منظمات المجتمع المدني والغزو الصامت
استثمار الأزمات واستغلال المشاكل، وتوظيف
الحاجات... إلخ، أسلوب يشمئز منه دعاة القيم والإصلاح والتسامح، ويسارع إليه أصحاب
المصالح والفساد والنظرات الأحادية! وهذا ما نجده لدى الغرب الرسمي وآلياته
المدنية المسيَّسة؛ فقد تلقَّت (النيابة العامة) بمصر عدداً من البلاغات ضد مجموعة
من المنظمات الأهلية الغربية تحمل تأكيدات على أنها:
1- تتلقى
أموالاً خارجية بطريقة غير قانونية، ودون إشعار الحكومة المصرية بمصادرها، ثم لا
تقوم بتسجيلها في ميزانيتها، أو تحدد جهة صرفها.
2- لم
تحصل حتى الآن على موافقة رسمية بالعمل في مصر (ترخيص).
3- تنتهك
لوائح عمل مؤسسات المجتمع المدني المصري.
4- تقوم
بأنشطة سياسية (وأحياناً تجارية) تخالف وظيفتها.
5- تكتب
تقارير سلبية عن مصر لجهات أخرى لا تمتُّ إليها بصِلَة، وكأنَّ مهمتها
(مخابراتية)!
فتم تكليف مجموعة من
القضاة، يدعمهم ممثلون عن النيابة العامة بتفتيش (17) مقراً لتلك المنظمات في (5)
محافظات، منها:
1- المعهد
الديمقراطي الأمريكي.
2-
المعهد الجمهوري الأمريكي.
3-
مؤسسة بيت الحرية.
4-
المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة.
5-
مرصد الموازنة العامة.
6-
مؤسسة فريدريش نومان الألمانية.
7-
مؤسسة فريدريش أيدناور الألمانية.
وقد تحايل بعضها في
الوصول لمصر، واخترق سيادة الدولة بعد ثورة 25 يناير، وتمددت فروع لها في محافظات
القاهرة والجيزة وأسيوط والإسكندرية والأُقْصُر، وتم دعم بعضها بـ (100) مليون
دولار من (إدارة المعونة الاقتصادية الأمريكية) وثبت أن عملها في جمهورية مصر
العربية مخالف للأنظمة، وتمويلها غير نظامي، وينقصها الإيضاح عن أموالها، وعملها
خارج القانون. وقالت فايزة أبو النجا (وزيرة التخطيط والتعاون الدولي المصري): «إن
الأموال التي دخلت مصر خلال الفترة الأخيرة تبلغ 200 مليون دولار، لتمويل أنشطة لا
نعرفها حتى الآن، وهو ما يثير الشكوك والتخوفات من استخدامها في أعمال التخريب؛
خاصة أن هذا يُعَدُّ مخالفة تضرب عرض الحائط بجميع القوانين، وسيادة الدولة) وربما
تكون هذه الأموال مفتاح سرِّ الاعتصامات بعد الثورة، وتحطيم المنشآت، وإحراق
المجمَّع العلمي، وهي التي تقف خلف إصرار الولايات المتحدة على نشر مؤسسات المجتمع
المدني رغم معارضة الحكومة المصرية، وتأكيد الجانب الأمريكي (أن من حقهم فتح هذه
المراكز ضمن برنامج الديمقراطية الذي ينفَّذ في 56 دولة) ويصرح جيمس بيفير (مدير
بعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في القاهرة) باعتزام «الوكالة المضي قدماً
في تخصيص مبلغ (150) مليون دولار لمنظمات المجتمع المدني وبرامج الديمقراطية، رغم
رفض الحكومة المصرية ذلك»!
وفي ظهر يوم السبت
الموافق 26/12/2011م بدأت مهمة تفتيش المنظمات، وفي ذات اليوم وقبل استكمال الجهات
المعنية مهمتها تحركت آلية الاحتجاجات الغربية الرسمية والأهلية، وأعربت الخارجية
الأمريكية والبنتاغون عن قلقهما، وظهرت ملامح تهديد عسكري واقتصادي للمجلس العسكري
المصري الأعلى، وساهم أليون بانيتا (وزير الدفاع الأمريكي) بالتنديد، وقالت
فيكتوريا نولاند (المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية): «إنه قد يكون من الصعب المضي
قدماً في إقناع الكونغرس بالاستمرار في تقديم المعونة العسكرية إذ لم يتحسن
الوضع»، وأضافت: «نحن قلقون للغاية؛ لأن هذا التصرف غير مناسب في المناخ الحالي».
وأسهمت ألمانيا بالتصعيد حينما استدعت السفير المصري في برلين للاستفسار عن محركات
التفتيش وظروفه ، وقامت بتفعيل الحدث (28) منظمة؛ حيث استنكرت الهجمة الشرسة ورفضت
تهم (العمالة) ورأت أن الهدف من الملاحظات والتفتيش على المنظمات لا يخرج عن دائرة
(كبح جماحها)، وانتقدت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المداهمات،
وطالبت المتحدثة باسمها المجلس العسكري المصري بـ «التوقف عن ممارسة القمع ضد
منظمات حقوق الإنسان، واتخاذ خطوات واضحة لدعم هذه المنظمات دون تضييق الخناق
عليها، بما يساعدها على القيام بدورها في حماية حقوق الإنسان داخل المجتمع
المصري»، ودَعَم الموقفَ الاتحادُ الأوروبي بإصداره (بياناً) أعرب فيه عن قلقه،
واعتبر بعضُ المتابعين أن عمليات التفتيش خطوات تشهير وتشويه.
وقد تمخض من وضع اليد
ومتابعة القضاء والنيابة العامة أنهم وجدوا أموالاً كثيرة داخل مقراتها، وتقارير
خارج دائرة تخصصها، تتحدث عن مصر وثورتها وانتخاباتها وعمليات التعذيب فيها، كما
وجدوا جوازات سفر أجنبية بأسماء مصريين، وتذاكر سفر، وأفاد قاضي التحقيق أن
(المداهمات جرت بعد أن أكدت التحقيقات تورُّط منظمات في ارتكاب مخالفات) وأشارت
بعض التحريات إلى أن إحدى المنظمات الخارجية وصلها (100) مليون دولار أودعتها في
عدد من البنوك المصرية بأسماء (750) شخصاً، وسَيَلي مرحلة التفتيش وجمع الوثائق
إحالة القضية إلى (محكمة الجنايات) والنظر بها بشفافية عالية، بعدما تم التأكد من
الاعتداء على سيادة القانون، والسعي للعبث بالمجتمع المدني المصري، والمؤشر الحسن
أن ما قام به (القضاء) نحو المقرات الأهلية الأجنبية تم بعد (7) أشهر من المتابعة
والتحقيق وبعد الاستماع لما يقارب من (400) شخص يمتُّون بعلاقة مَّا للمجتمع
المدني ولا تزال القضية بين يدي القضاء، والأَوْلى أن تتأخر ردود الفعل إلى ما بعد
صدور الحكم، وما دام المرجع هو القضاء فإن تفعيل الإعلام، وتحريك القوى الخارجية،
والصراخ العالي دليلُ الأفلاس. وإذا كان الغرب يعلي سيادة القانون في دُوَلِه
فلماذا يستعلي على القضاء في الدول الاخرى؟ ومن الحدث وردود الفعل عليه وأبعاده
تبرز قضيتان، هما:
الأولى:
خطر المنظمات الأهلية الغربية وأدلجتها على الدول الإسلامية: فبعد الربيع العربي
تبرَّأت الولايات المتحدة الأمريكية من الحكام رغم خدماتهم وحمايتهم لتلك
المنظمات، واتجهت بأموالها وتمكُّنها نحو الشعوب الإسلامية متخذةً من منظمات
المجتمع المدني مطيَّة لأهدافها، ويمكن تلمُّس ذلك من خلال استغلال تلك المنظمات
لتسويق النمط الغربي في العالم الثالث، واستغلال فقرهم ومرضهم وجهلهم في إملاء
تصوراتهم ورؤاهم، وتنمية الوعي بدعاوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لدى المصريين
مثلاً، ويؤكده أن محاور عطاءات أغلب المنظمات الغربية في بلاد النيل يدور حول
أطروحاتٍ الغالبُ منها جميل في مظهره، مقبول في عمومياته، ولكن مصدرها ووقتها
ومحاورها التفصيلية يعكر حقائقها، ويجعل علامات التعجب والقلق تحيط بها من كل
جانب، وإنه لمن الأخطاء الفاحشة أن نأتي بنُخَب طلابية من مجتمع يعض على المذهب
الحنفي بالنواجذ لنعلِّمه الفقه الحنبلي؛ فكيف بقضايا فكرية وسياسية مستوردة تختفي
الألغام في كل منعطف ومنخفض ومطلع، وتنعدم الرؤية في معرفة أسس محركاتها؟ ويؤكد ما
سبق عناوين أنشطة الجمعيات الغربية الأهلية التي تصبُّ في بؤر مشبوهة، تؤدي إلى
زلزلة استقرار البلاد، ومنها: (تعزيز الديمقراطية) و (تدريب أعضاء الأحزاب
الجديدة) و (تبادل الأفكار بين الدول) و (تنمية الأحزاب) و (أبحاث الرأي العام) و
(إستراتيجية الحملات الدعائية) و (أوضاع المرأة) و (التسامح والتنوع الديني) و
(النساء في الريف المصري) و (استقلال الاتحادات العمالية) و (المسح الميداني لقياس
الوعي السياسي بين النساء) إضافة إلى برنامج (معهد الأندلس للتسامح) المتضمن إقامة
24 دورة تدريبية لتحسين التواصل بين طلاب الجامعات وأعضاء البرلمان المصري، وثلاثة
مؤتمرات للطلاب الجامعيين لتعليمهم كيفية مراقبة الأداء البرلماني، ويتم الإنفاق
عليها من (الوقف الأمريكي). أما (جمعية المراقب المدني لحقوق الإنسان) فأنها تعمل
على تقديم حلقات دراسية في محافظة الدقهلية للتدريب على كتابة التقارير عن حقوق
المرأة وانتهاكاتها بمصر، ومن أعمالها أيضاً بعثتها لشباب من (حركة 6 أبريل)
المصرية إلى صربيا لتلقِّي دورات تدريبية على التظاهر والاعتصام بعد الثورة، ومثل
هذه الأنشطة تشير إلى غياب الحيادية في مزاعم الأنشطة المدنية، التي هي شرط أساسي
في عملها؛ حيث قام بعضها بتشكيل تكتلات ضد ثورة 25 يناير، ومارست أنشطة محورها
العمل السياسي وقد اعترفت سفارة واشنطن بمصر – من خلال وثائق (ويكيليكس) – بأن
(المجموعة المتحدة) جعلت من الإعانات وقوداً لأنشطة سياسية، وهو ما يؤكد خروج
المنظمات عن أهدافها الإنسانية الأولى، وابتعادها عن الحاجات الأساسية للمجتمع المصري
كالدواء والغذاء وتعليم القراءة والكتابة، وما سبق مثال مختزل من خلال مجموعة
منظمات قليلة في دولة واحدة؛ فكيف لو تم تتبُّع جذور تلك المنظمات الغربية
وتحويلاتها، وتفكيك كيدها، وأهدافها الخطيرة في جميع الدول الإسلامية، وما تم
تحقيقه هنا وهناك بواسطتها.
الثانية:
واقع المنظمات الإنسانية الإسلامية: حيث عانت من المحاصرة والتهم والمصادرة،
واشتدت الوطأة عليها في السنوات العشر الأخيرة، ولكن النظر إليها من خلال منطقة
الحدث والحديث (مصر)، وبعد ثورة 25 يناير يجد إشراقة تعمُّ ما فيها من مؤسسات
إسلامية خالصة، ويجد تقديراً رسمياً للدعم العربي وخاصة الخليجي، وتقارير وتصاريح
تؤكد أنه لم يتمَّ رصد أي إنفاق سيئ من أموالها في أماكن مشبوهة أو سياسية، وأنها
لا تتجاوز في أنشطتها دوائر بناء المساجد وتوفير العلاج ورعاية الفقراء والأيتام،
واتهامها الإعلامي بدعم الأحزاب الإسلامية لا يصل درجة يقبلها القضاء، بل إن
(جمعية الرسالة) بمصر تقدَّر ميزانيتها السنوية بمليار جنية مصري لم تجد (وزارة
التأمينات والشؤون الاجتماعية) عليها مخالفة واحدة، ووصلت تقاديرها الأدائية درجة
الامتياز لدى الوزارة، وهذه الصفحة الجديدة والإضاءات تستدعي مراجعات أخرى في
زوايا الأرض ولعلها تفتح ملفات المنظمات الإسلامية الأهلية في رؤية جديدة ومعطيات
مختلفة تردُّ بعض الحق إلى نصابه.
لقد شن الغرب – وأمريكا
في المقدمة – حرباً شرسة على المنظمات الإسلامية، واشتد أوارها بعد 11 سبتمبر
2001م، وحُرمَت الملايين من التعليم والعلاج والغذاء بشبهات واهية، وأدلة مفبركة،
أو بسبب جزئية يسيرة تم تعميمها حتى بلغت عنان السماء حجماً وعقوبة وصورة وصوتاً.
وتعرَّض الآلاف من
المسلمين المخلصين للسجن والتعذيب، وأُلصقت بهم تهم الأصولية والإرهاب والتزمُّت؛
لأنهم فقط فتحوا مدرسة في بنغلادش، أو حفروا بئراً في مالي، أو عالجوا مريضاً في
البرازيل، ومع هذا سُدَّت أبواب العمل والتبرعات والتحويلات أمامهم، وأغلقت
مكاتبهم، وجُمِّدَت أموال الصدقات والزكاة المتجهة إليهم، ومُسَّ الأمرُ صاحب
السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز - رحمه الله - ورابطة العالم الإسلامي
وغيرهما.
وبالمقابل تعج الولايات المتحدة الأمريكية
بالمنظمات الصهيونية العنصرية الأصولية الإرهابية؛ حيث يقتطفون من ضرائب الشعب
الأمريكي ما يريدون، ويحولونها إلى المحتل الصهيوني ليبني بها المستوطنات، ويغذي
بها الإرهاب، ويشتري بها السلاح، ويهدم بها المساجد والكنائس أمام لوائح (قانون
الاضطهاد الديني الأمريكي) و (حقوق الإنسان) وتوَّج الغرب مظالمه بمنح (شارون)
وسام (بطل السلام) رغم إحراقه أطفال الفلسطينيين وهم أحياء، وتلذُّذه بالمنظر
والرائحة.