ســوريــة... بشار والجماهير
تشهد بعض المدن السورية تفشيَ ظاهرة المسيرات الحاشدة
التي تصحبها الأعلام الكبيرة، وتحفُّها الصور الضخمة، وتُردَّد فيها شعارات تبشر
بحكم «الأسد إلى الأبد»!
وقد لجأ النظام إلى تسيير هذه المظاهرات مع وصول نبيل
العربي، ولدى تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية، ومن ثَمَّ إعلان فرض عقوبات
اقتصادية على رموز الحكم، وفي غيرها من المناسبات التي تزامنت مع تكدس بشري ضخم في
ساحة الأمويين بدمشق، وساحة سعد الله الجابري بحلب، وساحتي المحافظة والشيخ ظاهر
باللاذقية، فضلاً عن ساحات أخرى في محافظتي الحسكة والسويداء التي غصت جميعها
بالطلاب الذين أغلقت مدارسهم، والموظفين الذين جهزت لهم الحافلات للمشاركة في
التعبير عن «دعم البرنامج الإصلاحي للقائد الخالد بشار
الأسد، والتأكيد على الوقوف بوجه المؤامرة العالمية ضد سورية قيادة وشعباً».
وتأتي هذه الظاهرة نوعاً من التنفيس عن حالة الاحتقان
التي انتابت أقطاب النظام الحاكم لدى ترسيخ عزلتهم الإقليمية والدولية وإحكام
الحصار الاقتصادي عليهم، وبدا ذلك الاحتقان جليّاً في مظاهر التخبط الدبلوماسي،
والعنف التي اجتاح السفارات العربية والتركية والأوروبية، فضلاً عن الهتافات
الهستيرية التي بشرت «القائد الخالد» بحكم
أزلي، وبشعب متماسك متضامن معه لخوض غمار الحروب والموت في سبيله!
ونظراً لما تمر به سورية من ملامح مرحلة انتقالية حاسمة،
فإنه يتعين الوقوف عند ظاهرة: «مسيرات التأييد» واستشراف
مآلها من خلال شواهد تاريخنا المعاصر، وكان الزعيم السياسي خالد العظم[1] قد وقف
عند هذه الظاهرة في مذكراته وقفات طويلة؛ تحدث من خلالها عن مزاج الشارع السوري،
واستنتج أن هذه المسيرات لم تكن في حقيقتها إلا نذير شؤم على الزعماء الذين
انخدعوا بها وركنوا إلى الهتافات الصاخبة.
كيف تنظم مسيرات التأييد؟
تعرَّض خالد العظم في مذكراته لتفسير ظاهرة الجماهير
التي كانت تخرج في سورية تأييداً لمختلف الزعامات، وفصَّل في عملية تنظيمها وحشد المشاركة
فيها بقوله:
«فمصيبة العرب ليست من فعل أعدائهم فحسب، بل
من فعل زعمائهم وقادتهم، ومن فعل خطأ العرب في الثقة العمياء التي يولونها إياهم،
وكأن الهتافات الصارخة التي يستقبلونهم بها نداءات استنجاد واستعطاف، والزعماء
تؤذيهم هذه الهتافات الساذجة؛ لأنها تخلق في نفوسهم كثيراً من الغرور والاعتزاز،
وتوجد لديهم اعتداداً بالنفس واعتقاداً بعبقريتهم، وهم في الواقع خالون منها،
وكلما زادت الهتافات ازداد ظن الزعماء أن الشعب إنما يهتف إظهاراً لتأييده
وموافقته على الخطة التي يسيرون عليها، ويغيب عنهم أن مظاهرات الولاء مهما كانت
صارخة جارفة؛ فهي مُختَلَقة ومُفتَعَلة في أكثر الأحيان؛ فكثيراً ما حُملَت
الجماهير على ناقلات وجيء بها إلى المدينة تحت ضغط أفراد الدرك، وكثيراً ما رأينا
شوارع المدينة تشعشع بالزينات الكهربائية المضيئة وتزدهي بأقواس النصر العديدة،
وهذا كله إنما أقامه أصحاب المحلات التجارية تحت التهديد والقسر، فتجتمع عشرات
الألوف من الخلائق أمام مقر الزعيم وتظل تناديه وتستعطفة حتى يطل عليها من شرفة
القصر، فينقلب التصفيق إلى مظهر من مظاهر الهستيريا، ويبدأ الزعيم خطابه، وتمضي
الجماهير على التصفيق غير سامعة ولا عابئة بما يقول لأنها قدمت للفرجة و «الهيصة» لا
لتلقِّي الإرشاد والتوجيه، ويستمر الزعيم على الخطابة ترديداً وإطالة، وإيراداً
لجملٍ جوفاء خالية من اللب والجوهر، مرصوفة التعابير لا ندرك منها سوى: «الوطن»، «الاستعمار»، «العملاء»، «فلسطين
الشهيدة»، «الزحف
المقدس»، «الثورة»، وغير
ذلك من الكلمات المقصود بها إثارة الحماس واستمطار التصفيق والهتاف.
صحيح أن لهذه الخطب مثل هذا المفعول، ولكن ليس لها في
الواقع أثر في استرداد فلسطين، فلو كان لها هذه النتيجة الباهرة لكنا حصلنا عليها
بعد عشرات ألوف الخطب التي ألقيت منذ عام 1947م
حتى الآن.
وأكثر ما يزهو به الزعيم ويسلب لبه هو إقدام الجماهير
على حمله على الأكتاف، وبالأكثر جر عربته أو رفع سيارته على الأعناق، والسير
بالموكب في ما الزعيم يتهادى في سيارته على أمواج الخلائق، والهتافات تشق عنان
السماوات، والأكف تلتهب من التصفيق، ويوقن الزعيم أنه وصل إلى ذروة المجد، وأن
تعلق الشعب به أصبح كتعلق العبد بالسيد».
«والجماهير عندما تتدفق كالسيل الذي يحمل ما
يصادفه، وكالنار تلتهم كل ما تقترب ألسنتها منه، هي قوة جارفة ورافعة تفعل فعل
الآلة التي تحركها اليد: تدفع وترفع، تهوي وتسقط، من غير وعي ولا تمييز،
والشعب بمجموعه ساذج ينطلي عليه الكثير من الأباطيل وتفعل فيه الدعاية فعلها، إلا
أنها إذا زادت عن الحد المعقول وانصرفت إلى الخداع المفضوح، كان لها الأثر المعكوس: فالشعب
مع طيب سريرته لا يخلو ممن يمعنون في التفكير بما يسمعون وما يقرأون وما يرون، وهو
يخدع في بعض الأوقات؛ بحيث يبدو بسكوته أو بخنوعه كأنه مصدق لما يسمع، في حين أنه
يتربص وينتظر الفرص لإبداء رأيه الصريح، أو هو يتمتمه في السر، ثم تنقلب هذه
الغمغمة إلى الانتقاد العلني، ثم إلى الانتفاض والثورة الجامحة عند سنوح الفرصة
ووجود القادة الموجهين الذين يأخذون بزمام الأمر في يدهم ويسيرون بالجموع الجارفة».
نهاية الاحتفاء بالسياسيين في دمشق
«ولهذا يحسن بالذين تستقبلهم دمشق بحفاوة
وروعة أن لا تأخذهم عاطفة الغرور، فيظنون أنفسهم حائزين على مرتبة خاصة في نظر
الدمشقيين، وليعلم الجميع أن أهل دمشق يستقبلون، ويستقبلون بحفاوة كل من وفد
إليها، عدواً كان أو صديقاً، فَلْيمتِّع القادم - أيّاً
كان مقامه - نظره بمشاهد نهر بردى الخلابة، لا أقل ولا
أكثر، ليسعد بحفاوة الأهلين وليهنأ بها؛ ولكن حذار من الغرور ومن الاعتقاد أنه
وحده صاحب هذه الحفاوة والعناية، فدمشق تقدم لزوارها الاستقبالات كما تقدم لهم
الماء القراح والطعام الشهي والهواء النقي، فهذه أمور عادية، وهي من عادات
الاحتفاء بالضيف وإكرامه انتقلتْ بالتوارث من جيل إلى جيل.
ومن جهة أخرى؛ لا بد من التنويه بأن أكثر الحكام الجدد
أرادوا، زيادة في إظهار ترحيب البلاد بالقادم، أن يحملوا آلاف الفلاحين وغيرهم من
الأهلين على ظهور السيارات حاملين أنواع «الشراطيط» هازجين
مادحين، فيقف هؤلاء القوم في الصف على أرصفة الشوارع التي يمر بها الموكب، وذلك
تحت أشعة الشمس المحرقة صيفاً، ومزاريب الأمطار شتاء، وهم يرددون العراضات
والهتافات التي يتعلمونها من منظمي الاحتفاء».
«وقد شاهدتُ الجماهير الغفيرة تستقبل الأمير
فيصل وتحمله فوق الرؤوس، وسمعت أنها حملت عربة الجنرال غورو، ثم حملت الشهبندر من
بعده، وبُحَّت أصواتها بالهتاف لفوزي الغزي، وهاشم الأتاسي، وإبراهيم هنانو، وصبحي
بركات، والداماد أحمد نامي، والشيخ تاج الدين الحسني، وجميل مردم، وسعد الله
الجابري، وشكري القوتلي، وحسني الزعيم، وأديب الشيشكلي، وأكرم الحوراني، وخالد
بكداش، والرئيس عبد الناصر، ولم تبخل علي الجماهير بهتافاتها، خاصة في اللاذقية
وحماة ودمشق، فهل ظهر تعلُّق هذه الجماهير واستمر؟
فالملك فيصل أخرجه الفرنسيون من دمشق فلم يرتفع صوت
لمصلحته، واغتيل فوزي الغزي والدكتور الشهبندر، ومات الحسيني غير مأسوف عليه، وثار
ضباط الجيش وقتلوا حسني الزعيم، ومات الجابري وهنانو وبركات ونُسِي ذكرهم، وهاجر
جميل مردم إلى القاهرة وطمس اسمه، وهرب الشيشكلي إلى أوروبا وغضبت الناس عليه، وظل
الأتاسي يعاني مرارة ارتحال معاصريه والألم الناشئ عن سجن ابنه عدنان. أما
أكرم الحوراني وخالد بكداش وأنا فقد أُبعِدنا عن ساحة العمل السياسي فلم يرتفع صوت
باستنكار ذلك، ولم ينته أجل واحد من قادة سورية وهو في أوج عزه، ولست أدري إذا كان
ذلك من قبيل المصادفة المجردة أم من سوء الطالع».
نصيحة أخيرة:
بعد استعراض مطول لتقلب مزاج الجماهير السورية في
تعاملها مع الزعماء؛ كتب خالد العظم في أيامه الأخيرة بمنفاه في بيروت قائلاً:
«بُلهاءُ هم الذين تخدعهم مظاهر الجماهير،
ومغفلون هم إذا اعتمدوا على استمرار ولائها، فهي كالريح تعصف مرة من الشرق ومرة من
الغرب».
[1] خالد العظم (1903 - 1965):
أحد أبرز السياسيين السوريين في الفترة الممتدة
ما بين الثلاثينيات والستينيات من القرن العشرين، ترأس الحكومة السورية خمس مرات: أولاها عام 1940م وآخرها عام 1962م، وأسندت إليه حقائب
وزارية متعددة في حكومات
أخرى، كما رشح نفسه لرئاسة الجمهورية مرتين منافساً في إحداها شكري القوتلي وفي الأخرى ناظم القدسي، ثم لجأ إلى بيروت بعد انقلاب البعث عام
1963م، وتوفي بها في شهر
شباط 1965م، وقد دون خالد العظم مذكراته التي نشرتها الدار المتحدة بعد وفاته في ثلاثة أجزاء.