من أعظم ما تصاب به الأمم من الأمراض مرض الانهزامية النفسية أو الفكرية؛ فهو مرض عضال، وداء مستعصٍ، ما تمكن من أمة إلا ألبسها رداء الخنوع وإزار الدونية ولبَّدها بذُلِّ التبعية وألقى في قلوب أفرادها الوهْن، ولذا فخطورته لا تقارَن بغيره من الأمراض التقليدية،
من أعظم ما تصاب به الأمم من الأمراض مرض الانهزامية النفسية أو الفكرية؛ فهو مرض
عضال، وداء مستعصٍ، ما تمكن من أمة إلا ألبسها رداء الخنوع وإزار الدونية ولبَّدها
بذُلِّ التبعية وألقى في قلوب أفرادها الوهْن، ولذا فخطورته لا تقارَن بغيره من
الأمراض التقليدية، فهو ينخر العقول فيعود فيه العزيز ذليلاً والسيد تبيعاً والحليم
حيراناً.
ومن أهم أسباب إصابة الأمة بهذا الداء جهلُ المسلمين بدينهم وخصائص أمتهم المستمدة
من هذا الدين. ولعل مرارة الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم هو نتاج هذا الجهل
بمقدَّرات الأمة وخصائصها الباعثة على الفأل والعمل.
وما زال هذا المرض يستفحل في جسد الأمة ويستمد قوته من وسائل الإعلام الموجَّهة
التي يحرص الأعداء من خلالها على إبراز قدراتهم الحربية، واكتشافاتهم العلمية،
وإمكاناتهم الاقتصادية، التي تنخلع بها قلوب الجاهلين بمكامن قوة الإسلام.
ويروِّج لهذا جيشٌ من الأتباع من بني الجلدة الذين يتكلمون بألسنتنا، فيصوِّرون
مواطنَ قوَّتنا ضعفاً وجميعَ محاولاتنا في النهوض سفهاً، ولسان حالهم يقول: ليس لكم
إلا السير في رِكَاب الأعداء صاغرين! فلو فطنوا إلى مقوِّمات هذه الأمة وخصائصها
لعلموا أنها أمة لا تنهكها الأزمات ولا توهنها الضربات، وقد خصها الله بصفات وحباها
من الهِبَات ما يمكِّنها من القيام بأمر هذا الدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
وهذا بفضل الله تعالى ورحمته بها، قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:
85].
وبفضل الله ورحمته جاء القرآن لهذه الأمة المحمدية، وخصَّها بخصائص مملوءة بالفأل،
ويكفي من ذلك أنها لا يجتمع عليها عُسران، بل إن هذه الخصائص تزرع الأمل والفأل
والرجاء في قلوب المؤمنين، ومن هذه الخصائص:
أولاً: أنها أمة (مصطفاة):
إذ إن الله تعالى قد اصطفاها بمقتضى رحمته وفضله؛ واصطفاؤها إنما كان بارتضائها
لدينه الذي رضيه لها سبحانه، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾
[المائدة:3] وبهذا اصطفاها، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ﴾ [فاطر:23].
ثانياً: أنها أمة (مرحومة):
فعن محمد بن الحنفية قال:
«إنها
أمة مرحومة: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله، والسابق بالخيرات في
الدرجات عند الله»[1].
ومن رحمتها أن الله تعالى لا يعذبها عذاب استئصال؛ فعن جابر رضي الله عنه قال:
«لَـمَّا
نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: ﴿قُلْ هو القَادِرُ علَى أنْ يَبْعَثَ علَيْكُم عَذَاباً
مِن فَوْقِكُمْ﴾، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أعُوذُ بوَجْهِكَ،
قالَ: ﴿أَوْ مِن تَحْتِ أرْجُلِكُمْ﴾، قالَ: أعُوذُ بوَجْهِكَ، ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ
شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم : هذا أهْوَنُ (أوْ هذا أيْسَرُ)»[2].
وفي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعاً:
«إنَّ
اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي
سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها، وأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأحْمَرَ
والأبْيَضَ، وإنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتي أنْ لا يُهْلِكَها بسَنَةٍ عامَّةٍ،
وأَنْ لا يُسَلِّطَ عليهم عَدُوّاً مِن سِوَى أنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ
بَيْضَتَهُمْ، وإنَّ رَبِّي قالَ: يا مُحَمَّدُ! إنِّي إذا قَضَيْتُ قَضاءً فإنَّه
لا يُرَدُّ، وإنِّي أعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أنْ لا أُهْلِكَهُمْ بسَنَةٍ عامَّةٍ،
وأَنْ لا أُسَلِّطَ عليهم عَدُوّاً مِن سِوَى أنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ
بَيْضَتَهُمْ، ولَوِ اجْتَمع عليهم مَن بأَقْطارِها، أوْ قالَ مَن بيْنَ أقْطارِها،
حتَّى يَكونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً، ويَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً»[3].
ومن رحمتها أنها تبتلى في هذه الدنيا لتنجو يوم القيامة، ومن هذا ما رواه الحاكم في
المستدرك وفيه ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إنَّ
أمَّتي أمَّةٌ مَرحومةٌ ليسَ عليها في الآخرةِ حسابٌ ولا عذابٌ؛ إنَّما عذابُها في
القَتلِ والزَّلازلِ والفتنِ»
قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه[4]،
وفي هذا الحديث وما يماثله عزاء لأمة الإسلام فيما يُصيبها اليوم من الفتن والمحن،
بأن تستشعر أنها مرحومة إن هي صبرت واحتسبت فلن يكون لها في الآخرة حساب ولا عقاب.
«وحديث
أمتي أمة مرحومة قد يستغله أهل الأهواء كالمرجئة والمعتزلة، علماً أن منطـوق الحديث
ومفهومه أن الرحمة مرتبطة بأهل المصائب من المسلمين، ومعلوم أن الحديث لا يتنـاول
أهل الفجور فضلاً عن المنافقين وأعداء الدين وإن انتسبوا إلى هذه الأمة».
ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنه وضع عنهم الآصار والأغلال التي كانت على الذين
من قبلهم، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ٧٥١]، وقال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٨٧]، قال القرطبي:
«وهذا
مما خص الله به هذه الأمة».
ومن رحمتها أن الله تعالى قد ضاعف لها أجورها قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ
رَحْمَتِهِ...﴾ [الحديد:28].
ثالثاً: أنها أمة (معصومة) وعصمتها بأمور:
أولاً:
بحفظ الله لكتابه، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَـمَّا
جَاءَهُمْ وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]،
وقال جلَّ شأنه: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ}
[الحجر: ٩]، ولا بد لحفظ الكتاب من حفظ أمور، منها:
حفظ السُّنة:
فإنها المبيِّنة لكتاب الله، المقيِّدة لمطلقه، المخصِّصة لعامِّه، المفصِّلة
لمجمله، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:44].
حفظ الرجال:
الذين يحملون الكتاب والسنة، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إلَّا الظَّالِـمُونَ}
[العنكبوت: 49]، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يحمِلُ
هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحـالَ
المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ»[5].
حفظ المكان:
قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ
النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
ويدخل في هذا كلُّ من دخل في حمى الإسلام وإن كانت الآية قد نزلت في أهل مكة بدليل
قول النبي صلى الله عليه وسلم :
«واللَّهِ!
لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى
حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ
تَسْتَعْجِلُونَ»[6].
ثانياً: ومن أسباب عصمتها أن هذه الأمة لا تجمع على ضلالة كما جاء في الحديث:
«لا
تَجتَمِعُ أُمَّتي على ضَلالَةٍ»[7]،
وقد تكلم في صحته بعض العلماء وإن كان المعنى صحيحاً؛ إذ إن فيهم الطائفة الظاهرة
على الحق التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
:
«لا
تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ، لا يضرُّهم من خذلَهم، ولا من خالفَهم
إلى قيامِ الساعةِ»[8]،
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم
الطائفة المنصورة، وكذا قال ابن حزم.
رابعاً: أنها أمة (وسط):
وقد يراد بالوسطية الخيرية كما يقال محمد صلى الله عليه وسلم من أوسط القبائل
نسباً؛ أي خيرهم؛ فهذه الأمة من خير الأمم ديناً لتمسكها بكل ما أمرها به ربها بل
دعوتها له كذلك، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وقد يراد بالوسطية الاعتدال في المنهج؛ فهي وسط بين الأمم من غير إفراط ولا تفريط،
قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 112 وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا
تُنصَرُونَ} [هود: 112 - 113]، فلا طغيان اليهود وغلوهم ولا ركون النصارى وجفاءهم.
قال شيخ الإسلام:
«وأهل
السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأمم. فهم وسط بين الفرق من غير إفراط ولا تفريط»،
وقد يراد بالوسطية العدالة ولذلك فهي شاهدة على غيرها من الأمم، قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143١].
خامساً: أنها أمة (منصورة):
قال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال تعالى: {مَن كَانَ
يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ
مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
قال المفسرون: من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم ولا دينه ولا
أولياءه فليقتل نفسه لعل هذا يذهب غيظه؛ إذ إن الله ناصره لا محالة، ومن مقومات
نصرتها أيضاً أنها قد نُصرت بالرعب كما قال صلى الله عليه وسلم :
«...
ونُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرَةَ شَهرٍ»[9]،
قال ابن حجر: قوله
«نصرت
بالرعب»
زاد أبو أمامة:
«يقذَف
في قلوب أعدائي»[10]،
وقوله:
«مسيرة
شهر»
قال الحافظ ابن حجر: مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في
أكثر منها، أما ما دونها فلا.
ومن مقومات نصرتها أن فيها الطائفة المنصورة قال صلى الله عليه وسلم :
«لا
تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن
خَذَلَهُمْ، أوْ خالَفَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ ظاهِرُونَ علَى
النَّاسِ»[11]
وفي رواية:
«قَاهِرِينَ
لِعَدُوِّهِمْ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُمْ»[12]،
وفي رواية له أيضاً
«ظاهِرِينَ
علَى مَن ناوَأَهُمْ، إلى يَومِ القِيامَةِ»[13].
ومن مقومات نصرتها أنها أمة لا تموت بموت علمائها ودعاتها؛ فهي مصدر لا ينضب للرجال
بل للقادة، قال تعالى: {مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23]، فلا يزال في هذه الأمة من ينتظر، والآية وإن
كانت قد نزلت في أنس بن النضر وأصحابه رضي الله عنهم؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب، والآية مُحْكَمة إلى يوم القيامة.
سادساً: أنها أمة (مهدية):
قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْـحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ} [الأعراف: ١٨١]، قال ابن كثير:
«وقد
جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في هذه الآية هي هذه الأمة المحمدية».
قال القرطبي:
«في
الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هم هذه الأمة)[14]
وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذه لكم وقد أعطى الله قوم موسى
مثلها)[15].
ومدار هدايتها على أمرين:
الأول: توفيق الله وفضله وقد قدمنا بقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:
58]، وعن أبي سعيد الخدري في قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، قال: (بفضل الله القرآن وبرحمته أن جعَلَكم من أهله).
الثاني: أي إيتاءها القرآن فهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط
المستقيم والنبأ العظيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن فيه نبأ
ما كان قبلنا وخبر ما يكون بعدنا وحكم ما بيننا، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. قال ابن مسعود: أنزل في هذا القرآن كلَّ علم
وكلَّ شيء قد بيَّن لنا في القرآن ثم تلا قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، قال ابن كثير:
«وقوله
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} قال ابن مسعود قد
بيَّن لنا في هذا القرآن كلَّ علم وكلَّ شيء، وقال مجاهد كلَّ حلال وكلَّ حرام.
وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما
سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم
ومعادهم، فهي أمة مهدية بالقرآن».
سابعاً: أنها أمة (سبَّاقة)
لطاعة ربها في الدنيا، سابقة لفضل ربها في الآخرة، قال شيخ الإسلام:
«قال
بعضهم: السابقون في الدنيا إلى الجمعات هم السابقون في يوم المزيد في الآخرة أو كما
قال فإنه لم يحضرني لفظه وتأييد ذلك بقول النبي المخرَّج في الصحيحين: (نَحْنُ
الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ
مِن قَبْلِنَا، ثُمَّ هذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ،
فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ اليَهُودُ غَداً، والنَّصَارَى
بَعْدَ غَدٍ)[16]،
فإنه جعل سبْقنا لهم في الآخرة لأجل أنَّا أوتينا الكتاب من بعدهم فهُدينا لما
اختلفوا فيه من الحق حتى صرنا سابقين لهم إلى التعبيد؛ فكما سبقناهم إلى التعبيد في
الدنيا نسبقهم إلى كرامته في الآخرة».
وسبْقها في الآخرة أنها أول الأمم بعثاً وأول الأمم حساباً كما في رواية للإمام
مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«أضَلَّ
اللَّهُ عَنِ الجُمُعَةِ مَن كانَ قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ،
وكانَ لِلنَّصارَى يَوْمُ الأحَدِ، فَجاءَ اللَّهُ بنا فَهَدانا اللَّهُ لِيَومِ
الجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الجُمُعَةَ، والسَّبْتَ، والأحَدَ، وكَذلكَ هُمْ تَبَعٌ لنا
يَومَ القِيامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِن أهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلُونَ يَومَ
القِيامَةِ، المَقْضِيُّ لهمْ قَبْلَ الخَلائِقِ»[17].
ومِن سبقها أنها أول الأمم دخولاً الجنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«نَحْنُ
الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، ونَحْنُ أوَّلُ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ،
بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ،
فاخْتَلَفُوا، فَهَدانا اللَّهُ لِـمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ»[18].
وللأمة المسلمة صفات وخصائص اختصها الله بها في الآخرة وخصائص استفادتها من خصائص
نبيها صلى الله عليه وسلم يمكن للباحث التوسع بذكرها نجملها فيما يلي:
خصائص الأمة الأخروية:
•
يُبعثون يوم القيامة غرّاً محجلين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«إنَّ
أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يومَ القيامةِ غُرّاً مُحجَّلينَ من آثارِ الوُضُوءِ»[19].
•
هم الأقل عملاً والأكثر ثواباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«وإنَّما
مَثَلُكم ومَثَلُ اليهودِ والنَّصارى كرجُلٍ استَعَمل عُمَّالاً فقال: مَن يعمَلُ
لي إلى نِصفِ النَّهارِ على قيراطٍ قيراطٍ؟...»[20].
•
أول الأمم مجاوزة للصراط، يقول صلى الله عليه وسلم :
«ويُضْرَبُ
الصِّراطُ بيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فأكُونُ أنا وأُمَّتي أوَّلَ مَن يُجِيزُ، ولا
يَتَكَلَّمُ يَومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودَعْوَى الرُّسُلِ يَومَئذٍ: اللَّهُمَّ
سَلِّمْ، سَلِّمْ»[21].
•
هم أول الأمم دخولاً للجنة، يقول صلى الله عليه وسلم :
«نَحْنُ
أوَّلُ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ»[22].
•
فيها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، يقول صلى الله عليه وسلم :
«سبعونَ
ألفاً من أُمَّتي يَدْخُلونَ الجنةَ بغيرِ حِسابٍ»[23].
•
هي نصف أهل الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«إنِّي
لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ»[24].
•
أكثر الأمم شفاعة للمعذبين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«لَيَدْخلَنَّ
الجنةَ بشفاعَةِ رجلٍ ليسَ بنَبِيٍّ مثلُ الحيَّيْنِ: ربيعةَ ومُضَرَ، إِنَّما
أقولُ ما أقولُ»[25].
أما بعض خصائص الأمة المستفادة من خصائص نبيها صلى الله عليه وسلم فهي:
•
نصرتْ بالرعب وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
•
خُتمتْ بها الأمم لتتم النبوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه
وسلم :
«وخُتِمَ
بِيَ النبيُّونَ»[26]،
وفي هذا المعنى يأتي بيان بعض مزايا الأمة التي أغنت الناس بكتابها ومنهجها عن
إرسال الرسل أو إنزال الكتب.
•
وإن هذه الأمة أوتيت خزائن الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم :
«بُعِثْتُ
بجَوامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ، وبيْنا أنا نائِمٌ أُتِيتُ بمَفاتِيحِ
خَزائِنِ الأرْضِ فَوُضِعَتْ في يَدِي»[27].
وختاماً: فإن الواحدة من هذه الخصائص كافية في عزاء المسلمين فيمَّا أصابهم وما
يزال ينزل بهم من البلاء والمحن والفتن؛ فكيف بهذه الخصائص الدنيوية والأخروية
مجتمعة وما تتضمنه من الفأل والتفاؤل والعزاء والرجاء بما عند الله وهو أرحم
الراحمين، وكل هذا مما يُعدُّ من محفزات النهوض والعمل؟
ولعل الله ييسر من يعمل على إفراد هذه الخصائص أو بعضها برسائل علمية وبحوث ودراسات
تعمل على ربطه بواقع المسلمين وما يتعرضون له.
[1] ينظر: تفسير الطبري: 10/412.
[2] ينظر: صحيح البخاري: 4628.
[3] ينظر: صحيح مسلم: 2889.
[4] ينظر: المستدرك على الصحيحين: 5/361.
[5] ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر عن الإمام أحمد: 7/39.
[6] ينظر: صحيح البخاري: 6943.
[7] ينظر: سنن أبي داود: 4253.
[8] ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 28/416.
[9] ينظر: مسند الإمام أحمد: 4/261.
[10] أخرجه الإمام أحمد.
[11] ينظر: صحيح مسلم: 1037.
[12] ينظر: صحيح مسلم: 1924.
[13] ينظر: صحيح مسلم: 1037.
[14] رواه الطبراني.
[15] رواه الطبراني.
[16] ينظر: صحيح البخاري: 876، وصحيح مسلم: 855.
[17] ينظر: صحيح مسلم: 856.
[18] ينظر: صحيح مسلم: 855.
[19] ينظر: صحيح الجامع للألباني: 2005.
[20] ينظر: صحيح ابن حبان: 7217.
[21] ينظر: صحيح مسلم: 7182.
[22] ينظر: صحيح مسلم: 855.
[23] ينظر: صحيح الجامع للألباني: 3604.
[24] ينظر: صحيح مسلم: 221.
[25] ينظر: صحيح الجامع للألباني: 5363.
[26] ينظر: سنن الترمذي: 1553.
[27] ينظر: صحيح البخاري: 7013.