اليقين بالله والثقة بتدبيره جعل هاجر تقول: «إذن لا يضيعنا»؛ وكأنها تقول لإبراهيم: اذهب إلى حيث وجَّهك الله وأمرك، ولا تخشَ علينا من الضيعة والهلاك، وطالما أنت في طاعة الله فنحن لا نسير إلا في ركابك وبأمرك.
بيت إبراهيم الخليل بيت مبارك، قد وهب وقته وجهده وماله في الدعوة إلى عبادة الله
وحده ونبذ الأصنام والكواكب والأوثان؛ أما إبراهيم عليه السلام فقد فعل ذلك بوحي من
الله تعالى، وأما سارة فامتثالاً لأمر إبراهيم عليه السلام وطاعة له في طاعة الله،
ولقد تحمَّلا في سبيل ذلك صنوف الأذى والمعاناة؛ فإبراهيم ابتلي، وسارة ابتليت،
فاحتسبا أجرهما عند الله، وفارقا بلادهما ومرابعهما وأهليهما ليقيما دين الله في
ذاتهيما وفيمن حولهما.
وبعد أنْ لقي إبراهيم عليه السلام كلَّ هذا الصدود والجفاء ولم يؤمن برسالته أحد من
قومه غير سارة ولوط هاجر ودعا الله تعالى أنْ يجعل الإيمان في عقبه وذريته، لكنه قد
طعن في السن! وكبر حتى جاوز الثمانين من عُمُره[1]،
وكذلك زوجُه سارة قد كبرت وهي عاقر لا تلد، وبالرغم من صعوبة الإنجاب في هذا الظرف
إلا أنَّ المؤمن لا ينقطع رجاؤه بالله القادر على كل شيء والقاهر فوق كل شيء. قال
تعالى: {وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ 99 رَبِّ هَبْ لِي مِنَ
الصَّالِـحِينَ} [الصافات: 99 - 100]، وحينها جاءته البشرى بالذرية، قال تعالى:
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: ١٠١]. من هنا بدأ عهد جديد من
البركات والنعم.
الذرية الطيبة:
بعد رجوع إبراهيم عليه السلام وسارة من مصر إلى الشام، ومعهما (هاجر) التي أهداها
الملك الجبار جاريةً لسارة، وبعد أنْ مكث في بلاد بيت المقدس عشر سنين قالت له
سارة: إنَّ الرب قد حرمني الولد، فادخل على أَمَتي هذه - تعني هاجر - لعل الله
يرزقنا منها ولداً. فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت
منه[2].
فكان هذا الحمل بداية عهد جديد في حياة إبراهيم عليه السلام، فقد ولدت هاجر الابن
البكر لإبراهيم: إسماعيل.
وبسبب الغيرة حصل التفريق بين سارة وهاجر لحكمة يريدها الله تعالى، فارتحل إبراهيم
بهاجر ووليدها إسماعيل إلى مكة بأمر من الله تعالى، وهي يومئذٍ وادٍ مقفرٌ موحشٌ،
ليس فيه إنس ولا ماء ولا حياة. قال ابن عباس:
«أول
ما اتخذ النساء المِنْطق من قِبَل أم إسماعيل؛ اتخذت مِنطقاً لتعفِّي أثرها على
سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت، عند
دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما
هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قفَّى إبراهيم منطلقاً،
فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه
إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك
بهذا؟ قال نعم. قالت: إذنْ لا يضيعنا. ثم رجعتْ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند
الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا
إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
الْـمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}
[إبراهيم: 37]»[3].
وهنا تستوقف القارئَ قوةُ الإيمان في نفس إبراهيم، وفي نفس هاجر كذلك؛ فإبراهيم
يستجيب لأمر الله تعالى بإسكان سَرِيَّته هاجر وابنها في هذا الوادي البعيد المقفر،
ويستجيب لأمر الله تعالى بتركهما وحدهما والرجوع إلى الشام، وهاجر ترضى بصنيعه حين
تعلم أنه أمرٌ من الله ليقينها أنَّ الله لا يضيعها، وهذا من قوة إيمانها بالرغم من
حداثته.
اليقين بالله والثقة بتدبيره جعل هاجر تقول:
«إذن
لا يضيعنا»؛
وكأنها تقول لإبراهيم: اذهب إلى حيث وجَّهك الله وأمرك، ولا تخشَ علينا من الضيعة
والهلاك، وطالما أنت في طاعة الله فنحن لا نسير إلا في ركابك وبأمرك. فتمكث هاجر
رضي الله عنها في ذلك الوادي تدافع وحشتها بإيمانها بالله، وتغالب شعور الفقد
بالرضا عن أقدار الله، وتعالج خوفها على وليدها بالثقة في الله وحكمه... فلله تلك
الروح الهاجَرية التي تميزت بالصلابة والرقة في آنٍ معاً! فهي الصلبة أمام وقائع
الحياة المضنية، يومَ كانت جارية في مصر، ثم أُهديت إلى سارة، فترحل بها إلى الشام،
ثم تهبها سارة لإبراهيم، ثم تضطرها غيرة سارة إلى مفارقتها، ثم يرتحل بها إبراهيم
إلى مكة حيث لا أحد، لا إنس ولا ماء ولا زرع ولا حياة، فتواجه ذلك بصلابة روح وقوة
عقل. وهي الروح الرقيقة أمام أمر الله وأمام أمر إبراهيم، فتستجيب للأمر وتثق
بعناية الله ولطفه، وتفوِّض أمرها إليه دون اعتراض.
والذي صنعه إبراهيم عليه السلام لهاجر وولدها هو محض الامتثال لأمر الله فيهما،
والدعاء لهما. وهذا أهم ما يقدِّمه الآباء في بيوتهم.
وعلى إثر هذه الحادثة العظيمة توالت البركات:
فمنها: أنَّ الله تعالى أنبع لهاجر ووليدها ماء زمزم، الذي يختلف عن سائر المياه
بَركةً وغذاءً ودواماً.
ومنها: تحوُّل مكة من وادٍ مقفر إلى بلدة مأهولة، إذ وفد إليها بعضٌ من قبيلة جرهم
وسكنوها وأحيوها، ومنهم تزوج إسماعيل وتعلم العربية[4].
ومنها: بناء البيت الحرام ليكون بعد ذلك موضع حج الناس إلى آخر الزمان، سنة بعد
سنة، وما يترتب عليه من وفود الناس إليه وسكناها وإحيائها والاعتناء بها وجلب
الأرزاق إليها؛ لتصبح مركز العالم وأمَّ القرى ومحطَّ أنظار الناس ومهوى أفئدتهم.
ومنها: نبوَّة إسماعيل عليه السلام، فكان عوضاً من الله تعالى لإبراهيم عن جحود
قومه وكفرهم.
وكان من آخر بركاته: مبعثُ محمد صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل وإحياء هذه
الأمة بالإسلام والقرآن. وقد كان إبراهيم يدعو: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 127 رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ
عَلَيْنَا إنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 128 رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [البقرة: 127
- 129]. فمن بركة هذه المرأة الصالحة أنْ جعلها الله تعالى أمّاً لأمة الإسلام.
وإنْ تعجب فاعجب من توريث الهداية واليقين بالله والثقة بحكمه وقَدَرِه، فإنَّ
تلْكم الصفات الحميدة والأعمال القلبية لم تقتصر على هاجر وإبراهيم، بل ها هو
ابنهما إسماعيل يحققها في سائر حياته بوصفها ثمرةً صالحة من ثمار تربية أمِّه له؛
فمن ذلك امتثاله لأمر أبيه بتسليم نفسه للذبح، قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ 101 فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إنِّي
أَرَى فِي الْـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:
101 - 102]. فأخبر أباه أنه موطِّنٌ نفسه على الصبر[5]،
وهو لم يزل في حداثة سنه، فالابن الذي قال لأبيه:
«افعل
ما تؤمر»
هو ابن تلك المرأة التي قالت لزوجها حين تركها بوادٍ غير ذي زرع بأمر من الله:
«إذن
لا يضيعنا»...
الأم الصالحة هي صانعة الرجال وغارسة العقيدة في نفوس الأولاد.
العِوَض الرباني:
هل انتهت بركات بيت إبراهيم عند هذا الحد؟ كلا، فإنَّ الله تعالى يقول حكاية عن
سارة: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ وَمِن
وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ 71 قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72 قَالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 71 - 73]. أيْ لا تزال رحمته وإحسانه وبركاته
على أهل هذا البيت، وهي الزيادة من خيره وإحسانه وحلول الخير الإلهي على العبد[6].
والله تعالى إذا أعطى أكثر وأجزل.
فبعد أنْ ولدت هاجرُ إسماعيلَ بشَّر الله تعالى سارةَ بالولد، فأكرمها تعالى - على
كبر سنها وكونها عاقراً - بولادة إسحاق بعد عشرات السنين التي قضتها في ظل زوجها
تؤيده وتسكِّنه وتسنده؛ إذ لا يسند الرجل خير من زوجة صالحة، فهي كهفه الذي يؤوي
إليه.
وكانت هذه البشارة في الوقت الذي جاءت فيه الملائكة مؤذنة بإهلاك قوم لوط عليه
السلام، قال مجاهد:
«وكانت
ابنةَ بضعٍ وتسعين سنة، وكان إبراهيم ابن مائة سنة»[7].
لقد توجت تلك المسيرة الحافلة لهذا البيت المبارك بهذا العوض الجميل، وحملت هذه
البشارة ولادة إسحاق ثم ولادة يعقوب بن إسحاق، ويكون ذلك في حياتها فتشتمل البشارة
على حملها، وعلى رؤيتها لحفيدها في حياتها، وهذا يعني أنها ستشهد بعضاً من ذريتها
المباركة، قال ابن كثير:
«أيْ
ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرَّت بوالده، فإنَّ الفرح
بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا
يعقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم (يعقوب)، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية،
وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومَه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من
بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد
صالحين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه»[8].
وحقاً لقد عاشت سارة حتى رأت يعقوب عليه السلام، وكان من بطنها جُلُّ الأنبياء
والرسل عليهم الصلاة والسلام، فيعقوب هو إسرائيل الذي تنتسب إليه بنو إسرائيل،
الأمة التي فضلها الله على العالمين قبل مبعث أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال
تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27]، وهو والد يوسف عليه السلام، النبي
الكريم سليل الأنبياء الكرام. قال السعدي:
«ويدخل
في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بُعثوا من بعده لأنهم من ذريته، وقد خصهم بأنواع
الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم فإنَّ الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره، وفاق صلى الله
عليه وسلم الأولين والآخرين، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم»[9].
هكذا يعوِّض الله تعالى النساء الصالحات لأزواجهن، وما يعقب العسرَ إلا اليسرُ، ولا
يجلب الصبرُ على المشاق إلا الظفرَ بالكرامة والمغانم، وأيُّ كرامة خير من عقبٍ
صالح يدعو لأمه وينالها أجر طاعته، بل أيُّ خير أعظم من نوال رحمة الله وبركاته.
اللهم أصلح بيوت المسلمين واجعلها مباركة طيبة.
[1] تفسير ابن كثير: 6/385.
[2] البداية والنهاية: 1/227.
[3] أخرجه البخاري، حـ 3368.
[4] أخرجه البخاري، حـ 3368.
[5] تفسير السعدي: 3/1476.
[6] تفسير السعدي: 2/759.
[7] تفسير الطبري: 12/476.
[8] تفسير ابن كثير: 3/572.
[9] تفسير السعدي - فروقات: 4/ 2043.