إنَّ إحسان العبادات والاعتناء بحقوق الله تعالى ومشاهدة إنعامه على عبده هي ما ترفع الإنسان إلى المراتب العليا، وهي ما تسمو بإيمانه إلى درجة اليقين، ولكن ذلك يحتاج من العبد أنْ يجاهد نفسَه والشيطانَ ليتقن العمل ويداوم على فعله، وأنْ يبذل وسعه في تحقيق معاني
ها هي مريم بنت عمران تطويها الأيام والسنون وهي تتقلب بين خدمة بيت المقدس والقيام
في محرابها تصلي لله تعالى، وذلك بعد أنْ أصبحت في كفالة زكريا عليه السلام وهو
النبي والمقدَّم في بني إسرائيل آنذاك، وذلك لموت أبيها قبل أنْ تولد فنشأت يتيمة
بقَدَر من الله.
وقد أكرمها الله بأنْ عطف القلوب عليها كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: ٤٤]. وأكرمها سبحانه بإجراء الكرامات لها كما في
قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْـمِحْرَابَ وَجَدَ
عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ
اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].
وأكرمها الله تعالى بأنْ اصطفاها واختارها وطهرها وجعلها أُمّاً لنبي عظيم من
أنبياء بني إسرائيل ورسول من أولي العزم من الرسل، قال السعدي:
«من
أعظم فضائلها أنْ تُذكر في الكتاب العظيم الذي يتلوه المسلمون في مشارق الأرض
ومغاربها، تُذكر فيه بأحسن الذكر وأفضل الثناء، جزاء لعملها الفاضل وسعيها الكامل»[1].
وفي خلال كل ذلك من الدروس والعبر والتوجيه والتربية القرآنية ما يرسم للمؤمنة طريق
السموِّ والارتقاء في مدارج العبودية وسبيل الاصطفاء الرباني.
مريم بنت عمران... المرأة التي اصطفاها الله على نساء العالمين.
ما هي مقومات هذا الاصطفاء وكيف استحقت ثناء الله عليها في كثير من المواضع؟ وفي
هذه المواضع تفصيل وإجمال، فأما الآية التي أجملت صفات مريم الطاهرة فهي قوله
تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ
الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]. وإنْ تعجب فليكن عجبك من ختام سورة التحريم تلك
السورة التي تعالج إصلاح الزوجة والأهلين، إذ ختمها الحق سبحانه بالإشارة إلى هذه
المرأة الصالحة الطاهرة، لتكون قدوة النساء، زوجات وعُزَّاباً، ومثلاً للذين آمنوا،
كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
«لم
يَكمُل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون»[2].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:
«خير
نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد»[3].
العبودية طريق الاصطفاء:
لقد كان اجتهاد مريم في التعبد واعتناؤها بصلاتها سبيلاً مؤدياً إلى الاصطفاء
والتكريم، قال الحق سبحانه: {وَإذْ قَالَتِ الْـمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إنَّ
اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:
42 - 43]. فهذا الخطاب الذي وجَّهته الملائكة لمريم يفيد أنَّ ثمن الاصطفاء
الرباني كامن في القنوت لله رب العالمين وفي دوام السجود والركوع له، قال ابن كثير:
«أيْ
اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوسواس، واصطفاها
ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين»[4].
لقد كانت تلتزم موضع صلاتها فلا تفارقه إلا لخدمة بيت المقدس أو لقضاء حاجاتها التي
لا بد لها منها، كالأكل والتطهر.
فالاصطفاء هو الاختيار، وهو اختيار إلهي لمريم عليها السلام لتكميلها وتطهيرها
وجعلها محلّاً لإجراء كراماته سبحانه، وما ذلك إلا لِـمَا وفَّقها الله إليه من طول
التعبد وحُسن التخشُّع له في صلاتها وكثرة ذكرها له في محرابها. وهذا عين ما يحبه
الله من المرأة المؤمنة؛ أنْ تحسن التعبد وأن تكثر من الركوع والسجود لتقترب من
الله تعالى فيزيد في بركتها ويعلي من درجتها ويدلها على ما يطهرها من الأدناس
والقاذورات فتصبح متجهة نحو الكمال البشري. ولذلك ثنَّى الله تعالى هذا الاصطفاء
والتطهير والاختيار بأمرها بالازدياد من التعبد والولوج في باحة القانتين: {يَا
مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}.
والقنوت في أصل معناه: الطاعة في خشوع[5].
وهو هنا يتضمن معنى أخص، فقول الملائكة لمريم - تبليغاً عن الله -: اقنتي. أيْ
أطيلي القيام في الصلاة، وهو قول الجمهور[6].
ولذلك امتثلت أمر ربها، فأطالت القيام في صلاتها حتى ورمتْ قدماها؛ كما ذكر ذلك
مجاهد[7]،
وذكر العلماء أحوالاً لها في طول صلاتها تدلل على اعتنائها الشديد بأمر الصلاة
وخشوعها وتطويلها وركودها في القيام والركوع والسجود.
إنَّ إحسان العبادات والاعتناء بحقوق الله تعالى ومشاهدة إنعامه على عبده هي ما
ترفع الإنسان إلى المراتب العليا، وهي ما تسمو بإيمانه إلى درجة اليقين، ولكن ذلك
يحتاج من العبد أنْ يجاهد نفسَه والشيطانَ ليتقن العمل ويداوم على فعله، وأنْ يبذل
وسعه في تحقيق معاني العبودية القلبية والعملية، ويحتاج منه إلى استقامة دائمة في
الخفاء والعلن، وحين الانفراد وحين الاجتماع، وفي الجلوة وفي الخلوة، قال تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ
الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
ولم تكن أمور الدنيا وشؤونها حاضرة في مشهد الاصطفاء والتكريم، فقد نشأت مريم بنت
عمران يتيمة، نائية عمَّا يشغل كثيراً من النساء مما لا يعني ومما لا ينفع، وقد
تطهر قلبها من حب المال والثراء، بل قد تطهر قلبها من حب الظهور والاشتهار؛ الأمر
الذي حدا بها إلى اتخاذ موضع لها بعيداً عن أعين الناس ومخالطتهم، قال تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً
شَرْقِيًّا 16 فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا
رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} [مريم: 16 - 17]. قال ابن عطية:
«والانتباذ
التنحي، قال السدي: انتبذت لتطهر من حيض. وقال غيره: لتعبد الله. وهذا أحسن؛ وذلك
أنَّ مريم كانت وقفاً على سدانة المتعبَّد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس
لذلك»[8].
كما أنها ترضى بما يكتبه الله لها من رزق وتنسبه إليه وحده، فلا ترى إلا فضل الله
عليها، ولقد كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد طعاماً عندها في غير وقته وزمانه،
فيسألها عن مصدره وكيفية الحصول عليه، فلا تجيبه إلا بأنْ تقول: {هُوَ مِنْ
عِندِ اللَّهِ}. فكم في هذه الإجابة القصيرة من اليقين بالله والرضا بأمره
وشكره على عطاياه وردِّ الفضل إليه والتأدب معه سبحانه والخضوع له حتى أنها
لتستسرَّ بكرامة الله لها! وكم في هذه الإجابة من طهارة القلب من الشوائب، وسموِّ
النفس عن النقائص، وتعلق الروح ببارئها!
إنَّ من أجلِّ مقاصد إحسان التعبد لله هو أنْ يجعل قلبك نقياً مصفّىً خالصاً لله،
وهذا يعود بك إلى أصل معنى القنوت، والمرأة القانتة هي تلك التي أحسنت عباداتها حتى
أُخلص قلبها لله. فيا لله هذه المنزلة العلية! ويا لله هذه الرتبة السَّنية!
ولعلك لحظت - فيما ذكرتُ لك من الأعمال القلبية التي زكت بها مريم عليها السلام -
معنى الإحسان، الذي علمنا إياه نبينا صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور،
حين قال:
«أنْ
تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك»[9].
فإنَّ الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه، وأنْ يَعبُد
اللهَ كأنه يراه، إجلالاً ومهابة وحياء ومحبة وخشية؛ هو مقام الإحسان[10]،
وهذا ما كانت عليه مريم الصديقة، إذ لم تكن ترى إلا رحمة الله، ولا تلمس إلا لطفه،
ولا تشعر إلا بقربه وتربيته لها، فهو الذي أنبتها نبتاً حسناً، وهو الذي كفلها
زكريا، وهو الذي وسَّع رزقها، وهو الذي هداها وأصلح قلبها، وكانت هي الشاكرة له
سبحانه على كل ذلك، المخبتة له، القانتة له، القائمة بحقه سبحانه على أحسن ما
تستطيع امرأة، حتى بلغت أعلى مقامات الإحسان فصارت صدِّيقة كما وصفها الله تعالى
بذلك في قوله: {مَا الْـمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]. فإنَّ الصديقية - كما
يصفها ابن القيم - هي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسِل[11].
وهل كانت مريم عليها السلام في مختلف أحوالها إلا على هذه الحال، أعني كمالَ
الانقياد مع كمالِ الإخلاص.
وواجب المؤمنة أنْ تقتدي بمريم عليها السلام، وأنْ تسعى إلى نيل مرتبة الإحسان كما
نالتها مريم، وأنْ تطمح إلى بلوغ درجة الصديقية كما بلغتها مريم، وأنْ تكون قانتة
لله كما كانت مريم من القانتين، وليس ذلك بمعجز ولا بمستحيل، فإنَّ الله يعين من
استعان به، ويدل على الطريق من استهداه، قال ابن القيم رحمه الله:
«ولا
تستبعدْ أنْ يمنَّ الله المنان على عبدٍ بمثل هذا الإيمان، فإنَّ فضل الله لا يدخل
تحت حصرٍ ولا حُسبان»[12].
وحين نظرت إلى نفسي، وقد هالني ما كانت عليه مريم الصديقة من القنوت والإحسان
والتصديق والتسليم، وجدتها بعيدة عن هدي القرآن نائية عن استلهام القدوة فيه، مقصرة
في حق الله تعالى، غير محسنة ولا قانتة، فبكى لأجل ذلك قلبي، وشكوت إلى الله حالي،
وأدعو الله الكريم المنان أنْ يجعلني وإياك من القانتين المحسنين، والتائبين
الشاكرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنه لا يستجلب التوفيق للعبادة
بشيء مثل الاستعانة بالله ودعائه.
العفة مفتاح التكريم:
نشأتْ مريم في بني إسرائيل نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات
بالعبادة العظيمة والتبتل والدُّؤُوب، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بنيِّ
إسرائيل إذ ذاك وعظيمِهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات
الهائلة ما بهره[13].
وفي ناحيةٍ شرقية عن بيت المقدس والبيوت الآهلة حوله، وبعدما قضت أعواماً متبتلة
متعبدة في المسجد الأقصى؛ لا تترك محرابها إلا لحاجة... هيأت لنفسها مكاناً خاصاً
بها يحجبها عن الناس، منفردة عن أهلها وعن الناس، ممتثلة أمر ربها بإدامة الصلاة
وطولها.
وبينما هي في خلوتها إذ فجأها موقف عظيم، فقد اقتحم عليها في خلوتها
«رجلٌ
في صورة جميلة وهيئة حسنة لا عيب فيها ولا نقص»[14]،
قد سواه الله وكمَّله، وكان ذلك الرجل هو جبريل عليه السلام، قد جاء بأمر من الله.
فلما رأته مريم وهي الفتاة الشابة، وهما في خلوة لا يراهما أحد، ولم تعلم أنه
جبريل، وما حسبته إلا رجلاً يريد مراودتها عن نفسها، قال ابن جريج:
«خشيتْ
أنْ يكون إنما يريدها عن نفسها»[15]،
فصرخت في وجهه مستعيذة بالله منه، {قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ
إن كُنتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. فكان هذا أول موقف تمتحن فيه عفتها، فهي نافرة
من الفاحشة ومقدماتها وطريقها وكل سبب مفضٍ إليها؛ منذ اللحظة الأولى.
والجزاء من جنس العمل؛ فحين رأى جبريل عليه السلام ما تغشاها من الخوف والروع
بشَّرها بأمر الله واختياره لها بحمل عيسى عليه السلام وولادته، فقال: {قَالَ
إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا} [مريم: 19].
وأبلغها جبريل بأنَّ الله أمره أنْ ينفخ في جيب درعها نفخة - وجَيْب الدرع هو
الفتحة في أعلى القميص التي تدخل رأسها منه حين تلبسه - فتدخل النفخة بأمر الله في
فرجها، وتستقر في رحمها، فيتكون منها ولدٌ صحيح، هو عيسى عليه السلام، فحملت مريم
هذه النفخة المباركة.
فتعجبت من ذلك واستفهمت عن كيفية إنجاب الغلام، فهي غير متزوجة، وهي الطاهرة
المحصنة العفيفة؟ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا 20 قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيًّا}
[مريم: 20 - 21].
فحملته على غير اختيار منها وصبرت على أمر الله، لكنها خافت الفضيحة وخشيت كلام
الناس، فإنهم لا يصدقونها في أمرٍ غير مألوف حملٍ بلا زوج، وكيف أنها تحولت من
عابدة مشهورة بالعبادة والتنسك إلى زانية عاهرة في نظر الناس! وجرى عليها من الآلام
النفسية نتيجة هذا الحمل ما الله به عليم، إضافة إلى الآلام الجسدية الناتجة عن
الحمل، وخرجت من حالها الأولى التي كانت عليها من عطف قلوب الناس عليها، واستقرارها
في خلوتها للعبادة، وهنائها بخلوها من شؤون الدنيا إلى حال مضطربة وخوف وتوجس من
قومها وأهلها، وترقب لما تؤول إليه الأمور. وبدت عليها مخايل الحمل فضاقت ذرعاً،
وتباعدت عن الناس واعتزلتهم، قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ
مَكَاناً قَصِيًّا} [مريم: ٢٢]. أيْ مكاناً بعيداً حياء وفراراً على وجهها[16].
قال ابن إسحاق:
«فما
دخل على أهل بيتٍ ما دخل على آل زكريا، وشاع الحديث في بني إسرائيل، فقالوا: إنما
صاحبها يوسف[17].
ولم يكن معها في الكنيسة غيره، وتوارت من الناس»[18].
فخرجت من بيت المقدس هرباً من كلام الناس وخشية على نفسها وولدها إلى قرية تبعد عن
المدينة بضعة أميال، وهي بيت لحم على المشهور من أقوال أهل العلم[19].
فلما قربت ولادتها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع
الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها
ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسياً منسياً فلا تُذكر[20].
قال تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْـمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيًّا} [مريم: 23]. فولدت
عيسى، ثم أظهر الله على يديه صدقها وعفتها وطهارتها، وبعثه الله نبياً إلى بني
إسرائيل.
وفي قول الحق سبحانه: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن
رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91]
ومجيء الفاء في موضعها هذا إشارة إلى حُسن الجزاء على عفة المرأة وصيانة نفسها عن
الرذيلة، قال السعدي:
«فأعاضها
الله بعفتها ولداً من آيات الله ورسولاً من رسله»[21].
فهو من باب وقوع الجملة الثانية مترتبة على وقوع الجملة الأولى، وكذلك الله سبحانه
يشكر من أحسنَت وهو الشكور الحليم، فإنَّ عفاف المرأة وصيانتها لنفسها عن الرذيلة
مع القدرة على مواقعة الفاحشة وسلوك الطرق المفضية إليها يدل على صحة القلب ويقظته
وزيادة الإيمان وازدهاره، وإنَّ العفة مَعْلَم إيماني لما يتضمن من امتثال أمر الله
في السر والعلن والاستسلام لشرعه الناهي عن الفواحش وعن بذل الجسد والحديث والنظر
لمن لا يحل.
ومعالم العفة التي كانت عليها مريم الصدِّيقة - كما أخبرنا الله في كتابه - تتمثل
في الآتي:
أولاً: إحصان الفرج، وهو حفظه عن الحرام وعن ما يسوء: فكيف وقد اجتمعت لديها بعض
دواعي الوقوع في الفاحشة ثم هي تعتصم بالله وتستعيذ به منها ومن أسبابها؟ قال
السعدي في حكاية دخول جبريل على مريم:
«وهي
في تلك الحالة الخالية، والشباب، والبعد عن الناس، وهو في ذلك الجمال الباهر،
والبشرية الكاملة السوية، ولم ينطق لها بسوء أو يتعرض لها، وإنما ذلك خوف منها،
وهذا أبلغ ما يكون من العفة والبُعد عن الشر وأسبابه. وهذه العفة - خصوصاً مع
اجتماع الدواعي وعدم المانع - من أفضل الأعمال، ولذلك أثنى الله عليها»[22].
لا شك أنَّ ذلك من أعلى مقامات العفة، وهو يشبه مقام يوسف عليه السلام حين استعاذ
بالله في الموقف الذي تيسرت له فيه كل سبل الفاحشة.
ثانياً: الحياء من الناس والخوف من تدنيس سمعتها: قال السدي:
«قالت
وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس: يا ليتني متُّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه
والحزن بولادتي المولود بغير بعل!»[23].
ووصل بها الحال أنْ تمنت الموت وأنها لم تُعرف من قبلُ لكي تُنسى نهائياً، فإنَّ
المرأة الحرة ذات الشرف والدين تخشى على سمعتها كما تخشى على جسدها، وتحافظ على
نُبْل اسمها كما تحافظ على عفتها، والمرأة الحرة ذات الشرف والدين تحافظ على اسم
والديها وإخوتها وذويها؛ فإنه يلحقهم ما يلحقها من الذم والسوء؛ ألا ترى أنَّ بني
إسرائيل حين كلَّموا مريم قالوا: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا
يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا 27 يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ
أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 27 - 28]. وقد
كانت مريم عليها السلام على أشرف وأعز ما تكون امرأة، فأثَّرت في نفسها مقالة الناس
وخشيت على نفسها من تأجيج القول، قال السعدي:
«فلما
آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس،
وخافت عدم صبرها؛ تمنَّت أنها ماتت قبل هذا الحادث»[24].
وذلك قولها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيًّا}
[مريم: 23].
قال ابن عطية:
«وتمنَّت
مريم الموت من جهة الدِّين، إذْ خافت أنْ يُظنَّ بها الشر في دينها، وتُعيَّر
فيفتنها ذلك، وهذا مباح، وعلى هذا الحدِّ تمناه عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين.
ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت إنما هو لضُرٍّ نزل بالبدن، وقد
أباحه صلى الله عليه وسلم في قوله: (يأتي على الناس زمان؛ يمرُّ الرجل بقبر الرجل
فيقول: يا ليتني مكانه)[25]
لأنه زمن فتن يذهب بالدين»[26].
ابتلاء الصديِّقة:
طريق الاستقامة محفوف بالمكاره، وطريق العفة محفوف بالفتن والابتلاءات، والمرأة
التي اختارتْ شرفها وعفافها واستقامت على دين ربها وأمره لا بد لها من الابتلاء،
ولو سلمت منه امرأة لسلمت مريم بنت عمـران التي رباها ربُّها وأنبتها نباتاً حسناً،
ولكن الابتلاء ضرورة في الارتقاء بالمؤمنين، الارتقاء في الدرجات العليا، والارتقاء
فوق النفس وشهواتها والشيطان وحبائله والدنيا وزخرفها، والارتقاء في مقاييس الناس
وأحكامهم وتقويمهم.
والمؤمنة اليوم تُمتَحن امتحاناً عظيماً، في شرفها ودينها ومروءتها، قد أُشرعَت لها
أبواب الفتنة وزُيِّنت لها سبل الفاحشة ومقدماتها، وأُخضعَت لغزوٍ ثقافي ينفِّرها
من الطهر والعفاف؛ غزوٍ يزين لها التبرج والسفور، ويحسِّن في نفسها الاختلاط
بالرجال والحديث معهم، ويجعل ذلك تحضُّراً وتقدُّماً... غزوٍ ينفِّر من الحجاب
والعفاف والقرار، ويصور ذلك بالتخلف والرجعية وانعدام الجدوى.
والمؤمنة اليوم تبتلى ابتلاء شديداً في دينها وعقيدتها وتصوراتها الشرعية، وتساق
إلى الفوضى والانفلات الأخلاقي باسم الحرية والكرامة الشخصية، وتدعى إلى منافسة
الزوج ونبذ القوامة، ويصوَّر لها النجاح في الحياة الزوجية بمظاهر وأنماط مختلقة
خاطئة؛ لتترك بيتها وتنشز على زوجها.
والمؤمنة اليوم تبتلى ابتلاء شديداً في فطرتها وإنسانيتها، فتزيَّنُ لها الدنيا
وزخارفها، وتمكَّنُ من الكسب المالي الذي يبعدها عن أداء واجباتها الشرعية، بل
يجعلها أسيرة لارتكاب المحظورات والمحرمات؛ ولو كانت صغائر، وصُغِّرت في عينيها
الاستقامة والاعتناء بالفرائض وحقوق الله تعالى.
اليوم تظهر المرأة المحادَّة لله في مختلف الأذرع العالمية للعولمة بوصفها نموذج
النجاح والتقدم، وتُنشَر حياتها الخاصة بوصفها الحياة السعيدة التي تأملها كلُّ
أنثى، في حين هي لا تقيم شرع الله في نفسها، ولا ترفع بدين الله رأساً.
وأمام هذا الامتحان الكبير - الذي ربما لم يُسبَق إلى مثله في التاريخ - تقف
المؤمنة في هذا العصر شامخة صامدة صابرة، تُقبِل على محرابها، وتطيل صلاتها وركوعها
وسجودها، بخشوع وتضرُّع وإقبال، ثم هي تنأى عن سلوك سبيل الفاحشة، ليس ذلك فحسب؛ بل
تنأى عن كل سبيل ينتقص من شرفها وعفتها؛ ولو كان حقيراً أو صغيراً، ثم هي تقطع كل
الحبال الموصلة إلى خدش حيائها واستقامتها، وتكون على حذرٍ من التماهي مع وسائل
الإعلام والاتصال، لتلحق بركب الصديقين والصديقات.
وفي هذا السياق أعني تعامل المرأة مع وسائل الإعلام والاتصال، فإنَّ على المؤمنة
اليوم واجباً غفلت عنه كثير من بنات المسلمين، وهو أنْ تعرف الحدَّ الشرعي في
التعامل مع هذه الوسائل والشبكات، وأنْ تتقي الله فيها، وذلك بأنْ:
أولاً: أنْ تعرف حكم الله في التعامل مع كل جزء منها، وأنْ تبني على هذه المعرفة
حدود العمل والتعامل.
ثانياً: أنْ تحدد طريقة مشاركتها بحيث تراعي حق الله فيها وحق زوجها ووالديها
وذويها.
ثالثاً: أنْ تقْصُر نفسها على ما حددته دون إخلال أو تساهل، وتترك ما سواه بحزم.
رابعاً: أنْ تقطعها بالكلية إذا كان ضررها عليها أكثر من نفعها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:
«إنَّ
الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثير من الناس؛
فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي
يرعى حول الحمى يوشك أنْ يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإنَّ حمى الله
محارمه»[27].
ثم إنه على المؤمنة اليوم أنْ تكثر من العبادات، لا سيما الصلوات، وأنْ تحسن قيامها
وركوعها وسجودها، فإنها ترفع ذكرها وتعلي شأنها في الملأ الأعلى وتثبت الإيمان في
قلبها، وأنْ تكثر من الدعاء فيها أنْ يجعلها الله من المحسنات القانتات، فإنه لا
يستجلب التوفيق لذلك بشيء مثل الدعاء والاستعانة بالله عليه.
[1] تيسير الكريم الرحمن: 3/993.
[2] أخرجه البخاري، حـ 3433.
[3] أخرجه مسلم، حـ 2430.
[4] تفسير ابن كثير: 2/ 344.
[5] تفسير ابن كثير: 2/345.
[6] المحرر الوجيز: 2/412.
[7] تفسير الطبري: 5/398.
[8] المحرر الوجيز: 6/482.
[9] أخرجه البخاري، حـ 50.
[10] بدائع الفوائد: 3/18.
[11] مدارج السالكين: 2/258.
[12] مدارج السالكين: 1/442.
[13] تفسير ابن كثير: 5/ 214.
[14] تيسير الكريم الرحمن: 3/ 993.
[15] تفسير الطبري: 15/ 486.
[16] المحرر الوجيز: 6/485.
[17] هو يوسف النجار الذي كان يخدم معها في المسجد.
[18] تفسير ابن كثير: 5/218.
[19] تفسير ابن كثير: 5/218.
[20] تيسير الكريم الرحمن: 3/994.
[21] تيسير الكريم الرحمن: 3/993.
[22] تيسير الكريم الرحمن: 3/ 993.
[23] تفسير ابن كثير: 5/ 219.
[24] تيسير الكريم الرحمن: 3/ 994.
[25] أخرجه البخاري، حـ 7115.
[26] المحرر الوجيز: 6/486.
[27] أخرجه البخاري حـ 52، ومسلم حـ 1599.