المؤمنة الفاضلة لا تبادر إلى هدم بيت الزوجية فإنه من أقدس المبادئ في حياتها، لاحظ أنَّ امرأة فرعون حين سألت ربها الجنة إنما سألت أنْ يكون لها بيت فيها، البيت الذي يمثل للمؤمنة شرفها وكرامتها وسلطانها ومأواها وسترها، ولم تطلب في الجنة شيئاً غير ذلك.
قص الله تعالى علينا في كتابه عن آسية بنت مزاحم امرأة فرعون رضي الله عنها في
مشهدين من مشاهد الزوجية:
أما
المشهد الأول:
فهو فرحها بالتقاط موسى الوليد واستِوهَابها إيَّاه من فرعون وتبنيها إيَّاه
وتربيتها إيَّاه في قصر فرعون وأبَّهته، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: ٩] في مشـهد من مشاهد الأمومة
التي فطر الله عليها النساء، فصرن بهذه الغريزة منبعاً للحنان ووجهاً لجمال الحياة.
وأما
المشهد الثاني:
فهو ثباتها على الإيمان مع كفر زوجها وسعيه الدؤوب في الاعتداء على أهل الإيمان
وحربهم وصدِّه الناس عن الإيمان وحمله إياهم على تأليهه وعبوديته، قال تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١].
وكما أشرنا إلى بعض العبر المستفادة من المشهد الأول في المقالة السابقة، فيحسُن
أنْ نبلغ تمامها في هذه المقالة، وبالله التوفيق.
استقامةٌ في بيوت منحرفة:
قال قتادة:
«كان
فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فوالله ما ضر امرأتَه كفرُ زوجها حين أطاعت ربها؛
ليعلموا أنَّ الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لا يُؤاخِذ أحداً إلا بذنبه»[1].
أيْ أنَّ كل امرأة هي المسؤولة الأولى عن ديانتها واستقامتها وثباتها على ذلك؛ مهما
استحكمت حولها الظروف الصعبة، ولقد كان فرعون من القوة في دفع الناس إلى الكفر
بالله تعالى بمكان؛ فكيف بأهل بيته ومن هم تحت يده! لكن الإيمان عقْدٌ بين العبد
وربه، عقْدٌ بين الإنسان على هذه الأرض وبين الله في السماء، عقْدٌ ليس فيه وسطاء
ولا شركاء يؤخذ برأيهم في هذا العقد أو يُتطلب رضاهم فيه.
إنَّ للإيمان شأن أعظم من العلاقات والروابط، فلذلك اعتنت آسية بنت مزاحم رضي الله
عنها بعقدها مع الله، وأخلصت له العبودية والطاعة، وقدمتها على علاقتها بزوجها
الكافر، وهي مدركة أنَّ إيمان القلب لا يستطيع أنْ ينتزعَه أحد، كائناً من كان، إلا
الله تعالى. وما قيمة هذه القصور العالية الملأى بنوافذ الشر وأوعية الشهوات إذا
استقر الإيمان في القلب؟ ما قيمة الأسقف المرتفعة والجدران المزخرفة والملابس
المطرزة والعقود المرصعة أمام سجدةٍ لله وقيامٍ بين يديه؟ وأين تقع أصوات الغناء
والمعازف المطربة من التلذذ بمناجاة الله ودعائه بأسمائه وصفاته؟ وهل تعقد المرأة
العاقلة مقارنة بين هذه وتلك، بين السماء والقاع؟ فذلكم هو الإيمان بالله إذا استقر
في القلب وانعقدت عليه أوردته وشرايينه، فإنه لا يتزحزح عن قلب المرأة ولو كان
زوجها منحرفاً، بل ولو كان زوجها هو فرعون نفسه! لقد كانت آسية على هذا الثبات.
لكن بعض الروايات تفيد أنها أخفت الإيمان بقلبها ولم تظهره حتى كُشف أمرها، كما في
رواية أبي العالية التي جاء فيها:
«فازدادت
إيماناً ويقيناً وتصديقاً، فأطلع الله فرعون على إيمانها، فقال للملأ: ما تعلمون من
آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد غيري. فقالوا له: اقتلها
فأوتِدْ لها أوتاداً فشد يديها ورجليها، فدعت آسية ربها فقالت: ربِّ! ابنِ لي عندك
بيتاً في الجنة»[2].
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
«فكشَف
لها عن بيتها في الجنة»[3].
وقال سلمان الفارسي:
«كانت
امرأة فرعون تعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة»[4].
وإخفاؤها يأتي في السياق الطبيعي لامرأة تخشى على نفسها وإيمانها من بطش زوج جبار،
ويأتي في السياق الطبيعي لامرأة ما زالت ترى للزوجية حرمتها وللبيت احترامه، فهي
تصبر على البقاء في بيت الزوجية وتفي بمتطلباته الواجبة وتخفي إيمانها، ويسميها
الله تعالى في القرآن باسم الزوجية، ولا تزرع الألغام في بيت زوجها لتنتقم منه لأنه
يخالفها في اعتقادها؛ فكيف بما هو دون ذلك، فإنَّ بيت الزوجية مبدأ من المبادئ أهم
من كونه جُدراً وأعمدة وسقفاً؛ يُظِل من الشمس ويدفع قسوة البرد ويستر من العري
والانكشاف.
ولما ظهر أمرها وعمد فرعون إلى تعذيبها وإلحاق الأذى النفسي والجسدي بها دعت ربها
أنْ ينجيها من فتنته وعمله خوفاً على نفسها من الفتنة في الدين، فقالت: {رَبِّ
ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١]. فوصفها الله بالإيمان
والتضرع لربها، وسؤالها إياه أجلَّ المطالب، وهو دخول الجنة ومجاورة الرب الكريم،
ثم سؤالها إياه أنْ ينجيها الله من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة، ومن فتنة كل ظالم،
فاستجاب الله لها، فعاشت في إيمان كامل، وثبات تام، ونجاة من الفتن[5].
وقبض الله روحها بعد أنْ نالها من التعذيب ما نالها، وصارت مثلاً للمؤمنين في
ثباتها على الإيمان في البيئات المنحرفة، ومثلاً للمؤمنات في المحافظة على بيت
الزوجية بوصفه مبدأً إيمانياً وعلامة أخلاقية، ولذلك جاءت هذه الآية في سورة
التحريم التي اعتنت بموقع المرأة من متطلبات الزوجية، وأشاد النبي صلى الله عليه
وسلم بإيمان آسية وعقلها حين قال:
«كمُل
من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإنَّ
فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[6].
الرابطة الزوجية مبدأ:
لم يرد ما يفيد طلب آسية الطلاق من فرعون، وغاية ما ذُكِر هو دعاؤها بأنْ ينجيها
الله منه ومن عمله، فقد فوضتْ أمرها إلى الله تعالى في أنْ يختار لها الخلاص من
الزوج الكافر، ولم تلجأ إلى خيار طلب الطلاق، ذلك أنَّ بيت الزوجية له شأن عظيم،
ليس في الإسلام فقط، بل في الأمم التي قبلنا ممن اتصل بها شيء من أنوار النبوة
فاستفادت منه في حياتها. ألا ترى أنَّ الله تعالى وصف عزيز مصر بسيادته على زوجه
حين قال: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءًا إلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:
25].
فقد كانت الرابطة الزوجية على قدر كبير عند العاقلات في تلك المجتمعات. يقول محمد
رشيد رضا:
«وكان
النساء في مصر يُلقِّبن الزوج بالسيد، واستمر هذا إلى زماننا»[7].
وهو أدب أثبته القرآن وتعلمته أمهات المؤمنين ونساء الصحابة الكريمات، ومَن تبعهن
من فضليات نساء المؤمنين.
والمقصود أنَّ المؤمنة الفاضلة لا تبادر إلى هدم بيت الزوجية فإنه من أقدس المبادئ
في حياتها، لاحظ أنَّ امرأة فرعون حين سألت ربها الجنة إنما سألت أنْ يكون لها بيت
فيها، البيت الذي يمثل للمؤمنة شرفها وكرامتها وسلطانها ومأواها وسترها، ولم تطلب
في الجنة شيئاً غير ذلك.
والمؤمنة لا تبادر إلى الاختلاع من زوجها ومفارقته إلا في أضيق الظروف، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم :
«أيما
امرأة سألت زوجها طلاقاً في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة»[8].
إذن فآسية بنت مزاحم وهي تتلظى بنار فرعون المتجبر عمدت إلى أربع عبوديات:
عبودية الثبات على الإيمان في البيت الكافر والمعادي لأهل الإيمان.
عبودية الحفاظ على بيت الزوجية طالما بقيت على قيد الحياة.
عبودية اللجوء إلى الله بالدعاء بالنجاة من فرعون وعمله.
عبودية التوكل وتفويض أمر الخلاص من فرعون إلى الله، فهي لم تذكر في دعائها الوسيلة
التي بها تنجو من فرعون، بل اطمأنت إلى اختيار الله لها ما يشاء.
هذه العبوديات التي تسمو بها المرأة وترتقي في مدارج الكمالات، لا تلك التي تنادي
بها (ويتيج
Wittig)
إذ تقول في سياق تحرير المرأة من الرجل:
«لا
يمكن تحقيقه إلا بتحطيم نظام الزوجية (ذكر/أنثى) بوصفه نظاماً اجتماعياً قائماً على
اضطهاد الرجال للنساء، والذي أنتج الاعتقاد في الفرق بين الجنسين كتقنين لهذا
الاضطهاد».
ثم هي تقترح الشذوذ بديلاً مناسباً عن الزواج الفطري[9]،
فتلتقط بعضُ المسلمات - بغفلة منهن - الشطر الأول من فكرة ويتيج
Wittig
دون الشعور بأنها جسر محتوم للشطر الثاني منها. وهي وإنْ كانت تتحدث في سياق مغاير؛
إلا أنَّ من المسلمات مَن تشرَّبنَ هذه الفكرة عبر تلميعها وتحسينها في وسائل
الإعلام والاتصال.
البراءة لا تمنع المروءات:
ولقد أسلمت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ولم يسلم زوجها أبو
العاص بن الربيع إلا متأخراً، ولم ترغب زينب عنه بل اختارت أنْ تنتظره، وظلت على
نكاحها منه حتى أسلم، قال ابن القيم:
«وقد
ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع، وهو إنما أسلم
زمن الحديبية، وهي أسلمت من أول البعثة، فبين إسلامهما أكثر من ثماني عشرة سنة»،
وقال أيضاً:
«ولا
نعلم أحداً جدد للإسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع أحد أمرين: إما افتراقهما
ونكاحها غيره، وإما بقاؤها عليه وإنْ تأخر إسلامها أو إسلامه. وأما تنجيز الفرقة أو
مراعاة العدة فلا نعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بواحد منهما مع كثرة
من أسلم في عهده من الرجال وأزواجهم وقرب إسلام أحد الزوجين من الآخر وبُعْده منه»[10].
ولم يكن انتظار زينب رضي الله عنها هو ما بذلته في سبيل إبقاء بيتها ورباط الزوجية
الذي عقدته، فلقد أظهرت في سائر أيامها ما يدل على فضيلتها وعقلها، فحين وقع زوجها
أسيراً في يد المسلمين في غزوة بدر كانت حينها في بيته في مكة لأنه أبى عليها
الهجرة! فأرسلت في فدائه قلادة من جَزْع كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص،
فلما رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عرفها ورقَّ لها، وذكر خديجة فترحم
عليها، وكلم الناس فأطلقوه وردَّ عليها القلادة، وأخذ على أبي العاص أنْ يخلي
سبيلها، ففعل[11].
ومن ذلك أيضاً ما صنعته في السنة السادسة من الهجرة، حين قفل من الشام بتجارة قريش،
فأخذت سريةُ زيد بن حارثة أموالهم، فأفلَتْ منهم، وقدم المدينة في ظلام الليل إلى
زينب رضي الله عنها مستجيراً بها، فأجارته، وقبِل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
منها وأصحابُه، وسألها أبو العاص أنْ تطلب له من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ردَّ ماله عليه وما كان معه من أموال قريش، ففعلت، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم
أمواله وأموال قريش كلها بعد أنْ رضي الصحابة بذلك، فعاد بها إلى مكة، فأسلم وهاجر
إلى المدينة، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه زينب بنكاحها الأول[12].
فتأملي أيتها الفاضلة كيف تصنع قدوات المؤمنات من أجل الحفاظ على بيوتهن! هذا في
حال اختلاف الدين، الاختلاف الذي يوجب البراءة، لكنه لا يمنع من الفضائل والمروءات.
مرارة الزواج خير من حلاوة التفرُّد:
صبرٌ من نوع آخر، وهو الصبر على مُرِّ الحياة الزوجية وما يكتنفها في بعض الأحيان
من ضروب الفقر والجوع والمرض وتحوُّل النعمة ونحو ذلك مما تصاب به البيوت ابتلاءً
من الله ورِفعَةً في الدرجات وتطهيراً من الذنوب، فيظهر حينها جوهر الزوجة الصابرة،
الزوجة التي تلزم زوجها في الحال البائسة كما لزمته في الحال المرفهة، وتحفظ ودَّه
في الضراء كما ذاقت حلاوته من قبلُ في السراء. ولقد كانت زوج أيوب عليه السلام
كذلك، بل ضربت أروع الأمثلة في الصبر، وذلك حين ابتلي أيوب بفقد المال والأهل
والصحة بعد غنىً وسَعةٍ واجتماعٍ وصحةٍ، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ
إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
41
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
42
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى
لأُوْلِي الأَلْبَابِ
43
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِّعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:
41
-
44].
قال ابن كثير:
«لم
يبقَ من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه، ولم يبقَ له من حال الدنيا شيء يستعين به
على مرضه وما هو فيه غير أنَّ زوجته حفظت ودَّه لإيمانها بالله تعالى ورسوله؛ فكانت
تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة. وقد كان قبل ذلك في مال
جزيل وأولاد وسَعة طائلة في الدنيا فسُلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أنْ أُلقي
على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها، ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي
الله عنها، فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساءً إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه
قريباً»[13].
ومع اختلاف الروايات في سبب حلفه على ضربها؛ إلا أنها تتفق في أنَّ الداعي لذلك
غضبه منها حين قامت بفعل شيء رجتْ أنْ يكون فيه خدمة لزوجها أو شفاء له. قيل:
«باعت
ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه، فلامها على ذلك وحلف إنْ شفاه الله تعالى ليضربنها مائة
جلدة»[14].
والمقصود هنا هو النظر إلى ثماني عشرة سنة من البلاء بعد العافية، والفقر بعد
الغنى، والوحشة بعد الإيناس، ثماني عشرة سنة أمضتها زوجة أيوب صابرة منتصبة لخدمة
زوجها ملازمة له.
فأي عذرٍ لمن تمزَّق قلبها لأجل فوات كماليات؟
وكيف تتشوف المرأة إلى هدم بيتٍ لأنه لا يجاري الموضات والمستجدات؟
وهل طباع الزوج كافية لأنْ تكون سبباً في جفاء المرأة لزوجها ومفارقتها إياه؟
فيا حسرة على نساء المؤمنين وبنات المسلمين إذا لم يتربوا على موائد القرآن التي
تهديهم إلى أحسن العيش وأهنئه وأسعده!
ها هي زوجة أيوب عليهما السلام تقف مع زوجها في أحلك الظروف وأشد الأزمات، تمنحه
هدوء النفس وطمأنينة البال، تسند إليها ظهره وتستر عجزه، تخفي أحزانها لتكتم سره،
فكانت مكافأة الله العاجلة لها أنْ أعاضها بعد ذلك بالسعادة والغنى والسعة في عصمة
زوجها.
إنَّ عرض قصص القدوات الصالحات هذه يوضح لنا الطريقة التي كنَّ ينظرن بها إلى مبدأ
الزواج وحرمة البيوت وشأن الأزواج على اختلاف مذاهبهم وطباعهم وأديانهم، فيتعبَّدن
الله تعالى بالحفاظ على هذا الرباط واحترامه وتقديمه على رغباتهن وشهواتهن.
وإنَّ على المرأة المسلمة اليوم أنْ تحرر عقلها من ثقافة بيت العنكبوت التي صنعتها
وسائل الإعلام المضلِّلة عن طبيعة الحياة الزوجية وقيمة الزواج في حياة المرأة،
والتي شيدت - على مدى عشرات السنين - المفاهيم الأجنبية للزواج وبيت الزوجية في
مجتمعات المسلمين. تلك المفاهيم التي لا تؤمن بالله ولا تستهدي بأنوار الوحي؛ وإنما
تتبع أهواء النفوس وشهواتها ووحي الشيطان ولو كان ذلك على حساب تدمير المجتمع
وبيوته وأولاده.
وإنَّ على المرأة المسلمة اليوم أنْ تُحرِّرَ قلبها ووجدانها من تأثير وسائل
الاتصال التي تزيف الواقع بتلميع يوميات اللاتي يزعمن التخلص من أَسْر الحياة
الزوجية. إنها مباهج مؤقتة وسعادة مزيفة تخادع بها المرأة نفسها، ويزين لها الشيطان
ذلك مدةً محددة ثم يتركها للشقاء وحدها؛ فإما أنْ تنخلع مما تلبَّست به من البؤس
والشقاء وتعود كما كانت، وإما الولوج من بوابة التحـرر المزعـوم إلى ما لا منتهى له
من الانحـراف، ولا شـيء يسـلك بالمـرأة - والرجل أيضاً - في المسلك المرضي إلا
اتباع الوحي الإلهي، الذي حث على حفظ البيوت واحترام مبدأ الزوجية، وإنَّ المكافأة
الكبرى والجائزة العظمى لتنتظرها يوم أنْ تلقى الله وهي معظِّمة لهذا المبدأ متعبدة
لله تعالى به؛ على الرغم من الصعاب التي اكتنفت حياتها من شظفٍ في العيـش، أو سوءٍ
في طباع الزوج، أو معاناةٍ في تربية الأولاد. عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إذا
صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من
أي أبواب الجنة شئت»[15].
وإنَّ على المرأة المسلمة التي ابتليت بمُرِّ الحياة الزوجية أنْ تصبرَ ما وسعها
الصبر، وأنْ تحتسبَ أجر الصبر عند الله؛ فإنَّ هذا الصبر عبادة، متذكرةً قوله
تعالى: {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:
10].
فإنْ شعرت بالعجز والضعف لجأت إلى باب الله تعالى تدعوه وتسأله أنْ يجعل لها
فَرَجاً ومخرجاً، وأنْ يصلح حالها ومعاشها ومعادها، وعلى هذا كانت العاقلات من
النساء.
[1] تفسير القرآن العظيم: 7/ 326.
[2] تفسير القرآن العظيم: 7/327.
[3] موسوعة التفسير المأثور: 22/51.
[4] معالم التنزيل: 4/432.
[5] تفسير السعدي: 4/1855.
[6] أخرجه البخاري، حـ 5418.
[7] تفسير المنار: 12/236.
[8] أخرجه أبو داود حـ 2226، والترمذي حـ 1187، وابن ماجه حـ 2055، وصححه الألباني
في صحيح الجامع حـ 2706.
[9] انظر: الأسرة في الغرب، ص293.
[10] زاد المعاد/ 5/187 - 189.
[11] الإصابة: 8/151.
[12] انظر: سيرة ابن هشام: 1/657.
[13] تفسير القرآن العظيم: 6/429.
[14] تفسير القرآن العظيم: 6/430.
[15] أخرجه أحمد حـ 1661، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 661.