• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فلسطينيو العراق بين المطرقة والسندان

فلسطينيو العراق بين المطرقة والسندان


يكاد يكون الشعب الفلسطيني ضحية أكبر عملية تهجير قسري عرفها التاريخ؛ حيث استَخدمت العصابات الصهيونية شتى وسائل القمع والتنكيل والمجازر والتطهير العرقي، رافقتها سياسة الحرب النفسية من خلال نشر أخبار القتل الجماعي، وعمليات الهدم والاغتصاب وغيرها؛ لنشر الذعر والهلع في نفوس الأهالي؛ لترك قراهم والحفاظ على أرواحهم.

بذلك تم اقتلاع أكثر من 800 ألف فلسطيني عام 1948م من مدنهم وقراهم ومساكنهم من أصل 925 ألف في تلك الأماكن، والاستيلاء على 77% من أرض الوطن، وتدمير 478 قرية من أصل 585، في أكبر وأضخم عملية سرقة واغتصاب للأرض في العالم، ليحتل اللاجئ الفلسطيني الصدارة بين دول العالم في عدد اللاجئين، بعد استيلاء شعب بلا أرض على أرض يملكها شعب، من هنا بدأت النكبة والمحنة والانعطافة الخطيرة، بشتى الجوانب الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية والتعليمية والصحية والاقتصادية والتراثية وغيرها.

إن حرمان اللاجئ الفلسطيني من أبسط حقوقه، من العيش بأمن وأمان واستقرار وكرامة على أرضه، مأساة كبيرة وفاجعة عظيمة، ولها تداعياتها على جميع الأصعدة؛ فمرارة التهجير ولوعة الشتات وحرقة الغربة ليس لها حدود، والمشكلة تتعقد والمأساة تتضاعف، إذا ضاقت السبل وانقطعت الحيل وقلَّت الخيارات وانعدمت البدائل، والأدهى من ذلك والأمرُّ تكرارُ عملية التهجير واستمرار التشتيت وتوالي الغربة حتى لو كانت نسبية إلى المكان السابق

نبذة تاريخية عن فلسطينيي العراق:

تعود أصول وجذور اللاجئين الفلسطينيين في العراق إلى عام 1948م عندما احتل الكيان اليهودي الغاصب أرضنا فلسطين، بعد أن سُلِّمت إليهم على طبق من ذهب من قِبَل المحتل البريطاني آنذاك؛ إذ بعد سقوط مدينة حيفا بيد العصابات الصهيونية في 23 أبريل/ نيسان 1948م اشتد قصف القرى التابعة لقضاء حيفا، التي صمدت بدورها صموداً أسطورياً، ومع استمرار القصف البري والبحري والجوي اضطر أهالي قريتَي جبع وعين غزال تحت هذا الدمار والخراب إلى مغادرتها إلى قرية إجزم وتجمعوا في بيارة نايف الماضي تحت حماية الأمم المتحدة.

استمر القصف بشكل كثيف، حتى بعد إعلان اليهود دولتهم، وبعد شهرين ونصف وبعد الهدنة الثانية سقطت القرى الثلاث في 22 - 24/7/1948م بعد استخدام الصهاينة طائرات بريطانية وتم تدمير القرى بأكملها، وكانت قرية إجزم من آخر القرى سقوطاً بتاريخ 27/7/1948م، عندها أعلنت الإذاعة اليهودية باللغة العبرية في ذلك اليوم نبأ سقوط إجزم وقالوا: (لقد أسقطنا الحمامة البيضاء وكسرنا جناحيها). والحمامة البيضاء هي قرية إجزم وجناحاها جبع وعين غزال، وذلك بحسب الرواية اليهودية التي تسمي هذه القرى (القرى الجريئة والعنيدة).

ولم تدخل القوات اليهودية إلى قرية إجزم إلا بعد التأكد من أن القرية خالية من المسلحين؛ حيث كان آخر المقاتلين المنسحبين من القرية هما (يوسف مفلح الفياس ومحمد الإنكليزي) بحسب ما ذكر الكاتب والباحث لبيب قدسية إذ شاهدهما عندما وصلا إلى البيارة وهما يمتطيان جوادين أصيلين ويحملان أسلحتهما وذخيرتهما[1].

قريباً من 92% من اللاجئين يعودون إلى قرى قضاء حيفا وجزء يسير منهم إلى مدينة حيفا، ومن تلك القرى (إجزم، وجبع، وعين غزال، والصرفند، وعتليت، وأم الزينات، وكفر لام، وطيرة حيفا، والطنطورة، وبلد الشيخ، وعين حوض، والمزار، ودالية الروحاء، وعارة، وأم الفحم، والفرديس)، لكن بنسبة 83% منهم من قرى مثلث الكرمل (إجزم، جبع، عين غزال)، وما تبقى من مدن وأقضية أخرى مثل (يافا، وعكا، والخليل، ونابلس، والقدس، وجنين، وطولكرم، والرملة، والناصرة).

تقع قرية إجزم على بعد 19 كم جنوب حيفا، ومساحتها 46.9 كم2، وعدد سكانها آنذاك 4000 نسمة، وقرية جبع على بعد 18 كم جنوب حيفا، ومساحتها 7.01 كم2، وسكانها 2000 نسمة، وتقع عين غزال على بعد 21 كم جنوب حيفا، ومساحتها 18.1 كم2 وعدد سكانها 3000 نسمة[2].

بعد تحرير القوات العراقية مدينة جنين من أيدي العصابات الصهيونية، قام الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق وشقيقته الملكة عالية بتفقد قطعات الجيش وسط فلسطين في مثلث (نابلس طولكرم جنين)، عندها شاهدوا أهالي قرى مثلث الكرمل وما حولها من نساء وأطفال وكبار السن، وعندما سمعوا عن صمودهم وشجاعتهم ومدى تنسيقهم مع الجيش العراقي، أبدت الملكة عالية استعداداً لاستضافتهم في العراق.

اختلفت المصادر في تقدير عدد الفلسطينيين الذين قدموا إلى العراق عام 1948م، ولكن يمكن القول: إن عددهم تراوح في سنة 1948م بين أربعة آلاف إلى خمسة آلاف[3].

تولَّت مهمة إسكان الفلسطينيين عند قدومهم إلى العراق وزارة الدفاع العراقية، وقد أُسكِن الفلسطينيون في الأشهر الأولى لقدومهم في المدارس، مثل: دار المعلمين الريفية، ودار المعلمين العالية، وكلية الهندسة، وبعض الدور الأخرى، وبانقضاء العطلة الصيفية نُقِل قسم كبير منهم إلى البصرة حيث أعيد إسكانهم في معسكر الشعيبة كما نُقِل قسم آخر منهم إلى الموصل، وأعيد إسكان الباقين في بنايات كانت متَّخَذة نوادٍ، منها: نادي الرافدين ونادي العلوية ونادي الزوراء والرشيد وغيرها[4].

فلسطينيو العراق قبل الاحتلال الأمريكي عام 2003م:

نتيجة للخطأ الفادح والكارثة التاريخية في عدم تسجيل الفلسطينيين ضمن سجلات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، أصبح وضع الفلسطيني مرتبط بسياسة الحكومة العراقية التي تحكم البلاد، وهو ما جعل وضعه القانوني والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي وغيرها مضطرباً وغير مستقر؛ نتيجة تغيُّر وتقلُّب القوانين والأحوال المتعلقة بهم.

وعليه فإن الوضع ينعكس سلباً وإيجاباً بحسب الأحوال العامة في البلاد؛ حتى أصبحوا جزءاً من المجتمع العراقي، لكن الأمر المتميز - مقارنة مع ما حصل بعد عام 2003م - هو قضية الأمن وعدم الاستهداف المباشر بشكل سافر وواضح ومكشوف على الهوية أو خلفية طائفية أو عنصرية.

قد تكون هنالك بعض المضايقات الفردية وسماع كلام ينم عن حقد سواء من قِبَل بعض الأفراد أو الموظفين؛ لكنه كان عشوائياً ولم يصل إلى حد القتل والتعذيب والانتقام بوسائل وحشية، والتحريض الإعلامي والتهديد والوعيد الشديد؛ الذي نجم عنه تهجير غالبية الفلسطينيين خارج العراق!

الأعداد:

حسب تقرير الأمم المتحدة في حزيران عام 1949م تم تقدير العدد بـ (5000 فلسطيني)، وفي عام 1970م بـ (14000)، وفي عام 1979م بـ (19000) حسب دراسة الباحثة هدى حمودة، وحسب إحصائية منظمة التحرير الفلسطينية يقال بأن 34000 فلسطيني كانوا في العراق عام 2002م ، لكن في عام 2003م كان العدد - تقريباً - 25000 فلسطيني بحسب إحصائية مفوضية شؤون اللاجئين.

وفي آخر إحصائية بشهر مارس 2009م من قِبَل وزارة الداخلية العراقية وصل العدد إلى (13476) بما فيهم مخيم الوليد الصحراوي عند الحدود العراقية الغربية مع سورية؛ حيث بلغ عددهم فيه 1500 لاجئ. هذه الإحصائية اعتمدت العوائل المسجلة ضمن اللجنة الدائمة لشؤون اللاجئين، ومنهم من هو فعلاً خارج العراق، والتقديرات الآن تقول بأن قرابة 8000 آلاف فقط الموجودين حالياً في العراق غالبيتهم في مجمع البلديات شرق بغداد.

أماكن الوجود في العراق:

بداية الأمر تم إسكانهم في معسكرات ومدارس ومعاهد ونوادٍ ودور أيتام ودور مجمدة ومساكن ومعابد اليهود، ثم بعد سنوات تم نقلهم لعدة أماكن وتجمعات على شكل ملاجئ ومبانٍ قديمة في مناطق: الحرية والطوبجي (حي السلام) والزعفرانية والكفاح والفضل والشورجة وغيرها من أحياء بغداد.

وقسم آخر، منهم في الحويجة في محافظة كركوك شمال العراق، ومعسكر الشعيبة في البصرة وكذلك باب سنجار في الموصل، وكان نظام السكن جماعي ومشترك وليس فيه أدنى مقومات السكن.

كان من المفترض تحمُّل تبعات إسكان الجميع؛ إلا أن مشكلة السكن لم تحل إلى هذه اللحظة، وكان الفلسطينيون يستفيدون من سكن وزارة العمل بنسبة 50 % فقط والبقية يتحملون ذلك على نفقتهم الخاصة!

ثم بعد ذلك توسعت أماكن الإقامة؛ ففي مطلع السبعينيات من القرن الماضي تم إنشاء مجمع البلديات، وهو عبارة عن 16 بناية في كل منها 48 شقة، لكن منذ ذلك الحين لم يجرِ أي توسع إضافي وبقيت مشكلة السكن قائمة، وهنالك أماكن أخرى، مثل: بغداد الجديدة وحي الصحة في الدورة وحي الأمين والبتاوين وشارع النضال والوزيرية وغيرها من العاصمة بغداد.

ومما يدل على رداءة وتعاسة مساكن الفلسطينيين، زيارة وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الحبوبي، في عام 1967م لملجأ الزعفرانية، ورفع تقريراً لمجلس الوزراء مما جاء فيه: (... فهالني ما رأيت! ولا أبالغ لو شبهتها بقبور يسكنها أحياء).

الآن ونحن مع بداية عام 2011م يعدُّ مجمع البلديات الثقل الأكبر لوجود الفلسطينيين، بعد تهجير واضطهاد كثير من العائلات في الأماكن ذات الغالبية الشيعية: كالبصرة في الجنوب، ومناطق الحرية والدورة والأمين وبغداد الجديدة والطوبجي والغزالية والمعالف والسيدية وغيرها، وهنالك عائلات في محافظة الموصل.

الوضع القانوني:

لم تكن هنالك قرارات واضحة تنظم هذا الملف وكيفية التعامل في كثير من الجوانب مع الفلسطيني في العراق مدة طويلة لغاية صدور قرار عام 1964م، ثم بدأت تصدر القرارات تباعاً ومنها معاملة الفلسطيني معاملة العراقي بالواجبات والحقوق باستثناء الجنسية والترشيح، وكان آخرها قرار رقم 202 لسنة 2001م ، ومنحهم الإقامة الدائمة.

وكان لقرار رقم 23 عام 1994م الأثر الكبير في تكريس معاناة مضاعفة في كثير من الجوانب؛ إذ يقضي بعدم تمكُّن الفلسطيني من العمل أو السكن أو الإيجار أو حتى امتلاك خط هاتف، وعلى الرغم من التصريحات بمعاملة الفلسطيني معاملة العراقي في السنتين الماضيتين؛ إلا أن اضطراباً واضحاً وتضييقاً كبيراً وصعوبات يجدها الفلسطيني في العراق!

الوضع الاقتصادي:

انعكس الاضطراب في الوضع القانوني على اللاجئين الفلسطينيين في العراق في جميع مجريات الحياة، ومنها الوضع الاقتصادي، فنسبة قليلة منهم كان لديهم وضع معاشي جيد ووظائف ومهن. أما البقية والغالبية فكان وضعهم الاقتصادي ضعيفاً.

الوضع الاجتماعي:

نتيجة لنظام السكن الجماعي الذي اتخذته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، فقد ظهرت كثير من الآثار الاجتماعية السلبية بطبيعة الحال، لكن بقي الفلسطيني في العراق محافظاً على مبادئه وتراثه وعاداته، واتصفوا بالحشمة والمحافظة على دينهم وولائهم لأرضهم المغتصبة وقضيتهم، وكانوا أشبه بكتلة واحدة وعائلة متماسكة؛ لا سيما في أماكن تجمعاتهم.

فلسطينيو العراق بعد عام 2003م:

احتلال العراق كان فاجعة كبيرة للفلسطينيين في العراق، وكان حدثاً مفاجئاً ومباغتاً، حتى بدأت الصدمة نوعاً ما تخف بعد أن أصبح أمراً واقعاً؛ إلا أن حياة جديدة بدأت ومعاناة ليست بالحسبان حلَّت على عموم الفلسطينيين.

وحتى يتم تصوُّر ما حصل بدقة، وملابسات الأحداث بشكل مختصر، يمكن تقسيم المراحل التي مر بها فلسطينيو العراق بحسب السنوات إلى:

(عام 2003م) مرحلة ترقب: حيث بدأت مرحلة ترقُّب جديدة لعموم الفلسطينيين، وعلى جميع الأصعدة (الأمنية والسياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، بعد أن حصلت فوضى عارمة في البلاد، ولا يعلم ما هو مخبَّأ لهم في المستقبل القريب .

(عام 2004م) مرحلة حيطة وحذر: في هذه المرحلة بدأت تتضح معالم الحكومة الجديدة، وبروز بعض الفئات والقوميات والطوائف والتكتلات على حساب الأخرى، والفلسطيني ليس بمنأى عن تلك التشكيلات بحكم تعايشه، فكان مؤشراً لبداية معاناة وحقبة جديدة تلوح مخاطرها في الأفق القريب.

(عام 2005م) بداية الاستهداف: ظهرت موجة من التحريض الإعلامي المكثَّف، ضد الوجود العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، تكللت باعتقال أربعة فلسطينيين أبرياء، وإظهارهم على قناة العراقية، وإجبارهم بالقوة على الإدلاء باعترافات انعكست بشكل سلبي وكبير على عموم الفلسطينيين في العراق؛ حيث بدأ التضييق والاستهداف والملاحقة وبدأت مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها.

(عام 2006م) عام النكبة: من أشد الأعوام ضراوة، وأكثرها قساوة، وأصعبها على النفوس؛ حيث تضاعفت الانتهاكات وكثرت الاعتقالات وازدادت حالات الخطف والتعذيب، والدوافع طائفية محضة؛ لا سيما بعد أحداث المساجد في 22/2/2006م ، واشتد الخناق على عموم الفلسطينيين في شتى المجالات، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وانعدمت أدنى وسائل المعيشة الإنسانية.

(عام 2007م) عام الهجرة والشتات: نتيجة طبيعية لما تعرضت له هذه الأقلية من ظلم واضطهاد وممارسات وتضييقات ومضاعفة للمعاناة، وعدم وجود بصيص أمل في حل المشكلة، التجأت الغالبية لخيار الانتقال والهجرة والشتات بحثاً عن حلول فردية، مع أن نسبةً منهم أجبروا على المغادرة وطردوا من مساكنهم، وبدأت دائرة وخريطة وأماكن وجودهم تتوسع وتزداد وتكثر شيئاً فشيئاً.

(عام 2008م وما بعده) جَنْي الرماد: حصل تحسُّن نسبي في الملف الأمني في بغداد؛ إلا أن الآثار المترتبة والمتراكمة بسبب ما مضى من جروح ومحن، بلغت ذروتها؛ فهنالك أشبه بالحصار وخطورة في التنقل ودخول المؤسسات العراقية، وارتفاع نسبة البطالة، ناهيك عن أوضح مظهر وأبرز مَعلَم للفلسطينيين، هو التشرذم والتشتت وتفسُّخ النسيج العائلي والروابط الأسرية؛ إذ لا تكاد تجد عائلة فلسطينية تقيم في مكان واحد أو حتى في مكانين؛ لذلك لا بد من معرفة أمر هام للغاية، وهو أن المشكلة الآن غير مقتصرة على الملف الأمني، فبسبب هاجس الخوف وعدم الاطمئنان واضطراب الوضع القانوني، وعدم توفر أدنى مقومات الحياة الإنسانية (صعوبة في العمل والتنقل وإظهار الهوية الفلسطينية...) كل ذلك يعقِّد المسألة ويزيد من المأساة على المدى القريب والبعيد.

انتهاكات فاقت التصورات:

تعرضت (الأقلية الفلسطينية) الموجودة في العراق لمجازر وحشية واضطهاد غير مسبوق وتنكيل متواصل، وحملات عدائية وظلم وترهيب لم يسبق لها مثيل، اشتدت هذه الأعمال الإجرامية بعد عام 2005م؛ حيث كان للإعلام الطائفي متمثلاً بالسياسيين والرموز الصفوية التي دخلت مع المحتل وبعض الصحف والقنوات الفضائية، كان لهم الدور البارز في تأجيج الرأي العام ضد العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وهذا انعكس بشكل كبير على عمليات الاستئصال والتهجير والملاحقة للعرب وخصوصاً الفلسطينيين.

كان للميليشيات الطائفية الصفوية المدعومة من إيران، الدور الكبير في تلك الاستهدافات؛ لا سيما ما تُعرَف بعصابات جيش المهدي، والتهمة جاهزة (وهابي، بعثي، صدامي، إرهابي، ناصبي... وهكذا)، وتم قصف تجمعات الفلسطينيين والتركيز على أكثرها كثافة (مجمع البلديات) واختطاف بعض العاملين والموظفين وأصحاب رؤوس الأموال والكفاءات وقتلهم، والبعض تم تعذيبهم وتصفيتهم وأخذ فدية من ذويهم، ثم تسليم جثثهم لمشرحة الطب العدلي، وهنالك جثث لم يتم استلامها إلى الآن، في الوقت الذي يسلِّم فيه الصهاينة جثث ورفات فلسطينيين قاموا بعمليات بطولية وقتل يهود قبل أكثر من ثلاثة عقود! ونحن ضيوف على العراق ويتم التنكيل بنا بلا ذنب ثم تختطف الجثث! وبعد ذلك يدَّعون نصرتهم للقضية الفلسطينية! فأي دين وأي عقيدة وأي مذهب يبيح لأولئك الطائفيين هذه الشناعات، لكن إذا عُرف السبب بطل العجب.

كما رافقت هذه الممارسات اعتقالات عشوائية من قِبَل الأجهزة الأمنية العراقية، وتضييقات في معظم المؤسسات والوزارات، بل تهديدات واغتيالات في بعض المناطق، وبدأت الأمور تتدهور وأصبح الفلسطيني في حال لا يحسد عليها، ليكون تفكير جديٌّ بإيجاد بدائل والخلاص من هذه الانتهاكات المتكررة والمستمرة، التي نتج عنها أكثر من 300 شهيد بإذن الله، وأكثر من 500 جريح، وعدد من المفقودين، وقرابة عشرين جثة لم تسلَّم لذويها، وتهجير أكثر من ثلثي اللاجئين؛ أي يقارب (18 ألفاً) ولم يتبقَّ الآن إلا قرابة 8 آلاف فلسطيني يعيشون ظروفاً سيئة للغاية، في ظل تجدُّد الاعتقالات العشوائية في شهر أغسطس/ آب 2011م، وهنالك أنباء عن تعذيب شديد وتنكيل بالمعتقلين الفلسطينيين، حتى أدلَى بعضهم باعترافات وجرائم لم يقترفها، ثم يتم تصويرهم على قناة الفتنة الطائفية (قناة العراقية الفضائية)، ثم يتم تأجيج الرأي العام والشارع العراقي ضد الفلسطينيين في إشارة واضحة لتنفيذ مخططات وأجندة لتقليص عدد الفلسطينيين في العراق خدمة للمصالح الصهيونية في المنطقة.

مخيمات البؤس واللجوء والصمت العربي!

بُعيد احتلال العراق عام 2003م تهجر قرابة 400 عائلة فلسطينية من عدة مناطق في بغداد والبصرة بدوافع طائفية، وأُسِّس أول مخيم للاجئين الفلسطينيين في العراق، بساحة لكرة القدم في نادي حيفا الرياضي بمجمع البلديات، لتبدأ محنة جديدة لم تكن بالحسبان، استمر هذا المخيم حتى منتصف عام 2005م، ومع بداية الاحتلال اضطرت كثير من العائلات الفلسطينية نظراً لخطورة الوضع إلى مغادرة العراق باتجاه الحدود الأردنية، وبقيت عائلات بين الحدين في مخيم الكرامة، وأخرى دخلت الحدود الأردنية لتمكث عدة سنوات في مخيم رويشد الصحراوي، ثم يتم تهجير تلك العائلات إلى كندا وأميركا ونيوزيلندا والبرازيل وغيرها من دول الشتات الجديد في حين الصحراء العربية تشتكي التصحر، والمساحات شاسعة لم تتسع لمئات الفلسطينيين الفارين من بطش الميليشيات في العراق!

مع استمرار التضييق والتنكيل بالفلسطينيين، اضطرت عائلات نهاية عام 2005م إلى التوجه للصحراء في ظل صمت دولي وإسلامي وعربي مخزٍ أمام ما يحصل، لكن هذه المرة مُنِعَت العائلات من دخول الحدود الأردنية، لتنتقل باتجاه المنفذ السوري، ليتأسس مخيم التنف بين الحدين (السوري - العراقي)، استمر قرابة خمس سنوات، وتم تهجير أكثر من 2000 فلسطيني إلى كثير من الدول الأجنبية منها: (السويد، الدنمارك، هولندا، بريطانيا، أميركا، النرويج، تشيلي، كندا، فنلندا، إيطاليا، وغيرها من الدول).

وخلال العام 2006م تأسس أيضاً مخيم طريبيل قرابة شهرين لعدة عوائل، ثم بعد ذلك أُنشئ مخيم الوليد الذي لا يزال شاخصاً إلى هذه اللحظات داخل الحدود العراقية في المنطقة الغربية التابعة لمنطقة الرطبة، وتم تهجير أكثر من 2000 فلسطيني لكثير من الدول السابقة بالإضافة إلى (آيسلندا وفرنسا وغيرها من الدول)، والآن بقي فيه قرابة 200 فلسطيني لهم قرابة خمس سنوات في الصحراء، قضى منهم قرابة 28 فلسطينياً نحبه فيه، ومن تبقَّى يتم تهديدهم الآن بإرجاعهم إلى العراق، مع أنهم فروا منه لعدم شعورهم بالأمان.

وهناك عائلات أخرى تمكنت من دخول سورية بطرق مختلفة، وقامت بالتسجيل ضمن مفوضية شؤون اللاجئين، وتم تأسيس مخيم الهول منتصف عام 2006م في محافظة الحسكة عند المثلث السوري التركي العراقي، وتم تهجير أكثر من 2000 فلسطيني لعدة دول أجنبية منها (أستراليا)، ولا زال هناك أعداد ينتظرون إعادة تهجيرهم وإنهاء معاناتهم، في الوقت الذي لم تستقبل أي دولة عربية أياً من هؤلاء المهجَّرين على غرار استقبال الدول الأجنبية، وهو ما يشير إلى تعرُّض هؤلاء لخطورة الاندماج في تلك المجتمعات وضعف مطلب حق العودة لدى الأجيال القادمة، وبذلك تكون تلك الميليشيات المدعومة من إيران قدمت خدمة ذهبية مجانية للكيان اليهودي، بإبعاد فئة مهمة في دفة الصراع، ستظهر عواقبها بعد عدة عقود.

خريطة فلسطينيي العراق الحالية:

نتيجة لشظف العيش والضنك وتوالي الانتهاكات تشرذمت وتجزأت وانشطرت العائلات الفلسطينية التي كانت تعيش في العراق؛ في أكثر من ثلاثين دولة معظمها أجنبية، ولو أضفنا المساحات الشاسعة لبعض الدول التي تتكون من ولايات ومقاطعات ومدن كبيرة، لنتج عن ذلك فعلياً تشتُّت وتبعثُر الفلسطينيين لأكثر من ستين أو سبعين دولة، إذا علمنا أن أكثر من 3000 فلسطيني توزعوا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقرابة ألف في أستراليا، وألف أخرى في كندا، لكن حصة الأسد كانت لمملكة السويد بمدنها المتباعدة؛ حيث استوعبت أكثر من 4000 فلسطيني، ويخبرني أحد أقربائي هناك في حينها: بأن له قرابة عشر شهور وعدد من قرابته في مدينة أخرى لم يتسنَّ له زيارتهم! وهذا الأمر يكاد يكون طبيعياً في تلك المجتمعات الخالية من الحياة الاجتماعية.

في النرويج توزع أكثر من 1000 فلسطيني، وكذلك احتضنت فنلندا وهولندا والدنمارك أعداداً أخرى، لتستوعب الدول الإسكندنافية جميعاً تلك الأقلية المنكوبة، ولم تكن بقية الدول الأوروبية بمعزل؛ حيث استقبلت فرنسا عدداً من العوائل، وبريطانيا قرابة 250 فلسطينياً، ومن قَبْل تشيلي والبرازيل عدد مقارب.

أما جزيرة قبرص فقد وصلها أكثر من 3000 فلسطيني بمغامرات عبر البحر الأبيض المتوسط، وقصص مذهلة، لكن تبددت الأحلام، والآن هنالك هجرة عكسية من قبرص إلى دول أخرى نتيجة للمصير المجهول فيها لتلك العوائل التي بحثت عن بصيص أمل، في العيش الآمن والاستقرار النسبي. وعائلات تنتظر إعادة تهجيرها في تركيا.

ولو ذهبت يميناً أو شمالاً وجُبْت قارات العالم، لعلمت أن الفلسطيني بذل جهوداً مضنية، في سبيل الوصول إلى برِّ الأمان بعد إغلاق الحدود العربية أمامه، فتخيل أن عدداً من العوائل استقر بها الحال في شبه القارة الهندية حتى يعاد تهجيرهم لدول أخرى، ولا زالت أعداد منهم هناك إلى لحظة كتابة هذه السطور، وأعداد أخرى في ماليزيا وإندونيسيا وتايلند، وعدد قليل ذهب للبحث عن لقمة العيش في الصين وروسيا وبلغاريا واليونان، وحتى يمر الفلسطيني بمعظم الدول كان لرومانيا وسلوفاكيا نصيب كذلك كمحطات ترانزيت قبل الانتقال لدول المهجر الجديد!

وحتى يشهد التاريخ بمحتلف تسطيراته على تلك المأساة استقبلت بلجيكا وإسبانيا أعداداً أيضاً، واتسعت الرقعة وترامت أطراف الخريطة، حتى أصبحت بلا حدود، وبناءً على ذلك يعجز القلم عن تخطيطها وتلوينها بل حتى الإشارة إليها.

إن أخطر ما في هذا التشرذم، هو ضعف الأواصر الأُسَرية، وتكسُّر الروابط العائلية والاجتماعية، واندثار كثير من التقاليد والأعراف والأخلاق والعادات، في ظل هذا الشتات المميت المقيت، وتلك هي النكبة التي فاقت نكبة الآباء والأجداد عند اقتلاعهم من أرضهم الحبيبة فلسطين!

 


[1] ينظر منتدى إجزم، سقوط قرية إجزم قضاء حيفا بأيدي العصابات الصهيونية، لبيب قدسية.

[2] ينظر كتاب «بلادنا فلسطين» (7/2)، مصطفى الدباغ، قصة مدينة حيفا ، من أثر النكبة - ط 1951- محمد نمر الخطيب، موقع « فلسطين في الذاكرة».

[3] الفلسطينيون في العراق – هدى حمودة.

[4] «الفلسطينيون في العراق مدخل ديموغرافي اجتماعي اقتصادي»، هدى حمودة، مجلة دفاتر عربية.

 

أعلى