• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أوجه الاتفاق والاختلاف بين فرسان المعبد والحشاشين وداعش

ثلاث فِرَق تبدو للوهلة الأولى مختلفة تماماً، فإحداها ظهرت في أوساط صليبية كاثوليكية محضة ثم انحرفت عن ذلك المسار. وثانيها خرجت من انشطار الطائفة الإسماعيلية الملحدة. وثالثها جاءت من وسط حاضنة سنية، وتلك مشارب متباينة، لكن ثمة ما يجعل هذه التناقضات الجذرية


الإخلاص والفدائية والانضباط والروح الجماعية هي صفات حميدة إذا انطلقت من عقيدة صحيحة وارتبطت بأخلاقيات رفيعة، وإلا فإنها تمثل وبالاً على أصحابها وأعدائهم على حدٍّ سواء، خصوصاً إذا ما ازدادت انحرافاً بسبب عقيدتها الفاسدة فانجرفت نحو الفساد وتقديم المصالح الذاتية على مبادئها.

فرسان المعبد، طائفة الحشاشين، داعش، تنظيمات ومجموعات وميليشيات عرفها العالم في حقب معيَّنة، اتسمت طوائفها بقدر لافت من الإخلاص والفدائية والشجاعة والانضباط، والتقشف أحياناً، لكنها صرفتها فيما يضر الناس ولا ينفعهم؛ إذ انطلقت كلها من اعتقادات وأفكار فاسدة ضالة، ساقتها إلى ارتكاب مذابح واغتيالات وسفك دماء معصومة، واجترأت على اقتراف جرائم ومحرمات عديدة في سبيل تحقيق أهدافها الفاسدة.

واحدةٌ من تلك الفرق هي طائفة الحشاشين الإسماعيلية، ذاع صيتها إذ كانت أكبر جماعة احترفت الاغتيال السياسي والقتل غدراً في التاريخ، حتى إن هذا النوع الغادر من القتل قد صُك باسمها؛ فدخلت كلمة «حشَّاشين Assasin» معظم اللغات الأوروبية بمعنى القاتل الذي يقتل خلسة أو غدراً وغالباً ما تكون ضحيتُه شخصيةً عامة، وصار مسمى القتل غيلة هو assassination.

وثانيةٌ اشتهرت باندفاعها العدائي ضد المسلمين، فكانت في الصفوف الأولى للحملات الصليبية، وقيامها بأعمال التجسس والأعمال الإجرامية ضد المسلمين في الشام وسواحل البحر المتوسط، وتغوُّلِها في أوروبا بعد ذلك وممارستها أعمالاً استخبارية واقتصادية وعسكرية إجرامية، واستمرت أعمالها العدائية وقوَّتها الضاربة النوعية ضد المسلمين حتى الآن.

وثالثةٌ اشتهرت بالذبح والتقتيل في أوساط المسلمين السُّنة، باسم الدفاع عنهم! وتساوقت مع مخططات الغرب والشرق في كبح جماح جهود تحرير المسلمين من ربقة التبعية والاستبداد.

إنها ثلاث فِرَق تبدو للوهلة الأولى مختلفة تماماً، فإحداها ظهرت في أوساط صليبية كاثوليكية محضة ثم انحرفت عن ذلك المسار. وثانيها خرجت من انشطار الطائفة الإسماعيلية الملحدة. وثالثها جاءت من وسط حاضنة سنية، وتلك مشارب متباينة، لكن ثمة ما يجعل هذه التناقضات الجذرية تتقارب في طرائق النشأة والتكوين والنزعات الثورية والأساليب والرغبة التطهرية التي حادت عن طريق الهداية إلى غير ذلك.

نقاط اتفاق واختلاف، نعرض لبعضها من خلال ما يلي:

ظروف النشأة

فرسان المعبد: أو الهيكل أو هيئة الداوية، هي واحدة من أبرز الحركات الصليبية العسكرية التي نشطت في بلدان كثيرة، بعد انطلاقها من قلب بيت المقدس. سبقتها بعقود هيئة الإسبتارية[1] التي ولدت في بيت المقدس بزعم تقديم الرعاية الصحية لـ (الحجاج النصارى) القادمين لتكفير كبائرهم في بيت المقدس قبل سقوط بيت المقدس في يد الصليبيين.

نشأت الإسبتارية في عام 1070م[2] على شكل مستشفى تطوعي لعلاج مرضى (الحجاج النصارى)، بترخيص من سلطة العبيديين الإسماعيلية التي كانت تحكم مصر وأجزاء من الشام في ذلك الحين، وقد قامت الإسبتارية بمساعدة الحملة الصليبية القادمة استخبارياً. أما فرسان المعبد أو الهيكل فقد نشأت في بلاد الشام سنة 1119م[3] إثر استيلاء الصليبيين على بيت المقدس، ولقِّبَت في أول الأمر بفرسان المسيح ثم لـمَّا منحها الصليبيون مقراً بجوار ما يُسمى بمعبد سليمان أُطلق عليها اسم فرسان المعبد أو الهيكل وأطلق عليها المسلمون اسم الداوية.

وكلٌّ من الهيئتين قد أُسِّست بتوجيه ودعم من بابا الكاثوليك شخصياً، وظلتا تابعتين له، مستقلتين عن الحكام الأوروبيين والصليبيين في الشام فيما بعد، وهما تنحدران من بلاد الغال (فرنسا) وإليها ينتمي معظم أفراد الفرسان.

وبخلاف الإسبتارية، فإن فرسان المعبد قد نشأت من بدايتها عسكرية، بدعوى حماية (الحجاج النصارى) ثم شاركت بقوة في الحروب الصليبية.

وقد نشأت تلك الهيئات ردَّ فعل على انتشار الفساد[4] في الأوساط النصرانية في أوروبا في ذلك الوقت، فالتزمت تلك الهيئات خطّاً صليبياً صارماً وضع في صدر مبادئه «الفقر والعفة (الامتناع عن الزواج) والطاعة (للبابا ومقدم الهيئة)»، ونشأت كذلك لتلبية حاجة مُلحَّة دعت إليها عودة كثير من الصليبيين (الفرنج) إلى بلادهم بعد سقوط بيت المقدس في أيديهم، ثم سرعان ما غرقت في أوحال الفساد المقنَّع بعد ثرائها الفاحش[5].

الحشاشون: هي طائفة تنتمي إلى الفرقة الإسماعيلية الشيعية التي تؤمن باعتقادات باطلة عن الله سبحانه وتعالى تنفي عنه صفاته، وتؤمن بالعصمة لإمامها المستتر، وتؤمن باتحاد الأرواح وتناسخها، وقد ادَّعى بعض أئمتهم الألوهية وعبدهم الحشاشون من دون الله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإسماعيلية العبيدية التي ينحدر منها الحشاشون: «كان بنو عبيد الله القداح الملاحدة يسمَّون بهذا الاسم[6] لكن هؤلاء كانوا في الباطن ملاحدة زنادقة منافقين وكان نسبهم باطلاً كدينهم»[7]، ويضيف بأنه حين زال ملكهم على يد صلاح الدين «ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائتي سنة»[8].

وقد نشأ الحشاشون بأصفهان على يد حسن الصبَّاح الذي كان يطالب بـ (الخلافة الفاطمية) أو (الحكم العبيدي على الوجه الصحيح) لابن المستنصر بالله نزار، الذي سجنه شقيقه المستعلي واستولى على حكم مصر، ثم اتخذ الصباح وأتباعه قلعة ألموت بفارس مقراً لدعوته الإسماعيلية ثم العديد من القلاع في الشام كذلك.

داعش: يُعرَف بتنظيم الدولة الإسلامية: وفي البدء عرف باسم (الدولة الإسلامية في العراق والشام) ثم سرعان ما نمت أفرعه في إفريقيا وآسيا لاحقاً، وهو تنظيم ينتمي ظاهرياً إلى ما يُعرف اصطلاحاً باسم الفكر (الجهادي السلفي) غير أنه يفارقه في اتجاهين:

الأول: فكري؛ إذ يتوسع التنظيم في القتل والتكفير ويركز جهوده على قتل أنصار الفصائل المناوئة للنظم الحاكمة.

الثاني: عسكري وسياسي؛ إذ تمكن من إقامة دولة بشكل مَّا في العراق وسوريا.

لكن هذا التنظيم يكتنفه كثير من الغموض في طريقة تكوينه، التي اعتمدت على تسهيلات مشبوهة في العراق وسوريا مكَّنت عناصره من الهروب من سجون الدولتين بشكل يحيطه كثير من الشكوك، لا سيما سـجني (أبو غريب) في العراق، و (صيدنايا) في سوريا. كما مكَّنته لاحقاً من الاستيلاء على أسلحة وعتاد وأموال بطريقة سهلة تُركَت أمامه بعد انسحابات غير منطقية من جيشي الدولتين.

وتعود جذور التنظيم إلى الجناح المتشدد في فرع تنظيم القاعدة (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) (العراق) الذي شكَّله أبو مصعب الزرقاوي في عام 2004م لقتال القوات التي تقودها الولايات المتحدة وحلفائهم العراقيين عقب الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003م، إلا أنه انشق عنه لاحقاً.

أساليب التجنيد

فرسان المعبد:

اعتمد أسلوب التجنيد في فرسان المعبد وأشباهه من التنظيمات الصليبية التابعة للبابا مباشرة على تجنيد فئات محددة من الفرسان تجمعهم وحدة الهدف، وهو أن يكونوا (جنود المسيح)، واستهدفوا فئة (النبلاء) فضموا ما وافق شروطهم منها، وسمَّتْهم (فرسان العدل)، والرهبان، و (إخوان الخدمة) وهم من ينفِّذون الأوامر الصادرة إليهم دون نقاش، وهم في العادة من الفقراء، و (الجوادين)، وهم المتبرعون بالأموال والأملاك للتنظيم. وقد خضعت كل هذه الفئات لاجتياز مرحلة التزكية من الرهبان في الأديرة والقساوسة التي ينتمي إليها هؤلاء الفرسان الجدد في أوروبا.

الحشاشون:

في صلب عقيدة الحشاشين تكمن فكرة الإخضاع والتسليم التام للإمام، وتستند تلك العقيدة على إثبات الإمامة المعصومة وعلى إلغاء العقل وتسليم قياده إلى الإمام أو المعلم، يقول حسن الصباح: «لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم»[9]. ويقول: «علامة الحق هي الوحدة، والوحدة مع التعليم، والتعليم مع الجماعة، والجماعة مع الإمام»[10].

فإلغاء العقل هو العنصر الأول في تجنيد أتباع الحشاشين، ويأتي من بعده الإفادة من حالة التمزق التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذا التوقيت، لتقديم الطائفة عنواناً للوحدة التي «تتميز بوجود رابطة قوية من الولاء بين الرفاق والتفاني في الخضوع للزعماء»[11].

ثم هناك عنصر ثالث يقدم به الحشاشون أنفسهم بديلاً عن الإسماعيلية التقليدية في مصر، الدولة العبيدية (الفاطمية) التي انغمس زعماؤها في الفساد والصراع على السلطة بين الحكام الإسماعيليين أنفسهم.

وقد استهدف الصباح في تجنيده فئة البطالين والفساق؛ فوفَّر لهم الإقامة الباذخة نسبياً والممولة من السرقة والسلب، وأسقط عنهم الفرائض، وقصَّر طريقهم إلى الجنة في طاعة الإمام وحدَه دون التزام بأحكام الشريعة الغراء وفرائض العبادات، وخدَّرهم بوعوده وبستانه النضر.

وقد راوح زعماء الحشاشين ما بين المعيشة الرهبانية الزاهدة فيما يبدو للأتباع، والتفسخ الأخلاقي؛ ففي حين «نجد الإسماعيليين - طبقاً لما يقوله المؤرخون الفرس - ينتهجون النظم الديرية تقريباً فيمتنع على قادة القلاع ما داموا في مناصبهم الاحتفاظ بالنساء»[12]؛ فإننا أيضاً نجد أن الصباح حين انحاز إلى قلعة ألموت اصطنع ما ظنه محاكاة للجنة فأغرق (فدائييه) في ملاذات الدنيا المحرمة وغير المحرمة في بستانه بوادي ألموت الذي زينه بالأشجار المثمرة وزوده بألوان اللهو بالشراب والنساء، وغمسهم في كل هذا قبل إقدامهم على ارتكاب الجرائم الدموية والاغتيالات، واعداً إياهم بجنة في الآخرة أفضل مما عاينوه قبل اقترافهم تلك الجرائم بحق المسلمين، وهو ما يدفعهم لإلغاء عقولهم والإقدام على العمليات الانتحارية بحماسة واندفاع.

داعش:

يعتمد أسلوب التجنيد في تنظيم داعش على استقطاب عناصر من تنظيم القاعدة، وآخرين من الفصائل السورية المقاتلة (لا سيما أحرار الشام وجيش الإسلام) وأتباع (التيار الجهادي) عموماً في سائر البلدان الإسلامية، علاوة على تجنيد الشباب عبر الإنترنت خصوصاً في الدول الأوروبية.

ويوجه التنظيم خطاباً واضحاً وجاذباً للشباب مستفيداً من فشل المسارات السياسية للتغيير في المنطقة العربية، وحالة الإحباط السائدة نتيجة لتردي الحالة المعيشية، وتنامي الخطاب المعادي للإسلام والمناوئ للشريعة، وظهور بعض التيارات الفكرية العلمانية والإلحادية التي صارت تتمتع بقدْر كبير من الحرية في بلدان إسلامية عديدة، في وقت لا يتمكن فيه التيار الوسطي في المؤسسات الدينية وغيرها من الترويج لأفكار وسطية بين هؤلاء الشباب.

الشعارات المرفوعة

فرسان المعبد:

يقوم الخطاب الداخلي للفرسان على اتباع (الفقر والعفة والطاعة)، وشعارهم بصفة عامة أنهم هم (جنود المسيح)، والدعاية التي يسوقونها هي إنقاذ وحماية النصارى من الوثنيين (المسلمين)! وحماية قبر المسيح، وقد اتخذت من الصليب شعاراً، ومن القدس هدفاً.

الحشاشون:

يقوم الخطاب الداخلي لأتباع الحشاشين على تحقيق الطاعة التامة والفداء والتضحية والزهد، وشعارهم ودعايتهم هي إقامة الإمامة للمسلمين، وتحقيق العدل بينهم، وإزالة العقبات التي تحول دون ذلك.

داعش:

يعلن التنظيم بصراحة عن هدفه بـ (إقامة الخلافة الإسلامية) و (تطبيق الشريعة الإسلامية)، غير أنه لم يُقِم هذه ولا طبَّق تلك حينما أفسح المجال له في العراق وسوريا لتحقيق ذلك، بل مارس نوعاً من التسلط والقهر في المناطق التي حكمها، وضيق الخناق على فصائل المقاومة في العراق، وفصائل (الثورة السورية)، ونفَّذ اغتيالات ممنهجة بحق قادة وجنود تلك الفصائل، وخاض ضدها حرباً ضروساً تفوق حروبه الهزيلة مع الجيش السوري.

الممارسات والمهمات التي قاموا بها

فرسان المعبد:

قامت تنظيمات الفرسان الرهبانية عموماً تحت غطاءٍ: إما (إنساني)، وإما (عسكري ذي هدف أخلاقي) كحماية الحجاج النصارى وأموالهم وإعانة الفقراء وعلاجهم، لكن الإنساني قد تحول إلى عسكري وحشي يفتك بالمسلمين في الشام وطرابلس الغرب وغيرهما، مستمرّاً حتى اللحظة الحالية التي أصبحت فيها (فرسان مالطا) وريثة التنظيمين الأشهر (الإسبتارية) و (الداوية)، والعسكري تراجع تلقائياً إثر الهزائم ليرفع شعارات إنسانية لم يزل يقوم بها حتى الآن في شكل منظمات منبثقة من فرسان مالطا.

أما (حماية الحجاج) نفسها، فهي الأخرى لم تكن دقيقة؛ إذ كان للفرسان أهداف أخرى، فقد «قام كاتبان بريطانيان ماسونيان هما كرستوفر نايت Christopher Knight وروبرت لوماس Robert Lomas ببحث طويل عن جذور الماسونية نشراه في كتاب (مفتاح حيرام) The Hiram Key، وهما يتفقان على أن أصل الماسونية ومنشأها يرجع إلى فرسان المعبد، ولكن السؤال الأهم: ما جذور عقائد هؤلاء الفرسان؟ يقول هذان الكاتبان: ليس هناك من دليل على أن فرسان المعبد كانوا يقومون بحماية الحجاج المسيحيين. ولكننا نملك أدلة قوية على قيامهم بحفريات كثيرة قرب خرائب معبد هيرود (وهو المعبد الذي شيد إعادة لمعبد سليمان وفي المكان نفسه)»[13]

انخرط الفرسان في لعب دور عقدي يتمثل في البحث عن وثائق يهودية انتهت بهم إلى العثور على وثائق الكابالا التي نأت بهم عن الكاثوليكية الأصولية، «يقول مؤلفا كتاب مفتاح حيرام: (إن البحوث والحفريات التي قام بها فرسان المعبد قرب خرائب معبد سليمان لم تذهب هباءً، بل حصلوا على أشياء معيَّنة كانت كافية لتغير نظرتهم في الحياة... لقد توصلوا إلى كابالاCabala [14] أي توصلوا إلى فرع من فروع الباطنية اليهودية السرية، فانحرفوا عن عقيدتهم المسيحية)»[15].

لكن على المستوى الحربي كانوا الأشد فتكاً بالمسلمين في الشام إبَّان الحروب الصليبية وكانوا رأس حربتها، «وقد تأكد أن هذه الهيئة كانت جديرة بأن تتبوأ طلائعَ الصفوف الصليبية الأولى في مواجهة المسلمين. وأنه لولا ما قام به أولئك الفرسان من جهود حربية، لانتهى أجلُ الكيان الصليبي بالشام قبل نهاية القرن 13م بمدة طويلة»[16].

اقترف الفرسان جرائم شنيعة أثناء الحملة الصليبية الأولى، وهو ما حدا بصلاح الدين الأيوبي حين عفا عن الصليبيين المنهزمين أن يذبح من وقع في يديه من الفرسان لإدراكه لخطورتهم وخطورة بقائهم واستمرارهم في القيام بمؤامرات قيل إن قسطاً قد أخذته الفرسان عن الفرق الباطنية لا سيما الحشاشين، خصوصاً طرق الاغتيالات والجاسوسية.

برع الفرسان في أساليب حرب العصابات، والعمل السري الذي نجحوا فيه على مرِّ قرون أن يبقى طيَّ صدور زعماء الفرسان وداخل حدود أسوار مقراتهم، وساهم في استقلاليتهم تلك الصلاحياتُ الواسعةُ الممنوحةُ لهم من قبل البابا، وتبعيتُهم المباشرة له، وعدمُ خضوعهم للمحاكم الكنسية، وعدمُ حاجتهم للاعتراف أمام القساوسة كبقية النصارى والصليبيين.

ولاضطلاعهم بمهمة حماية (الحجاج) ابتدعوا أول نظام مصرفي في العالم، فاستصدروا صكوكاً وهي المعروفة اليوم بالشيكات، وهي أن يسلِّم (الحاج) ماله في أوروبا مقابل صك من مقرٍّ فرساني، يسلمه عند وصوله القدس لمقر آخر ويستلم نقوده، في مقابل رسم حماية، وكما أوجدوا نظاماً ربوياً تم تطويره لاحقاً ليصبح هو ذاته النظام البنكي المعمول به الآن، وقد أدار رجال التنظيم العلمانيون في أوروبا شبكته الاقتصادية، التي كانت الأكبر والأضخم في أوروبا كلها، ولا يُدرى إذا كانوا ما يزالون مهيمنين على النظام المصرفي الدولي حتى الآن أم لا.

الحشاشون:

في العصر الذهبي للحشاشين سعوا لإقامة دولتهم، ولكونهم يمثلون قلة داخل الفضاء الشامي السني؛ فقد اختاروا أسلوب المؤامرات والتخفي والاغتيالات. يقول برنارد لويس: «الإسماعيليون بفضل تكتيكاتهم الحربية وأهدافهم الثورية استطاعوا القيام بمحاولة جريئة لقلب النظام القائم والحلول محله»[17]، ويضيف: «لم يسبق للحشاشين مثيلٌ في استخدامهم المنظم المدبَّر الطويل للرعب كسلاح سياسي... الإسماعيليون كانوا بحق الإرهابيين الأُوَل الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية... وبصورة عامَّة، فإن ما يُحسب للإسماعيليَّة أنَّها تمكَّنت في عصر مضطرب من تكوين فرقة متماسكة تنظيميّاً تمتلك جذور بقائها في داخلها. وقد سعت بما عُهد عنها من روح ثورية وتكتيكات حربية إلى الانقلاب على نظام الحكم القائم، ولم يسبقهم أحد إلى استعمال الرعب سلاحاً سياسيّاً. فلا الخنَّاقون في العراق ولا السفَّاحون في الهنـد ولا الاغتيالات السياسيَّة السابقة في العصور الإسلاميَّة الأولى كانت بمثل تنظيم وترتيب فرقة الحشَّاشين الذين طوَّروا عمليات الاغتيال وجعلوها فنّاً وطقوساً وواجباً. لذلك يمكن القول: إنهم الإرهابيون الأُوَل في العالم الإسلامي الذين استطاعوا تطويع الإرهاب لتحقيق مصالح سياسيَّة. لقد كان حسن الصباح يعلم جيَّداً أنَّه وجماعته لا يستطيعون كسر شوكة الإسلام السنيِّ ولا ضرب هيبة الدولة السلجوقيَّة لو حاربهم سنين وَفْقَ المنوال التقليديِّ، ولكنَّه يستطيع بقوَّته الصغيرة المخلصة أن يربك هذه الدولة ويزعزع أركانها مُمارساً ما يُعرف في دائرة معارف العلوم الاجتماعية بالإرهاب الذي يُقصد به ما تمارسه مُنظَّمة محدودة العدد، وتلهبه أهدافٌ واسعة النطاق يضمِّها برنامج متماسك ترتكب من أجله أعمالاً إرهابيةً»[18].

وكان من أبرز عملياتهم الإجرامية التي عمدوا فيها إلى إيقاف محاولات السلاجقة والزنكيين والأيوبيين لتحرير حواضر وقلاع وأراضي المسلمين في الشام من الصليبيين، ما يلي: اغتيال جناح الدولة حاكم حمص في المسجد الجامع 1103م، واغتيال الأمير مودود في دمشق عام 1113م، وكان الأمير مودود هو الحاكم السلجوقي للموصل، وقد كان سبب قتل الحشاشين لمودود أنه كاد أن يحدث نهضة للمسلمين بعد انتصاراته المتوالية على الصليبيين، ويحرر مدناً مسلمة في العراق والشام؛ فكاد له الحشاشون المعادون للإسلام وكمنوا له حين «خرج مودود لصلاة الجمعة، فلما صلى وانصرف، فبينما هو في صحن الجامع وثب عليه إنسان فضربه بسكين، فحُمل إلى بيت طغرلتكين فمات في بقية يومه، وكان صائماً ولم يفطر، وقُتل قاتله. قال: ولما قُتل كتب ملك الفرنج إلى طغرلتكين: إن أمةً قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، حقيق على الله أن يبيدها»[19]، وكان لهم يد في اغتيال البرزقي حاكم الموصل في المسجد الجامع في 1126م، واغتيال الوزير السلجوقي بوري في عام 1131م، «وبظهور صلاح الدين كمهندس للوحدة الإسلامية وحامٍ للعقيدة السلفية وبطل للحرب المقدسة قد أدى إلى جعله في أول الأمر في موقف العدو الرئيسي للحشاشين»[20]، وحاولوا اغتياله عدة مرات فنجاه الله منهم.

أما في عصر اضمحلالهم، وبعد أن دمرهم المغول ثم الظاهر بيبرس؛ فقد نحوا إلى التهدئة؛ ففي أول الأمر اقتاتوا على سمعتهم السابقة، و «استطاع رؤساء الحشاشين أن يجدوا وسيلة للاستفادة من شهرتهم ذائعة الصيت؛ إذ استطاعوا تحت التهديد بالاغتيال أن يحصلوا على أجعال مالية من الحكام المسلمين والمسيحيين على السواء... وعند وصول الإمبراطور فريدريك الثاني إلى فلسطين 1227م في حملة صليبية أحضر هدايا لهم قيمتها 80 ألف دينار لتأمين وجوده من الحشاشين»[21].

ثم انتهى بهم الأمر إلى التصالح والخمود نتيجة ضعفهم الشديد حينئذٍ.

داعش:

أقام التنظيم دولة شكلية في العراق حين انسحب الجيش العراقي من أمام كتائب قليلة من التنظيم في الموصل وترك له عتاداً هائلاً، وأسفر الانسحاب الدراماتيكي عن زحف سريع لقوات داعش حتى مشارف العاصمة العراقية، حيث توقف دورها عند هذا الحد.

وأعلن التنظيم عن دولته، وشرع في تهجير بعض الأقليات غير المسلمة، وأقام الحدود الشرعية في المناطق التي خضعت له (مع غبن وظلم في طريقة تنفيذ تلك الحدود؛ إذ استخدمت أداة لتصفية مخالفين لداعش في الرأي وقيادات مقاومة ضد الميليشيات الطائفية)، ثم انتهى إلى تصفية كثير من العناصر المناوئة للنظام العراقي.

وعلى المنوال ذاته سار في طريقه بسوريا إذ أمكن له تصفية الثورة السورية وإضعاف جميع فصائلها التي لم تحظَ بتسهيلات عسكرية أو لوجيستية كتلك التي حظي بها التنظيم، الذي أفسح له المجال أيضاً للاستيلاء على مناطق إستراتيجية كآبار النفط ومصافيها.

وقد نفَّذ التنظيم عمليات اغتيالٍ ممنهجة ضد كلِّ مَن يمثل خطراً على الأنظمة العراقية والسورية الموالية لإيران، وقدم مبرراً لتشكيل حرس ثوري عراقي (ميليشيا الحشد) طائفي تماماً بخلاف الجيش العراقي الذي تراجع دوره، وكذلك دمغ الثورة السورية بالإرهاب، وهو ما أبقى النظامين العراقي والسوري قائمين. كما أسهم بدور سلبي في ليبيا، وأفغانستان، وأسهم في تشويه صورة المسلمين في أوروبا، وقدم مبررات لاضطهادهم ويسَّر الطريق أمام القوى اليمينية الصاعدة في أوروبا المناوئة للإسلام.

العلاقات مع القوى المعاصرة

فرسان المعبد:

يتعذر الإلمام بعلاقات الفرسان بالقوى المعاصرة لها في هذه السطور، ذاك أن تاريخ الفرسان ممتد على مدى نحو ألف عام؛ إذ لم ينتهِ دورهم بعدُ فلا يمكن حصر علاقات امتدت منذ الحملة الصليبية الأولى أوائل القرن الحادي عشر الميلادي إلى الآن، من الصدام مع صلاح الدين الأيوبي إلى احتلال العراق قبل عشرين عاماً، ولا ما نجم عنها من تشظي كثير من المنظمات العسكرية التي تغذت على فكر وطريقة وأسلوب الفرسان كأنهم أبناء للفرسان الأوائل، مثل بلاكووتر وجيش المسيح وغيرهما، لكن يمكننا القول باختصار: إن فرسان المعبد وأشباهه من التنظيمات حققت معادلة فريدة من نوعها، وتجربة ندر أن تحدث لمنظمة قامت على يد 9 فرسان في عام 1119م ولم يزل يحكمها مقدَّم لها هو الرئيس رقم 78، لم يزل يقوم بدوره برعاية كنسية ونصرانية لم تنفك عن منظمته على مرِّ تلك القرون الطويلة، اعتدى فيها الفرسان على المسلمين العزل في الشام وسواحل المتوسط وجزره، واشتبكوا مع الأيوبيين والعثمانيين، وخاضوا معهم معارك طاحنة، وهابتهم حتى ملوك أوروبا. ويذكر ابن شداد طرفاً من هذا التعاظم فيقول: «اشترط الملك ريتشارد على الملك العادل لعقد الصلح أن يرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والإسبتارية ببعض القرى»[22]. وانحنوا للعواصف أحياناً فتصالحوا مع ملوكٍ أوروبيين حاربوهم إذ تعاظم دورهم، ونحوا باتجاه العمل الأهلي الصحي وغيره، وعادوا مدججين بأقوى الأسلحة التي تتملكها منظمة خارج نطاق الجيوش النظامية (بلاكووتر)، ومارسوا أعمالاً متنوعة، منذ انخرطوا في تكوين محفل البنائيين الأحرار (الماسونيين)، فمارسوا كل الألاعيب والفخاخ والمكائد بكل تنوعاتها وتشعباتها، وظلوا على الدوام خارج سيطرة الحكومات والأنظمة والملوك.

الحشاشون:

تبرهن جميع الشواهد التاريخية على أن طائفة الحشاشين ما كان لها همٌّ في سبيل سيادتها سوى استهداف السواد الأعظم للمسلمين (أهل السنة)، ولم يألُ الحشاشون جهداً في طريقهم لإضعاف المسلمين، ومناصرة أعداء الإسلام عليهم، وللاختصار نورد بعض النقولات في هذا الخصوص تشهد على طبيعة العلاقات التي حكمت سلوك الحشاشين مع غيرهم من القوى المعاصرة:

«أرسل مقدم الإسماعيلية الملاحدة إلى التتر يعرِّفهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفر به للوهن الذي صار إليه»[23].

«في القرن الثالث عشر الميلادي أصبح الحشاشون أنفسهم تابعين لفرسان الإسبتارية»[24].

«نعرف - مثلاً - أنهم كانوا يشعرون بالعداء تجاه بيت زنكي حاكم الموصل؛ فحكام الموصل كانوا دائماً من أقوى الأمراء الأتراك، وكانوا يسيطرون على خطوط المواصلات بين سوريا وفارس، ولهم علاقات وديَّة مع الحكام السلاجقة في الشرق، وبذلك كانوا يمثلون خطراً دائماً على وضع الحشاشين... وفي عام 1148م ألغى نور الدين بن زنكي الأذان الشيعي في حلب... وتصاعد الموقف إلى إعلان الحرب على الملاحدة، وفي هذه الظروف ليس مما يدعو إلى الدهشة بالطبع أن نرى كتيبة من الحشاشين تحارب إلى جانب بريموند حاكم أنطاكية ضد الزنكيين»[25].

«من الواضح أن ظهور صلاح الدين القوي في سوريا السُّنية المسلمة وانتهاجه سياسة توحيد المسلمين قد جعل منه خصماً خطيراً للحشاشين»[26].

«ولا نعرف إلا حالة واحدة سقط فيها ضحية من الإفرنج تحت خناجر الفدائيين ونعرف عن حالتين على الأقل حدث فيهما اشتباك بين قوات الحشاشين والجيوش الصليبية، ولكن من ناحية أخرى كان لاجئو الحشاشين من حلب وبانياس يلجأون إلى جانب الإفرنج، كما أن تسليم قلعة بانياس إلى الإفرنج وليس إلى الحكام المسلمين عندما هجرها الإسماعيليون (الحشاشون) كان على أرجح تقدير مجرد مسألة جغرافية»[27].

«ويذكر لنا المؤرخ وليم الصوري، أن شيخ الجبل الذي حرص على التقرب من الصليبيين كان قد أرسل أحد رجاله واسمه عبد الله محملاً بعروض سرية أهمها أنه لو تنازلت الداوية عن ذلك المبلغ الذي تتقاضاه من الطائفة؛ فإن الإسماعيلية على استعدادٍ تامٍّ لاعتناق الديانة المسيحية»[28].

داعش:

يُنظَر لداعش على نطاق واسع على أنها منتَضج استخباري نجح في إفشال كل المشاريع النهضوية في العالم العربي، وأذكى نار الإسلاموفوبيا في أوروبا والعالم، واتُّخذ خنجراً في خاصرة العمل والدعوة الإسلاميين.

وقد تبدَّى ذلك ليس من النتائج التي حققها هذا التنظيم بتسديد ضربات موجعة إلى أهل السنة فحسب، بل في الطرق المشبوهة التي كشفت عن علاقاته بدول كالولايات المتحدة، والنظام العراقي، والنظام الإيراني، وفرنسا، وبعض ميليشيات ليبيا؛ فلقد كانت عمليات (تحرير الأسرى) التي تمَّت على سجون شديدة الحراسة جداً في العراق وسوريا مشبوهة (النظامان السوري والعراقي)، وقد كانت عمليات نقل أفراد التنظيم بعد انهزامه إثر تدمير المدن السُّنية في العراق وسوريا دون أن يتعرض أفراده للأذى حال انسحابهم مشبوهاً (الولايات المتحدة وسلاحها الجوي)، ولقد كانت التسهيلات التي مكنته في تجنيد شباب أوروبيين أيضاً مشبوهة كذلك عملياته في أوروبا (تفجرت لاحقاً قضية تمويل إحدى الشركات الفرنسية الكبرى للتنظيم)، ولقد كانت علاقاته الوثيقة بميليشيات ليبية موالية للكيان الصهيوني كذلك مشبوهة. ولهذا رغم أن التنظيم يبدو في ظاهره أنه (جهادي سلفي)؛ فإنه في الحقيقة مارس دوراً باطنياً لا يقل ضرراً عمَّا أحدثه الحشاشون في وقت ما.

وبعد:

فإنه إذا كان النطاق الزمني لنشاط فرسان المعبد الطويل، والحشاشين المتوسط، وداعش القصير، واختلافهم العقدي والمذهبي، وميادين النشاط متباينة كثيراً بين تلك النماذج التي مثلت خناجر وحِراباً غرست في ظهر هذه الأمة، إلا أن ثمة قواسم مشتركة جمعت بين شتاتها، وهي: العمل السري المنظم، والاتصالات المشبوهة، والباطنية الصابغة لعملها، إذ الظواهر تبدو أحياناً (إنسانية) كالإسبتارية، أو (جهادية) كداعش، أو فدائية إمامية كالحشاشين؛ فإن الكل قد حقق ما يرجوه كلُّ عدو لهذا الدين، سواء أكان بطريقة مباشرة واضحة العداء كفرسان المعبد، أو مستترة تماماً باسم الدفاع عن الإسلام وشريعته كداعش، لكن تبدو المحصلة واحدة والأعمال بخواتيمها.

وفي نقاط يمكننا الخلوص إلى استنتاجات تخص تلك الفِرق الثلاث التي أضرت بالعالم الإسلامي على مرِّ العصور على اختلاف درجات هذا الضرر ونطاقاته:

ثمة تخادم واضح ما بين فرسان المعبد وطائفة الحشاشين، تشهد عليه كل المعارك والوقائع التي جرت إبَّان الحملات الصليبية المباشرة، إذ قاوم الحشاشون كثيراً من قادة المسلمين الذين يشكلون خطراً على الصليبيين والفرسان، وأبرزهم صلاح الدين الأيوبي، والأمير مودود، وكلاهما سعى لتوحيد المسلمين وحشد الجيوش لإزاحة الصليبيين، والفرسان، كما أن الحادثة الوحيدة التي اغتال فيها الحشاشون قائداً صليبياً، هو ملك بيت المقدس كونراد، كان غرضها إيقاف تفاوضه مع السلطان صلاح الدين، بإيعاز من ريتشارد ملك إنجلترا.

أضرَّت جماعة فرسان المعبد وأخواتها بالمسلمين ضرراً بالغاً تمثل في القتال ضد المسلمين الأيوبيين والمماليك والعثمانيين وبقايا الخوارزميين، فقاتلوا في الشام، وكانوا القوة الضاربة للحملات الصليبية، فارتكبوا المذابح في الأرض المقدسة، وبلاد الشام، إلى أن انهزموا في الحملة الصليبية السابعة في معركة المنصورة بمصر، وافتدوا الملك الفرنسي لويس التاسع الذي كان قد وقع أسيراً في أيدي المسلمين، احتلوا طرابلس الغرب وصقلية ومالطا ورودس، وأسهمت سيطرتهم على بعض سواحل المسلمين في البحر المتوسط وجزر إستراتيجية فيه في منع العثمانيين من نجدة مسلمي الأندلس، وهو ما أسهم في سقوطها.

بل إن سقوط الأندلس نفسه قد ساهمت فيه جماعات الفرسان الدينية؛ فأول جماعة دينية محاربة أسسها الملك الأراغوني ألفونسو الأول، وقد خص في وصيته بنصيب من مملكته المحاربة للمسلمين في الأندلس كلّاً من الإسبتارية والمعبد باعتبارهم حماة النصرانية في بيت المقدس[29]، وأنشأ الملك رامون الثالث فرعاً للداوية في الأندلس بعد أن اعتنق مبادئهم[30]، ومنحها ابنه رامون بعض الحصون، وقاتل الداوية من ثَمَّ دولة الموحدين فصارت رقعة قتلهم ممتدة عبر الجغرافيا والتاريخ الواسعين.

ولم تزل جرائم الفرسان ممتدة إلى اليوم، كما أن عملهم تحت غطاء العمل الإغاثي والخيري في إفريقيا وآسيا قد ساعد المنظمات التنصيرية التي تعمل تحت إمرتها أو تتعاون معها في جهودها لتنصير فقراء ولاجئي المسلمين.

مهَّد تنظيم داعش لسن جملة من القوانين والإجراءات المعادية للمسلمين في أوروبا بتبنيه لعدد من العمليات الانتحارية التي لم تحقق أي هدف سياسي مطلقاً، كما لم تستند على أي أساس شرعي، وهو ما أثار الشكوك كثيراً حول الجهة التي يخدمها هذا التنظيم. كما تغذَّت الحركات اليمينية على هذا السلوك الدموي للتنظيم، وربح جولات سياسية وإعلامية وقفزت الأحزاب اليمينية في كثير من البلدان الأوروبية المؤثرة لا سيما ألمانيا وفرنسا وعديد من البلدان الأخرى.

لم يكن دور الحشاشين كغيرها من الفرق الباطنية المعادية للإسلام مجهولاً لدى الفرسان خصوصاً، والصليبيين عموماً في عصر ازدهارهم ولا حتى حين تراجع تأثيرهم لحساب طوائف باطنية أخرى، كالنصيرية والدروز وغيرهما، وللمفارقة؛ فإن أحد أهم الكتب المعاصرة التي أُلِّفت حول الحشاشين في هذا العصر هو لمتخصص في هذه الطائفة، وهو في الوقت عينه مهندس تقسيم ديار المسلمين، وصاحب مشروع الكونغرس الأمريكي لتقسيم العالم العربي إلى دويلات على أسس طائفية (1993م)، وهذا الكتاب يفيض تقديراً وإشادة بالحشاشين، باعتبارهم ثائرين ضد الظلم السني! هذه الإشادة ليست بالضرورة نابعة من تقدير للحشاشين على أنهم (ثائرون)؛ وإنما عرفاناً بدورهم في كسر شوكة المسلمين، واستحضاراً لهذه التجربة التي تمت دراستها بدقة لتكرارها في كل بلد إسلامي يراد تمزيقه ومنعه من التحرر والاستقلال.

علاقة فرسان مالطا الحاليين والحركة الماسونية، بفرسان المعبد ليست محل شك بين الباحثين، لكن علاقتها بالفِرق العسكرية المعاصرة هي التي يسعى الطرفان إلى عدم تسليط الضوء عليها؛ بَيْد أن شواهد عديدة تثبت صلة فرسان مالطا (أو المعبد) بشركات الأمن الغربية الضخمة كبلاكووتر، فعلى سبيل المثال يورد جريمي سكاهيل في كتابه الشهير بلاكووتر ما يدلل على هذه الصلة، فـ «المفتش العام في وزارة الدفاع الأمريكية جوزيف شميتز أدرج في سيرته المهنية الرسمية، بافتخار عضويته في فرسان مالطا ذات السيادة»[31]، وجدير بالذكر أن «فرسان مالطا ذات السيادة هي ميليشيا مسيحية شُكلت في القرن الحادي عشر، قبل الحملة الصليبية الأولى، وآلت على نفسها مهمة الدفاع عن (الأراضي التي استولى عليها الصليبيون من المسلمين). ويتفاخر فرسان مالطا اليوم بكونهم (تابعين ذوي سيادة للقانون الدولي، ولهم دستورهم الخاص، وجوازات سفرهم، وأختامهم، ومؤسساتهم العامة) و (علاقات دبلوماسية مع 94 دولة)»[32]، و «ألقى محاضرة للاتحاد الفيدرالي لفرسان مالطا في كنيسة بريمر في بيتيسدا ميرلاند أمريكا في فبراير 2005م»، «وفي أغسطس 2005م أبلغ شميتز موظفيه رسمياً أنه سيغادر البنتاغون للعمل مع بلاكووتر. وتماماً في الوقت الذي شرع شميتز في عمله في بلاكووتر، اصطادت الشركة عقوداً حكومية مربحة»[33]. والأمثلة عديدة على هذا الاتصال القديم الحديث، (الكنسي - الخدمي - العسكري) بين فرسان المعبد، مالطا، بلاكووتر، وغيرها من فرق الموت التي تنشط في أكثر من مائة دولة في العالم[34].

بدا أن الفرسان والحشاشين كليهما لا يتمسكان كثيراً بعقائدهما، فَعرْض الحشاشين باعتناق النصرانية المذكور آنفاً لم يرضِ الفرسان لأنه كان سيلغي الإتاوة التي يدفعها الحشاشون لهم حينئذٍ، كما اتضح كذلك أن الفرسان حين حاكمهم فيليب الرابع ملك فرنسا 1307م، وتبعه البابا كلمنت الخامس بإصدار مرسوم يدعو ملوك أوروبا إلى اعتقالهم؛ فإنه تبدى من خلال تلك المحاكمات - إن صدقت - أنهم كانوا يبصقون على ما يعتقدون أنه قبر المسيح وأمه، وكانوا يسبونهما ويعبدون إلهاً يدعى بافوميت وأوزوريس، وكانوا يقترفون آثاماً كبرى ومنها الشذوذ الجنسي. ومعلوم أنهم قد اعتنقوا الكابالا، واتضح كذلك أن الحشاشين يشاطرونهم هشاشة التدين هذه، إلى الحد الذي أبدوا فيه استعدادهم للتحول إلى النصرانية من أجل تخفيض أو إلغاء الأتاوة التي فرضها عليهم الفرسان!

لا يرى كثيرٌ من الباحثين أن تنظيم داعش هو فرقة باطنية؛ وإنما هو مجرد تنظيم واقع في الغلو في التكفير ووالغ في الدماء، يفتقر إلى المكنة العلمية الشرعية وحسب؛ غير أن الواقع أن التنظيم يحاكي الفرق الباطنية تماماً من حيث خفاءُ أهداف قاداته ومحركيه الحقيقيين؛ فرغم أن السواد الأعظم من أتباعه يمكن دمغهم بالغلو والتطرف، إلا أن قادته لا يمكن اختزال سلوكهم الإجرامي هذا في مجرد الإخفاق في تحقيق العدل وإقامة دولة إسلامية بسبب غلوٍّ أو قلَّة فقه أو سذاجة عقلية؛ فجُلُّ ما قام به التنظيم قد حقق كثيراً من مخططات أعداء الإسلام، فعلى سبيل المثال:

هناك مشكلة أن قسماً كبيراً من الجيش العراقي هو من أهل السنة، ولا يطيب لإيران التي تحكم العراق اليوم أن يبقى الجيش على هذا التكوين؛ فكان لزاماً إنشاء الحرس الثوري العراقي أي ميليشيات الحشد الطائفية تماماً: وقد وفَّرت داعش هذا المبرر لتكوينها بانسحاب الجيش وتصدير وتقوية الميليشيا.

هناك مشكلة تزايد أعداد المسلمين بصورة كبيرة جداً في أوروبا، وتزايد الحاجة لسن قوانين عنصرية ضد المسلمين: وقد حلَّت داعش هذه المشكلة بتقوية اليمين الأوروبي وتهيئة الشعوب لتقبل هذه العنصرية بسبب عمليات داعش الممنهجة لتحقيق ذلك الهدف.

هناك مشكلة تخص رغبة الشعب السوري في إنهاء الطائفية الحاكمة في البلاد، والجاثمة على صدره لأكثر من نصف قرن: قامت داعش بتصفية كل الحركات والقوى المناوئة للنظام السوري، ورفعت عن الليبرالية الغربية الحرج في مساندة هذا النظام وإعادة تعويمه.

كادت جهود مخلصة في ليبيا تسفر عن وحدة كامل التراب الليبي: لكن نجح التنظيم في تكريس الانقسام مجدداً، وفصل الخليج النفطي عن العاصمة.

أخيراً:

تظل الحاجة ملحَّة دوماً لدراسة مثل هذه الفرق والتشكيلات التي تمثل ضرراً بالغاً على الأمة، وتعرقل نهضتها، وتوقف مسيرة مصلحيها، تحقيقاً لاستبانة سبيل المجرمين، واتقاءً لشرورها ومخططاتها.


 


[1] تسمية عربية محرفة عن لفظة Hospitallers (فرسان المستشفى) أسسها بعض تجار مدينة أمالفي الإيطالية على أنها جمعية (خيرية) قرب كنيسة القيامة في بيت المقدس للعناية بفقراء الحجاج الأوروبيين. ثم دخلوا تحت النظام الديري البندكتي وصاروا يتبعون البابا مباشرة، وعند وصول الصليبيين إلى بيت المقدس وحصارها، قدم فرسان الإسبتار مساعدات هامة لهم. جوناثان سميث، الإسبتارية فرسان القديس يوحنا في بيت المقدس وقبرص، ترجمة العميد صبحي الجابي، ص7.

[2] وَفْقاً لوليم الصوري المؤرخ المعاصر للحملة الصليبية الأولى في كتابه تاريخ الحروب الصليبية.

[3] د. عاشوري قمعون، الدور الصليبي لهيئة الداوية في معركة حطين في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، المقدمة.

[4] يتمثل في شراء المناصب الدينية بالمالي (السيمونية)، وزواج رجال الدين، وتدخُّل الحكام في اختيار رجال الكنيسة. انظر: د.محمد صالح منصور، الأوضاع الدينية في غرب أوروبا حتى قيام الحركة الصليبية، ص 128.

[5] سنشير إلى فرسان المعبد لاحقاً على أنه تعبير عن سائر التنظيمات الرهبانية/العسكرية نظراً لتداخلها فيما بعدُ في ضربات تلقتها من المسلمين وبعض الملوك الأوروبيين.

[6] يعني: الفاطميين.

[7] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/178).

[8] المصدر السابق.

[9] الشهرستاني: الملل والنحل، ص195، إذ يترجم الشهرستاني عن الصباح كتابه الفصول الأربعة.

[10] الشهرستاني: المصدر السابق نفسه باختصار.

[11] برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام، ص189.

[12] برنارد لويس: الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام، ص189.

[13] أورخان محمد علي: الماسونية وفرسان المعبد، قصة الإسلام، نقلاً عن كتاب هارون يحيى: الماسونية العالمية Harun Yahya Global masonluk Kultur yayclk. Ist. 2002م. – نقلاً عن Christopher Knight and Robert Lomas The Hiram Key Arrow Books 1997م، ص 37.

[14] الكابالا: مأخوذة من الكلمة العبرية قَبِل؛ أي أن الكهنة اليهود قد قبلوا تلك العقيدة، وهي عبادة الشيطان الذين يرون أنه تعرض للظلم - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - ويتعاطون السحر والشعوذة، والكابالا مليئة بالرموز السحرية والطلاسم وغيرها وهي دين الماسونية المتبع.

[15] أورخان محمد علي: مصدر سابق.

[16] د. عاشوري قمعون: مصدر سابق، المقدمة.

[17] برنارد لويس: مصدر سابق، ص189.

[18] برنارد لويس: مصدر سابق، ص190.

[19] النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب (7/323).

[20] برنارد لويس: مصدر سابق، ص165.

[21] المصدر السابق، ص174.

[22] ابن شداد: النوادر السلطانية، ص317.

[23] ابن الأثير: الكامل في التاريخ (10/445).

[24] برنارد لويس: المصدر السابق، ص175.

[25] المصدر السابق، ص160 - 161.

[26] المصدر السابق، ص167 - 168.

[27] المصدر السابق، ص158 - 159.

[28] د. نبيلة إبراهيم مقامي: فرق الرهبان الفرسان في بلاد الشام، ص 117 - 118 نقلاً عن وليم الصوري، الحروب الصليبية (2/391).

[29] د. أحمد جميات: دور البابوية والهيئات الدينية في إنهاء الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية نقلاً عن يوسف أشياخ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (2/2).

[30] المصدر السابق نقلاً عن يوسف أشياخ (1/501 - 502).

[31] جريمي سكاهيل: بلاكووتر... أخطر منظمة سرية في العالم، ص371.

[32] المصدر السابق، ص 371.

[33] المصدر السابق، ص 395- 396.

[34] يراجع في ذلك، جريمي سكاهيل، الحرب القذرة، التعريف بالكتاب.

 


أعلى