ العلاَمة على أمرٍ بعينه، مثل ما حدث لسيدنا زكريا -عليه السلام- حين توقف لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، علامةً على حمل امرأته العاقر بوليدها المنتظر يحيى: ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا﴾ [آل عمران: 41].

وقد تعني العِبرة والموعظة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ [يوسف: 7]؛ {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمِ يَسْمَعُونَ 65 وَإنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ} [النحل: 65، 66].

وقد تعني الأمر أوْ النهي: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 1]؛ ﴿وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة: 221].

 = كلمة (أُمّ): قد تعني الوالدة: ﴿فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ﴾ [طـه: 40]؛ ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ﴾ [المجادلة: 2].

وقد تعني الأصل، فيقال «أُم» لكل ما كان أصلًا لوجود شيء أوْ تربيته أوْ إصلاحه. وكل شيء ضُمّ إليه سائر ما يليه يُسمَّى أُمًّا: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: 7]. فمكَّة تُسمَّى «أم القُرى» باعتبارها المركز الرئيسي، وأمَّا ما حولها فهو هوامش. ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]. أيْ: في اللوح المحفوظ؛ وذلك لكون العلوم كلها منسوبة إليه ومتولّدة منه.

=كلمة (أب): قد تعني الوالد بعينه:

﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ﴾ [يوسف: 4]. ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23].

وقد تعني العم: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [البقرة: 133]؛ فإسماعيل عم يعقوب.

وقد تعني الجد: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ [الحج: 78].

=كلمة (الفُرقان): قد تعني الكتاب الذي نزل من السماء:

﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان :1]؛ {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ 3 مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: ٣، ٤].

 وقد تعني ما يُفرّق بين الحق والباطل من فَهْم وبصيرة، أو من أحداث مثل النصر على الأعداء، كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ [لأنفال: 29]؛ وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [لأنفال: 41]؛ فالفرقان هنا النصر الحاسم الذي حدث في موقعة بدر الكبرى.

 وقد تعني المَخرج من الشبهة والضلالة:

 ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: 185].

 مِن هنا نعلم: أنَّ السياق أصلٌ من أصول التفسير التي يجب الاعتماد عليها لمعرفة دلالات الألفاظ المشتركة ومعانيها المناسبة. فيجب على الباحث أن يضع نصْب عينيه عند بيان دلالة لفظ من الألفاظ، قضية السياق القرآني، ومناسبة مدلول الآية لِمَا قبلها وما بعدها، ومناسبة مدلول المفردة القرآنية لسياق الآية، وجوّ السورة التي ورد فيها.

 فما أجملَ وجوه القرآن! وما أروع نظائره التي أثمرتْ كل هذه الثروة اللغوية الساحرة!

فسبحانَ مَن هذا كلامه، وهذا بيانـه.


أعلى