• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
النفوذ التركي وشرارة الحرب الأرثوذكسية في البلقان

ركزت السياسة التركية التي هندسها الدبلوماسي التركي (أحمد داود أوغلو) لخدمة العمق التركي في منطقة البلقان على عدة أمور، أهمها استحضار الروابط التاريخية والدينية، والتعليم، والإعلام، والتعاون العسكري والاقتصادي


دخلت الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثاني، واستقر شعور لدى المتابعين لها بأن تبعاتها الاقتصادية على العالم كبيرة لكونها فاصلة في صراع القوى العالمية، لكن ما لا يدركه كثيرون أنها بدأت تعيد ذكرى الصراع الذي شهدته منطقة غرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي لا سيما في البوسنة والهرسك، وبين صربيا وكوسوفو. فقد أثار الهجوم الروسي مخاوف تجدُّد دعم موسكو لهجوم على المسلمين هناك من قبل صربيا والعرقية الصربية تحديداً في تلك المنطقة لصرف النظر عن هجومها المتواصل على أوكرانيا، وقد يحفز ذلك إطالة أمد الحرب وحالة الاستنزاف التي تعيشها موسكو أو حتى القوى الغربية.

ما يثير الشك بشأن ذلك هو الأيديولوجيا الأرثوذكسية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يمتلك مشروعاً سياسياً لا يختلف كثيراً عن مشروع ميلوسوفيتش (صربيا الكبرى)، الذي سعى إلى ضم أكثر من نصف البوسنة خلال هجومه الشهير في منتصف تسعينيات القرن الماضي. ما سلف يدعمه خطاب صداه واسع من قبل القوميين الصرب في البوسنة ويروِّج إلى انتماء البوسنة تاريخياً إلى صربيا، ويرى أن البوشناق فيها من جذور نصرانية صربية، أرغمتهم الدولة العثمانية على اعتناق الإسلام، لذلك تخرج مطالبات صربية باستمرار تدعو لوصاية صربية على البوسنة.

خلال المواجهة الحالية في أوكرانيا التزمت البوسنة الحياد على عكس صربيا وبيلاروسيا المرتبطتان ارتباطاً عسكرياً وسياسياً بروسيا، وقد يكون الدافع وراء ذلك هو الانقسام العرقي الذي تعيشه البوسنة والخلاف السياسي القائم، فتلك الدولة ذات الأغلبية المسلمة يحكمها مجلس رئاسي من ثلاث شخصيات، أحدها هو ميلوراد دوديك، وهو زعيم صربي متطرف عُرف بخطابه المعادي للإسلام، وولائه الشديد لبوتين والرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، ونظراً لمنصبه يستطيع استخدام صوته للتأثير على المواقف السياسية الخارجية لبلاده بما في ذلك عرقلة انضمام كوسوفو للناتو، وهذا الأمر لا يحجب حقيقة وجود شخصيات سياسية أخرى من صرب البوسنة تدعم موسكو في حربها ضد أوكرانيا وتحفز تدخلها في البوسنة. فقد صعَّدت موسكو من تدخُّلها في تلك المنطقة من أوروبا، وهدد سفيرها في سراييفو، إيغور كالابوخوف، بإعادة تكرار السيناريو الأوكراني في حال انضمت البوسنة للناتو.

تراهن القيادة السياسية البوسنية على الدعم الأمريكي والأوروبي في مواجهة التهديدات الروسية، متجاهلة تماماً الثمن الذي دفعته أوكرانيا بسبب هذا الرهان الخاسر، فالنفوذ الروسي في غرب البلقان لا يزال قوياً سواء من خلال الاستثمار في قطاع الطاقة أو  من خلال العلاقات العسكرية والعقيدة الأرثوذكسية التي وفَّرت حاضنة دينية لهذا الحضور، فموسكو تمتلك علاقات وثيقة مع النظام السياسي في الجبل الأسود وكذلك الأمر بالنسبة لألكسندر فوتشيتش في صربيا وميلوراد دوديك في البوسنة، وهذا الأمر قد يكون أحد أبرز مبررات قوة وعجرفة الخطاب السياسي الروسي في التعاطي مع المنطقة والتأثير على سيادتها واستقرارها. وهذا يعززه أيضاً الخطاب القومي الذي تتبناه فصائل ومنظمات صربية وقومية في غرب البلقان، وأحد أهم محاور هذا الخطاب هو إظهار روسيا بصفتها حامية للشعب الأرثوذكسي والسياق التاريخي للمشروع السياسي الروسي، فقد استشهد كثيراً بوتين بمثال ضم كوسوفو في سياق تبريره لضم شبه جزيرة القرم وتوغله في دونيتسك ولوهانسك شرق أوكرانيا.

تحاول روسيا تحويل غرب البلقان إلى منطقة عازلة يمكنها من خلالها الحفاظ على نفوذها وتقويض نفوذ الكتلة الغربية، ففي عام 2016م تم اعتقال عدد من عملاء المخابرات الروسية خلال محاولة الانقلاب الفاشلة في الجبل الأسود؛ كان الهدف منها إفشال انضمام الجبل الأسود إلى الناتو، أما بالنسبة لكوسوفو وصربيا فقد استمرت موسكو بدعم صربيا عبر تسليحها عسكرياً بهدف إفشال اندماجها مع الاتحاد الأوروبي، وقد هددت موسكو باستخدام حق النقض (الفيتو) لإفشال وجود قوة حفظ السلام الأوروبية في البوسنة، وهذا الأمر أظهر بوضوح قدرتها على زعزعة استقرار البلقان.

لقد شاهدنا وجود ارتباك في مواقف عدد من الدول التي تحاول إمساك العصا من المنتصف خلال الحرب، ومنها ألبانيا، كرواتيا، الجبل الأسود، مقدونيا الشمالية، كوسوفو، وفي البوسنة أثيرت خطابات تحريضية عقب الحرب الأوكرانيا حول احتمال نشوب مواجهات عرقية جديدة بين الصرب والمسلمين البوشناق لا سيما عقب تهديد المتطرف دوديك بانسحاب الصرب من كيانات الدولة والدخول في أزمة انقسام سياسي جديد، كذلك حفَّز الصراع القيادة السياسية في كوسوفو على الإسراع في محاولة الحصول على عضوية الناتو ورفع نسبة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي وإنشاء صندوق أمني يمكِّن المواطنين من المساهمة من خلاله في دعم الجيش، بحسب تقرير نشرته فورين بوليسي.

اتخذت الكتلة الغربية خطوات من أجل الحدِّ من نفوذ روسيا في البلقان، لكن تلك الجهود لا ينظر إليها على أنها فاعلة في مواجهة الهيمنة الروسية على تلك المنطقة؛ فقد خُصصَت قمة أوروبية لدول غرب البلقان ستُعقد في يونيو المقبل، وسيشرف على تنظيمها فرنسا بصفتها رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي. كذلك ضاعف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من قوتهما العسكرية في البوسنة فأصبحت 1100 فردٍ كما نفَّذت طائرات فرنسية طلعات جوية في الآونة الأخيرة، في سياق تطوير حزمة الدعم الدفاعي للبوسنة، لكن جهودها للتغلغل واختراق الطوق الأمني الذي تفرضه موسكو على تلك المنطقة يوجهه قدرة الأخيرة على منع تمديد تفويض الأمم المتحدة الذي يسمح بوجود القوة الأوروبية في البوسنة والذي ينتهي في الخريف المقبل. وهذا الأمر يستدعي بحث الأوروبيين عن ذرائع قانونية جديدة للإبقاء على حضورهم في تلك المنطقة والتصدي للتغلغل الروسي هناك، بالإضافة إلى محاولة الصين أيضاً لإثبات وجودها. رغم المساعي الأوروبية الحثيثة للحفاظ على غرب البلقان بصفتها منطقة أوروبية خالصة تؤدي الدور الجيوسياسي نفسه الذي تؤديه أوكرانيا في المواجهة مع موسكو، وهذا الأمر صرَّح به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أبريل 2018م حينما قال: «لا أريد بلقاناً يتجه نحو تركيا أو روسيا، بل أريده أوروبياً».

وهذا الأمر يؤكد أن المسار الأكثر صلابة في مواجهة المد الروسي مرتبط أكثر بالحضور التركي نظراً لامتداداته العرقية والحضارية في تلك المنطقة، فقد ركزت السياسة التركية التي هندسها الدبلوماسي التركي (أحمد داود أوغلو) لخدمة العمق التركي في منطقة البلقان على عدة أمور، أهمها استحضار الروابط التاريخية والدينية، والتعليم، والإعلام، والتعاون العسكري والاقتصادي، ثم بعد رحيل أوغلو من منصبه في النظام السياسي التركي بدأ الرئيس رجب طيب أرودغان بالتركيز على العلاقات الشخصية مع زعماء تلك المنطقة ونجح في تخفيف حدَّة العداء بين صربيا وتركيا، ونجحت تركيا في اقتحام تلك المنطقة من خلال اتفاقيات تجارية أبرزها اتفاقية التجارة الحرة بين أنقرة ودول غرب البلقان؛ فقد بلغ حجم التجارة بين الطرفين عام 2019م قرابة 11 مليار دولار بعد أن كان في 2002م أقل من نصف مليار دولار.

لذلك يمكن القول: إن نمو التعاون التجاري والعسكري بين تركيا وغرب البلقان ومحاولتها التأثير في صانع القرار السياسي؛ يؤكد أهميتها في ممارسة دور يحدُّ من محاولات تفجير حروب جديدة في تلك المنطقة نظراً للروابط التاريخية والسياسية والعرقية وقدرتها على إبعاد مسلمي المنطقة عن آثار الحرب الروسية في أوكرانيا، وهذا الأمر يعيدنا إلى الدور الذي لعبته أنقرة في ليبيا ومَنْعِها الهجوم على طرابلس وكذلك الأمر في الشمال السوري.


أعلى