• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الخشوع روح الصلاة ونورها

مما يُشَوِّق المسلم للخشوع تَـمَثُّلُه بالنماذج الوضيئة في الخشوع، ولا رَيْب أن أعظمها رسولنا صلى الله عليه وسلم ؛ فهو إمام العابدين، وسيد الخاشعين، وقد كان يُصلي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ من البكاء؛ أي: كغليان القدر

للصلاة في الإسلام مكانة عظمى لا تدانيها مكانة؛ فهي عماد الدين، وركنه المتين، ومِرْقاة الوصول إلى رب العالمين، ولذا فُرضت على المسلمين في كل أحوالهم، فلا تسقط عنهم بحال، بَيْد أنها لا تُؤْتي ثمارها إلا إذا توافر فيها الخشوع، ومشاركة القلب للأقوال والأفعال التي يؤديها الـمُصلِّي.

ليست الصلاة مجرد أقوال يرددها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح؛ بل هي تعظيم لله تعالى، وتجديدٌ لذكره، وصِلةٌ به، ومناجاةٌ له، ولا يمكن أن يتم ذلك وقد وضع الـمُصلِّي حجاب الغفلة بينه وبين ربه.

وأصل الخشوع: لين القلب، ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له[1].

وحينما يتحقق الخشوع في الصلاة، يشعر المسلم في أعماقه أنه يخاطب ربه، ويحس أن الله يسمعه ويجيبه، فيجد حلاوة الصلاة، ويستريح بها وفيها، وليس منها، وتكون قُرةَ عينه، ويجد فيها من سكينة القلب، وراحة النفس ما يعلو به على أَكْدَار الحياة، وطغيان المادة، لا سيما في عصرنا الذي فَشَت فيه مظاهرها، ويَظْفَر بالفلاح الذي بشَّر الله سبحانه وتعالى به الخاشعين فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: ١ - ٢]، كما يفوز بقبول الطاعة، وتكفير الخطايا، قال صلى الله عليه وسلم : «من توضأ نَحْوَ وُضُوئِي هذا، ثُمَّ صَلَّى ركعتين لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفر له ما تقدم من ذنبه»[2].

وليس معنى ذلك ألَّا يَعْرِضَ له في الصلاة حديث نفسٍ مطلقاً؛ فليس هذا في مقدور الإنسان، بل معناه ألَّا يسترسل مع ما يَعْرِض له من حديث النفس بأمور الدنيا، فلو عَرَض له حديث فأعرض عنه حصلت له هذه الفضيلة؛ وقد عُفِي لهذه الأمة عن الخواطر التي تَعْرِض ولا تستقر[3].

وإذا لم يكن الـمُصلِّي خاشعاً فقد حُرِم خيراً كثيراً؛ فالناس ليسوا في ثواب صلاتهم على درجة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الرجل لينصرفُ، وما كُتب له إلا عُشْرُ صلاتِه، تُسْعُها، ثُمُنُها، سُبْعُها، سُدُسُها، خُمُسُها، رُبُعُها، ثُلُثها، نصفُها»[4].

والأشد من ذلك أنه إذا كثر تشاغله في الصلاة، وكان غافلاً مستغرق الهَمِّ بالوساوس وأفكار الدنيا، أصبحت صلاته جسداً لا روح فيه، بل تتحقق فيه العِلَّة التي من أجلها نُهِى السكران عن الصلاة، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، فهذه العلة نفسها - وهي عدم العلم بما يقول - مُطَّرِدَة فيمن يدخل الصلاة بجسده فقط فلا يدري ما قرأ فيها، ولا ما أتى به من أفعال الصلاة، ولذا يُخشى عليه أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : «ورُبَّ قائمٍ حظه من قيامه السَّهَر»[5].

وفي تفسير هذا الحديث يقول الزبيدي: «وما أراد بهذا القائم إلا الغافل؛ فإنه يقوم الليل يصلي من غير خشوع»[6]، ويقول المناوي: «لا ثواب فيه؛ لفَقْد شرط حصوله وهو الإخلاص، أو الخشوع، أو المراد لا يثاب إلا على ما عمل بقلبه»[7].

وفي أهمية الخشوع ومنزلته يقول ابن القيم: «إجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وحضره بقلبه»[8].

ومن ثَمَّ ندرك أن منزلة الخشوع في الصلاة بمثابة الروح للبدن، ولذا فمن فالواجب أن نلتمسَ الأسباب التي تعين على الخشوع، وأن نجاهدَ ونصبرَ لتحقيق ما نروم؛ فليس الخشوع أمراً سهلاً؛ لأن الشيطان يتربَّص بالمسلم؛ ليقطع عليه طريق الوصول إلى خالقه.

معينات على الخشوع:

أولاً: أن يُحسن الـمُصلِّي وضوءه ويُسْبِغَه؛ فإن لذلك تأثيراً في الخشوع وحضور القلب، ليس فقط على المصلي، بل يتعداه إلى الإمام، فقد صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم  الصبح فتردَّدَ في آية فلما انصرف قال: «إنه يُلَبِّس علينا القرآن، أن أقواماً منكم يُصلُّون معنا لا يُحْسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فَلْيُحسن الوضوء»[9].

ثانياً: استحضار حقيقة الدنيا، وأنها متاع الغرور، وأن البقاء فيها مهما طال فهو إلى رحيل، وأن مَرَدَّنا إلى الله ليوفينا أعمالنا، وأن الصلاة وسيلة إلى الدار الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا قمت في صلاتك فَصَلِّ صلاة مُوَدِّعٍ»[10]. وقال بعضهم: الصلاة من الآخرة؛ فإذا دخلتُ فيها خرجتُ من الدنيا[11].

ثالثاً: اختيار المكان والوقت المناسبين للصلاة؛ حتى يُقبِل على الصلاة برغبة وحب وشوق، فلا يُصلِّي في مكان تكثر فيه الصَّوارف والشواغل، وكذلك يختار الوقت المناسب لهذه المناجاة (ما لم يُفَوِّت صلاة الجماعة)؛ فإن مِن فقه الرجل - كما قال أبو الدرداء - أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة؛ ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ[12]. ولذا قال صلى الله عليه وسلم : «لا صلاة بحَضْرَةِ الطعام، ولا هو يُدافِعُهُ الأخبثان»[13].

رابعاً: استشعار الـمُصلِّي عظمة خالقه وكبرياءه وجلاله وكماله، وأنه يقف بين يديه يناجيه، وأنه عبد مُسَخَّرٌ لعبادة ربه، فيدخل الصلاة دخول العبيد على الملوك بالتعظيم والإجلال، ويُقْبِل على الله بكيانه كله، فيُفَرِّغ قلبه لمولاه، ويُظْهِر التذلل والانكسار، وعندها يُنْعِم الله - سبحانه وتعالى - على العبد بالمغفرة والقبول. قال صلى الله عليه وسلم : «فإن هو قام فصلى، فحمد الله وأثنى عليه وَمَجَّدَهُ بالذي هو له أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه»[14].

خامساً: الحرص على أداء الصلاة بأَنَاةٍ وتَـمَهُّل وطمأنينة؛ لأن العجلة تُضيِّع معنى الخشوع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم  للمسيء في صلاته: «ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ»[15]، والحرص كذلك على ترك الحركات؛ فإن سكون الجوارح يعين على حضور القلب، ولذا رأى سعيد بن المسيب رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «إني لأرى هذا لو خشع قلبه خشعت جوارحه»[16].

سادساً: التفكر والتدبر في أقوال الصلاة وأعمالها؛ فإنه يؤدي إلى شعور المسلم بلذة التقرب إلى مَالِكِه، فإذا أَحْرَم المصلي، استشعر بقلبه أن (الله أكبر) من كل ما يخطر بالبال، فيستحي أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره؛ فلا يكون موفياً لمعنى (الله أكبر)، ولا مؤدياً لحق هذا اللفظ[17].

وإذا سجد الـمُصلِّي يستشعر أن سجوده أعظم ما يُظهِر فيه ذُلَّه لربه سبحانه وتعالى، إذ جعل أشرف أعضائه وأعزَّها عليه أَوْضَعَ ما يُـمكنه، والركوع كذلك ذُلٌّ بظاهر الجسد، فيستشعر الرَّاكع الخضوعَ بباطنه وظاهره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يقول في ركوعه: «خشع لك سمعي، وبصري، وَمُخِّي، وعظمي، وعصبي»[18].

وهكذا فالركوع والسجود وسائر أفعال الصلاة يُقصد بها تعظيم الله جل في علاه، ولا يجوز للمصلي أن يكون معظِّماً لربه بفعله، في حين هو غافل عنه قلبه، وإِلَّا لم يبقَ إلا مجرد حركات بدنه قياماً وقعوداً[19].

سابعاً: القراءة بصوت حَسَنٍ تُعين على التفكر والتدبر في معاني ما يقرأه، أو يسمعه، في صلاته، قال صلى الله عليه وسلم : «زينوا القرآن بأصواتكم»[20].

ثامناً: قراءة آيات لم يقرأها في الصلوات القريبة السابقة.

تاسعاً: الحرص على أذكار الصلاة، كأدعية الاستفتاح والركوع والسجود؛ لئلا تصير الصلاة عملاً آلياً.

قبسات من صلاة الخاشعين:

ومما يُشَوِّق المسلم للخشوع تَـمَثُّلُه بالنماذج الوضيئة في الخشوع، ولا رَيْب أن أعظمها رسولنا صلى الله عليه وسلم ؛ فهو إمام العابدين، وسيد الخاشعين، وقد كان يُصلي وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ من البكاء[21]؛ أي: كغليان القدر.

وكان أبو بكر رضي الله عنه رقيقاً بَكَّاءً لا يملك دمعه، فلا يُسْمِع الناسَ مِن البُكاء إذا صلَّى بهم[22].

وصلَّى عمر رضي الله عنه بالناس فسُمِع نشيجُه مِن آخر الصفوف وهو يقرأ: {قَالَ إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} [يوسف: 86][23].

وصلَّى مُسلم بن يَسَار ولم يشعر بسقوط ناحية من المسجد، وقد اجتمع الناس عليها، فما الْتَفَتَ[24]!

ولَمَّا سُئِل حاتم الأصم عن صلاته قال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، ومَلَك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأُكَبِّر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقُبلت مني أم لا[25].

وهكذا كانت الصلاة عند سلفنا الصالح راحة للفؤاد، وقرة للعيون، ولو أننا اقتفينا في ذلك آثارهم لأثمرت الصلاة في قلوبنا اطمئناناً، وفي نفوسنا سكينة، وفي مسيرتنا سعادة في الدنيا ونعيماً في الآخرة.


 


[1] الخشوع في الصلاة لابن رجب الحنبلي (ص29)، دار الفضيلة، القاهرة.

[2] أخرجه البخاري برقم (159)، ومسلم برقم (226)، وفي رواية لمسلم برقم (228): «فيحسن وُضُوءَهَا وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب».

[3] شرح النووي على مسلم (3/ 108)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط. الثانية.

[4] أخرجه أحمد برقم (18894)، وأبو داود برقم (796)، وصحح العراقي إسناده. المغني عن حمل الأسفار (1/172). مطبوع مع إحياء علوم الدين.

[5] أخرجه ابن ماجة برقم (1690)، والحاكم برقم (1571)، وصححه، وحَسَّنه العراقي. المغني عن حمل الأسفار (1/ 159).

[6] اتحاف السادة المتقين (3/112)، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1414هـ.

[7] فيض القدير (4/ 16)، المكتبة التجارية، مصر، ط. الأولى.

[8] بدائع الفوائد (2/ 196)، دار الكتاب العربي، بيروت، ويُروى هذا المعنى من قول عمار. إتحاف السادة المتقين (3/169).

[9] أخرجه أحمد برقم (15874)، والنسائي برقم (947)، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 241)، وقال: رجاله رجال الصحيح.

[10] أخرجه ابن ماجة برقم (4171)، والحاكم برقم (7928)، وصحَّحَه، وأقره الذهبي.

[11] إحياء علوم الدين (1/162، 171) ، دار المعرفة، بيروت.

[12] إحياء علوم الدين (1/ 172).

[13] أخرجه مسلم برقم (560).

[14] أخرجه مسلم برقم (832).

[15] أخرجه البخاري برقم (757)، ومسلم برقم (397).

[16] أخرجه عبد الرزاق برقم (3308)، وابن أبي شيبة برقم (6787).

[17] بدائع الفوائد (2/ 195).

[18] أخرجه مسلم برقم (771)، وانظر: الخشوع ص74 - 76.

[19] إحياء علوم الدين (1/ 160).

[20] أخرجه أبو داود برقم (1468)، والنسائي برقم (1015)، وابن ماجة برقم (1342)، وصححه الألباني.

[21] أخرجه أبو داود برقم (904) ، والنسائي برقم (1214)، والحاكم برقم (971)، وصحَّحَه، وأقره الذهبي.

[22] أخرجه البخاري برقم (716)، ومسلم برقم (418).

[23] أخرجه البخاري معلقاً باب إذا بكى الإمام في الصلاة.

[24] حلية الأولياء للأصفهاني (2/ 290)، دار الفكر، بيروت.

[25] إحياء علوم الدين (1/ 151).

 

 


أعلى