خواطر تيمية عن كنوز ابن تيمية

‏هذه الكثرة الوافرة والأسفار الهائلة التي حرَّرها ابن تيمية تظهر جليّاً في تعدد المجاميع المطبوعة ‏وتنوع «الموسوعات» المنشورة التي حاولت استيعاب تلك النفائس والدراري


هذه نظراتُ محبٍّ لابن تيمية، وخطراتُ متيَّم بمصنفات ابن تيمية، أوردها على النحو التالي:

أولاً: من العجب العُجاب أنَّ رسائل أبي العباس ابن تيمية وأجوبته وقواعده يشق إحصاؤها ويتعذر استقصاؤها ويعسر ضبطها! شهد بذلك أعلم الناس به وأدراهم بمؤلفاته كابن عبد الهادي وابن رشيِّق وابن رجب وغيرهم. قال ابن رجب: «وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها»[1].

  ولذا عَدَّ بعضهم ابن تيمية من (الألفيين) الذين قاربت مؤلفاتهـم ألف عنوان، بل من المدهش أنَّ أبا العباس حرَّر هذه الكنوز الفريدة، وفجَّر هذه البحار الزاخرة، وحياته عامرة ومكتظة بأنواع العبادات والمجاهدات، والغـدو والرواح، والدعوة والاحتساب، والمحن والسجون، ومخالطات الناس، ومخاطبات الأمراء، ومحاورات العلماء، ومناظرات أهل الملل والنحل، ومع كل ذاك فقد كان آية فريدة في الجود بالعلم وبذله إشفاقاً على الخلق وإظهاراً للحق، يقول عنه تلميذه ابن القيم: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه في ذلك أمراً عجيباً: كان إذا سُئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته، فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم أعظم من فرحه بمسألته، وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك»[2].

ومن الطريف أنَّ هذه العلوم المتدفقة التي لا تنقضي، والفهوم الباهرة التي لا تنتهي يحول دونها عجلة السؤال ونفاد الأوراق، كما في قوله رحمه الله: «لكنَّ هذا الجواب كُتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة»[3]، وقال أيضاً: «لكنَّ هذا الموضع فيه اشتباه وإشكال لا تحتمل تحريره وبسطه هذه الفتوى؛ لأنَّ صاحبها مستوفز عجلان يريد أخذها»[4]، «وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة»[5]، «لكنَّ هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا»[6].

ثانياً: ‏هذه الكثرة الوافرة والأسفار الهائلة التي حرَّرها ابن تيمية تظهر جليّاً في تعدد المجاميع المطبوعة ‏وتنوع «الموسوعات» المنشورة التي حاولت استيعاب تلك النفائس والدراري، وأجلُّها وأكبرُها: ‏مجموع الفتاوى؛ إذ جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه الشيخ محمد - رحمهما الله - ‏هذا المجموع غرَّة في جبين الدهر، كما وصفه بعض المحققين المعاصرين، ويبدو أنَّ جامعه صاحب سريرة صادقة أوجبتْ ‏قبول هذا السفر وانتشاره، ‏وسريانه في العالم سريان الماء في الورد، ومن طالع خطبة هذا المجموع لحظ ما عليه جامعه من الجَلَد الباهر والجدِّ الهائل الذي تنوء ‏به همم الفئام من الباحثين، ومع ذلك لا ترى تكثراً بسعي، ولا تشبعاً بتحقيق، ولا تشكِّياً من تعويق. ‏ومهما يكن فإنَّ المجاميع لرسائل ابن تيمية عديدة وكثيرة، فمنها: الفتاوى الكبرى (المصرية)، ‏ومجموعة الرسائل والمسائل، ومجموعة تفسير آيات أشكلت (جمع عبد الصمد شرف الدين)، و‏مجموعة الرسائل الكبرى، وجامع الرسائل (تحقيق: محمد رشاد سالم)، والمجموعة العليَّة (تحقيق: هشام الصيني)، ‏وجامع المسائل (تحقيق: محمد عزير شمس، وعلي العمران)، فضلاً عن كتبه الكبار وأسفاره الضخام، كالدرء والمنهاج والردِّ على النصارى... دع عنك ما طبع من رسائله الصغيرة وأجزائه ‏المفردة فتلك يعسر جداً الإحاطة بها. والحاصل أنَّ هذا الإرث الكبير والكثير يحتاج إلى ثبت دقيق وكشَّاف عميق و (ببليوجرافيا) ‏تستوعب هذه العناوين وأسماء المؤلفات، وتحدد مواطنها في تلك المجاميع؛ فالرسالة الواحدة قد تتكرر في تلك المجاميع أو بعضها، وإن أمكن تعيين ‏أتمِّها وأكملها وأجودها تحقيقاً وتوثيقاً فهذا نور على نور.

‏ويُضاف أمر ثالث، وهو أن يُتوخى إثبات وتحقيق عناوين هذه الأجوبة والفتاوى والقواعد كما جاءت ‏في أسماء مؤلفات ابن تيمية التي جمعها ابن رشيِّق، وكذا ابن عبد الهادي وغيرهما. وها هنا ينبغي التذكير بأن لا نبخس جهود السابقين في ‏خدمة التراث التيمي، ‏فإنَّ لهم السبق والابتداء، ‏كما أنَّ للمتأخر الفضل والانتهاء، ‏والأول كابد نقص البداية، ‏والآخر نال كمال النهاية. ‏فيلحظ أنَّ هذا التطفيف ‏تجاه أولئك المتقدمين قد نال بعض المعاصرين، فعلينا جميعاً أن نتطاوع في هذا الشأن الجليل، ونتواصى بحسن القصد، والتخفف من الحظوظ، والتقلل من شح (الحقوق)، وكما أوصى شيخهم ابن تيمية - رحمه الله - بأنَّ ما لم يكن لله لا ينفع ولا يدوم، فقال: «وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْـجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسدٌ هالكٌ، لا يبقى ولا يدوم»[7].

ثالثًا: ومن الأعاجيب في مؤلفات ابن تيمية أنَّ الله تعالى حفظ كتبه طيلة هذه القرون، فمع كثرة الِمحَن التي لاحقت ابن تيمية ومؤلفاته، إذ سجن سبع مرات، وصودرت كتبه، ومنع من الفتيا، وأُوذي طلابه، وأُخفيت مؤلفاته، حتى أنَّ ابن مري سأل تلاميذ ابن تيمية قبيل وفاته أن يكتبوا له ثبتاً بمجرد أسماء مؤلفات ابن تيمية، فلم يظفر بمطلوبه وعذرهم في ذلك، وكان ابن تيمية يوصي طلابه أن يظهروا خطه وكتبه، لكنهم من عجزهم لا ينقلونه، ومن حرصهم أو خوفهم لا يظهرونه، كما حكاه ابن عبد الهادي في (العقود)[8]، وها هنا تظهر كرامات الحفظ والرعاية لتلك الأسفار؛ فلئن عجز أصحابٌ لابن تيمية عن إظهار كتبه، فقد أظهرها خصومه اللُّدُّ! كما أوضحه ابن تيمية بقوله: «ومن سنَّة الله أنَّه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه، فيُحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل، فيدمغه فإذا هو زاهق. والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم  وحده، بل مخالفة لدين جميع المرسلين... وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب، وجزعوا من ظهور (الأخنائية) فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم... ومقصودهم إظهار عيوبه وما يحتجون به، فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجَّة عليهم»[9].

وكما قال بعض الظرفاء عن كتب ابن تيمية: حوربت وغُيِّبت في دمشق الفيحاء، وأُكرمت وأُظهرت في البير (الشهباء)[10]! والحاصل أنَّ كتب ابن تيمية حوربت وصودرت في دمشق أرض الجنان والأنهار في القرن الثامن، وظهرت وأثمرت وأينعت في نجد الصحاري والقفار في القرن الرابع عشر الهجري، ويمكن ها هنا أن يستعار هذا البيت:

أسِفت لفقدك جِلَّق الفيحاء

وتباشرت بقدومك الشهباء[11]

وخلال العقود الثلاثة الأخيرة ظهر لابن تيمية مجاميع جديدة تُنشر لأول مرة، وعُثِر على كتب له كانت مفقودة أو مجهولة، واستكملت رسائل ناقصة والحمد لله! لقد حفظ ابن تيمية ربه فحفظه الله في شأنه كلِّه ومنها مؤلفاته وفتاويه، ونصر دين الله فأظهره فأظهر الله كتبه ونصره، وحظيت بالألطاف الربانية والقبول والحفظ، وعمَّت هذه البركات مؤلفات طلابه والذين انتفعوا به كما هو الحال في كتب ابن القيم، ومؤلفات ابن كثير الشافعي، وشرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي رحمهم الله، وغيرهم كثير جداً، والمراد: أنَّ من ‏عرف الحق ونصره ورحم الخلق ونصحهم فإنَّ له القبول والظهور في الدنيا والآخرة.

رابعًا: ‏ومما يحسن ذكره ها هنا أنَّ كتب ورسائل ابن تيمية ومسائله، منها ما يُجزَم بثبوته إليه وهو الأعم الأغلب ولله الحمد، ‏ومنها ما يُقطع بكذبه وغلطه، وهذا قليل جداً بالنسبة للأول، وثالثها: ‏ما كان محل اختلاف واشتباه عند المحققين؛ فعلى من تصدَّى لتحرير ذلك أن يتوخى العدل والموضوعية، فلا يتكلف إثباتها ولا نفيها؛ وإنما يتحرى الإنصاف والتحقيق والتوثيق، وردَّ ‏ما أشكل واشتبه من كلام ابن تيمية إلى محكمة، فأنفاس ابن تيمية محسوسة معلومة مفهومة، ‏فلا يعكِّر عليها ما قد يخالف ذلك، وإذا تعذَّر الجواب عن تلك المشتبهات فإنَّ في محكمات مؤلفات ابن تيمية ‏وتقريراته القطعيات الواضحات غُنْيةٌ وكفاية.

‏ويمكن الإشارة والتنبيه إلى توخي تسمية كتب ورسائل ابن تيمية بالأسماء التي أطلقها المؤلف نفسه أو طلابه كابن رشيِّق وابن عبد الهادي وغيرهما، ‏فإنَّ بعض الباحثين قد يحقق ويطبع كتاباً لابن تيمية ويسميه بالعنوان الذي اختاره ناسخ متأخر، ومن ذلك الكتاب المطبوع والموسوم بـ (بغية المرتاد)، ‏والذي يظهر أنَّ ابن تيمية سماه بـ (السبعينية) أو (المسائل الإسكندرانية)، ‏ومن ذلك ما صنعه الشيخ حامد الفقي - رحمه الله - إذ طبع كتابين لابن تيمية وسماهما بـ (نقض المنطق) و (نظرية العقد)، ‏فأمَّا الأول فليس دقيقاً ولا مستوعباً، فالكتاب المذكور جواب عن سؤالات، ‏ومنها سؤال عن حكم تعلم المنطق، ‏فأغلب الكتاب لا صلة له بالمنطق، وبعضهم يؤكد أنَّ هذا الكتاب هو الذي ذكره ابن رشيِّق وغيره عن فضل السلف على الخلف في العلم، والله أعلم. ‏وأما ذاك العنوان العصري (نظرية العقد) فإنَّ بعضهم يميل إلى أنَّه المقصود في ثبت مؤلفات ابن تيمية: (قاعدة في العقود والعهود)، ومهما يكن فلا مسوغ لأسماء وعناوين من (كيس) محقق أو معلق؛ ‏إذ قد صارت مع طول الأمد وغلبة الجهل كما لو كانت عناوين اختارها المؤلف أو طلابه. ‏وأمَّا التسميات التي يطلقها (مرتزقة) المكتبات والدُّور، بعناوين استهلاكية تسويقية... فليس الكلام معهم في هذا المقام.

خامسًا: ‏ومما ينبغي الالتفات إليه: تواريخ تصنيف كتب ابن تيمية وأماكنها، وملابسات تأليفها ومناسباتها، ‏والسعي إلى تجلية ذلك، والتعرف على الأزمان التي كتب فيها ابن تيمية كلَّ مصنف وأسباب تصنيفه، لا سيما الكتب الكبار والمتوسطة، فإنَّ ‏الوصول إلى ذلك يحقق مزيدَ فهمٍ واستيعابٍ لما تحويه تلك المؤلفات، ثم إنَّ ذلك يكشف عن المتقدم والمتأخر من كتبه، وما يتبع ‏ذلك من ترجيح عند الاشتباه، ويجلي التطور والارتقاء والمراحل التي مرَّت بها مؤلفات ابن تيمية، وما آلت إليه واستقرت ‏عليه في أوج تمامها وإحكامها، كما تسفر هذه الدراية عن المسالك المعرفية والمنهجية التي اختطتها تلك المؤلفات ‏من بدايات تأليفها إلى كمالات نهايتها؛ وغيابُ ذلك قد يوقع في إشكال واختلاف، ومثال يسير على هذه المسألة فيما يتعلق بآخر كتاب ‏أو رسالة كتبها ابن تيمية، فإنَّ محقق كتاب النبوات (د. عبد العزيز الطويان) يجزم بأنَّ ما حققه هو آخر كتـاب لابن تيمية، ومن قبله رجَّح محقق رسالة في ‏مسألة فناء النار (د. محمد السمهري) ما حققه، ومن بعده حكى محقق كتاب الفرقان بين الحق والبطلان (د. حمد العصلاني) ‏أنَّ هذا الفرقان هو آخرها، ومن قبلهم جميعاً ألمح ابن القيم في (المدارج) إلى أنَّ ابن تيمية بعث إليه في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه[12]، ومن بعد هؤلاء نجد أنَّ محقق جامع المسائل ساق عدة رسائل قرَّر ناسخوها ‏أنها من آخر ‏ما كتبه ‏ابن تيمية في سجن القلعة بدمشق[13]، والله أعلم.

‏ونسوق طرفاً من المحددات والقرائن التي تكشف وتوضح تاريخاً لبعض المصنفات ‏وأماكنها ولله المنة، وهو المستعان، منها:

 مؤلفات حدَّد المؤلف رحمه الله زمانها مثل (الواسطية) ‏وغيرها، ومن ذلك أنَّ ابن تيمية أشار لطرف من فضائل الشام وختمها بالحديث عن جهاد أهل الشام للتتار وانتصارهم على أولئك المفسدين[14]. وكأنه يعني وقعة شقحب سنة ٧٠٢هـ، ‏فعلى هذا فالرسالة السابقة بعد شقحب، والله أعلم.

وفي رسالته التي أجاب فيها عن حال الحلَّاج وزندقته[15] ‏قال رحمه الله: «مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة...»[16] ومن ثَم فالرسالة عقب هذه الحادثة الواقعة سنة ٧١٥هـ، ولعل المراد به: أحمد الرويس، كما يظهر في حوادث سنة ٧١٥هـ من تاريخ ابن كثير[17].

 ومنها كتب التراجم والتاريخ، فهي مصادر أصيلة ورئيسة في تحديد تأريخ تلك المصنفات ومكانها وملابسات تأليفها، ‏ومن ذلك ‏فتواه في حكم شدِّ الرحال إلى القبور، التي سُجن من أجلها سنة ٧٢٦هـ حتى توفي رحمه الله سنة ٧٢٨هـ، فقد بيَّن ابن عبد الهادي أنَّ مؤلفها كتبها قبل سبع عشرة سنة، فيكون تاريخ الفتوى قرابة سنة ٧٠٩هـ وهو بمصر[18]؛ ‏إذ مكث هناك سبع سنوات كوامل من سنة ٧٠٥هـ إلى سنة ٧١٢هـ[19].

وجملة من رسائل ابن تيمية حدَّد ابن كثير في تاريخه زمانها ومكانها وملابسات تأليفها، ‏فمناظرة ابن تيمية للصوفية الرفاعية الأحمدية[20] أرَّخ لها ابن كثير سنة ٧٠٥هـ، وحكى خلاصتها[21]. وكذا المجالس الثلاثة بشأن المناظرة المتعلقة بالعقيدة الواسطية والمذكورة في المجلد الثالث من الفتاوى، فقد عيَّن ابن كثير ‏تاريخها في شهر رجب سنة ٧٠٥هـ، وألمح إلى طرف منها[22]. وأما رسالة ابن تيمية وهو في حبس الإسكندرية[23]، ‏فقد نبَّه عليها ابن كثير ولخَّصها وأرَّخ لها في حوادث سنة ٧٠٦هـ[24]. وكذا في رسالته المذكورة في مجموع الفتاوى[25]، التي جاء فيها: «‏وقد أرسلت إليكم كتاباً أطلب ما صنفته في أمر الكنائس...» إلخ، إذ أرَّخها ابن كثير ضمن حوادث سنة ٧٠٩هـ[26]، وأنَّ ابن تيمية كتبها لأهله وهو في القاهرة. وقبل ذلك كله وهو آكد مما سبق أنَّ ابن كثير حكى ملابسات وأسباب تأليف (الصارم المسلول على ساب الرسول)، ‏وأنَّ ابن تيمية ألَّفه في دمشق عقب (واقعة عساف النصراني) سنة ٦٩٣هـ[27]. وكذا رسالته إلى والدته السعيدة ست النعم بنت عبد الرحمن الحرانية رحمها الله (ت ٧١٦هـ) والتي تفيض حباً وإجلالاً، ‏وبراً وشوقاً لأمه، وقد تاقت إلى فلذة كبدها إذ طالت غيبته[28]، ‏فيظهر أنها وقت مقامه بمصر ما بين ٧٠٥ - ٧١٢هـ.

  ثم إنَّ تراجع أبي العباس عن جملة مسائل معدودة لـمَّا استبان له الدليل وظهر له السبيل تعدُّ معْلماً مهماً في هذا الشأن، ‏ومن ذلك قوله: «كتبتُ منسكاً في أوائل عمري، فذكرتُ فيه أدعية كثيرة، وقلَّدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبيَّن لي من السنة...»[29]، ‏وهذا المعلم الجليل ومن خلال تلك المقالة السابقة يكشف ما عليه المؤلف في أول عمره من التمذهب والتقليد كما في شرحه لعمدة الموفق ابن قدامة ونحوها، لكن بقي أن يُقال: تتكرر في عدة مواطن من فتاويه الفقهية «قال أصحابنا...»[30] ونحوها؛ ‏فهل تعدُّ قرينة معتبرة على أنها من فتاويه المتقدمة؟ هذا محل بحث وتأمل.

  ومن الأمارات والقرائن التي تعين على تحديد زمن تآليف ابن تيمية أو تقاربه ما قد يورده من وقائع تاريخية، كما في حديثه عن مهدي الرافضة المعدوم أو الغائب في السرداب، ‏ومن ذلك رسالته التي كتبها عن المشهد المكذوب والمنسوب إلى الحسين رضي الله عنهما؛ فإنَّ المؤلف لـمَّا أشار إلى أنَّ غيبة مهدي الرافضة سنة ستين ومئتين، وأنَّ له في الغيبة أكثر من أربعمئة وخمسين سنة، فعلى هذا تكون هذه الرسالة قد حررت بعد سنة ٧١٦هـ، وفي بلاد مصر، إذ مكث في مصر من سنة ٧٠٥ - 712هـ والله أعلم[31]، وقد سبق إلى هذا الاحتجاج: د. رشاد سالم رحمه الله لما حقَّق منهاج السنة النبوية، فقرر أنَّ المنهاج كُتب بمصر بعد سنة ٧١٠هـ، بناء على غيبة منتظرهم منذ أربعمئة وخمسين سنة. ومن ذلك: وقعة قازان أو يوم قازان سنة ٦٩٩هـ، فإنَّه ‏يتكرر ذكرها في أكثر من كتاب لابن تيمية، فهذه قرينة على أنَّ هذا الكتاب أو الرسالة بعد هذه الواقعة.

 ومن القرائن في ذلك أنَّ ابن تيمية في مؤلفاته قد يشير ويحيل على مؤلفات له، فيورد أسماء كتب عديدة أو قليلة في كتاب صنَّفه، فيكون تأليف ذلك الكتاب عقب تلك الكتب المذكورة في ثناياه، وقد يعكِّر على هذه القرينة أن ما تقدم من تلك الكتب قد يعتريها تبييض من المؤلف فيما بعد.

  يرى بعض المهتمين أنَّه إذا كان أسلوب ابن تيمية ونَفَسه ولغته ظاهرة جالية ومطردة مستقيمة، وأنَّ ذلك هو أوج تمامه المنهجي والمعرفي؛ فما لا يتفق مع ذلك يكون من تآليفه المتقدمة. فمثلاً العبارات ذات السجع المصنوع قد تكون في مؤلفاته المتقدمة كما في تفسير سورة الكوثر في المجلد السادس عشر من الفتاوى، وحكايته المبسوطة ‏لمناظرته الرفاعية في المجلد الحادي عشر من الفتاوى ونحوهما، وكذا المقولات التي فيها شدة أو حدَّة غير معتادة عن أبي العباس كما في قوله: «فنعوذ بالله من العمى في البصيرة أو حَوَل يرى الواحد اثنين...»[32].

‏وقد يقول قائل: إنَّ ‏السجع ليس قرينة معتبرة ولا فاصلة بين كتبه المتقدمة والمتأخرة، ولا سيما أنَّ السجع يقع في كتبه الأخيرة، ثم إنَّ الحدة في العبارة والشدة في المقالة نجدها أيضاً في كتبه المحكمة والمتأخرة كالدرء والمنهاج ونحوهما؟ لقد استعمل ابن تيمية رحمه الله هذه الحدَّة في ذات الله، ولأجل الانتصار لدين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومهما يكن فإنَّ ابن تيمية بحارٌ زاخرة تتفجر بما لا يحصى من العلوم والفهوم والمعارف والإرادات، وبطرائق عديدة وأساليب متنوعة، فلا يُحجِّر أسلوبه الواسع، ولا يُضيِّق نَفَسه الرحب، ‏ولا سيما أنَّ لأبي العباس من التجوُّز في الإطلاقات والتسامح في العبارات ما هو معلوم لمن طالع كتبه.

سادسًا: ‏وأخيراً فإنَّ ابن تيمية نسيج وحدِه في مصنفاته ومواقفه وسائر أحواله؛ فإنَّ ما حرره وحققه درة يتيمة، وآية فريدة، وصرح بديع جداً لا نظير له، فمن مزايا كتبه:

 ما سطَّره في ثنايا تلك الكنوز الفريدة مما لا يحصى من مشاهدات المؤلف ومعايناته لأحوال وحوادث وأماكن ووقائع، وما سمعه من ثقات وما نقله وحكاه عن علماء وعُبَّاد وأمراء، ومتكلمة ومتصوفة، ‏ومِن سُنة ورافضة، ويهود ونصارى، وعامة وخاصة... إلخ، ‏ومخاطباته ومناظراته لأهل الملل والنحل، ومخالطته ومجالسته لطبقات عديدة و متفاوتة من صنوف البشر. ومن ذلك قوله ‏في حديث عن مظاهرة الرافضة للكفار ضد أهل السنة: «‏ولو ذكرتُ أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب»[33]، وقوله ‏عمَّا عليه الرافضة من أيام سود: «‏ولو ذكرتُ بعض ما عرفته منهم بالمباشرة ونقل الثقات وما رأيته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير»[34]، ولَـمَّا تحدث عن تلبيس الشياطين بمتعبدة قال: «‏وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وتقول خذني حتى يأكلني الفقراء (الصوفية)، ويكون الشيطان قد دخل فيها...»[35]، وكقوله: «‏أعرف جماعات يستغيثون بشيخ في حياته...»[36]، ‏ولما ذكر أنَّ الشياطين قد تقضي حوائج من أشركهم بالله قال: «‏وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعيَّنة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته»[37]، وقوله: «‏وقد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع... فقد حدثني طائفة من الثقات... وحدثني من حدثني من الثقات»[38]. ولما تحدَّث عن الذين تحملهم الشياطين في الهواء إلى مكة، كان مما قاله: «وقد حدثني منهم من حُمل، وحدثني جماعات عن جماعات منهم وعمَّن كان قبلنا... وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين...»[39]. ‏والحاصل أنَّ ذلك كله يعدُّ تاريخاً لعصره، لا سيما في الشام ومصر، وفيه دراية فائقة ومستوعِبة للأوضاع السياسية والدينية والاجتماعية والسلوكية وغيرها في القرن الثامن الهجري وما قبله. وهذا الوصف البليغ والإرث النفيس بشأن الواقع الذي شاهده ابن تيمية وعاصره يحتاج إلى استقراء تام من مؤلفاته وتراجمه، ‏واستخراجِ واستنباطِ قواعد وضوابط في فهم الواقع الذي عاشه، والحاضر الذي عاينه، وكيفية تعامله مع هذا الواقع بعلم وعدل، وفقه وإنصاف.

  وهذا يقود إلى مزية أخرى لتلك الفوائد والعلائق التيمية، ‏وهي أنَّ في مصنفات ابن تيمية حلولاً عملية وأجوبة شافية عما يكتظ به عصرنا من نوازل جاثمة على الأمة، جلبتْ حيرة وافتراقاً، وأوقعتْ اشتباهاً وتوقفاً، ولا بدَّ من ‏الإحكام والرسوخ في مطالعة التراث التيمي، ‏والوصف الدقيق والفاحص لتلك النوازل المعاصرة، ومن ثَم تنزيل الأحكام التي حرَّرها ابن تيمية على ما يلائمها من تلك الوقائع المشكِلة.

  ومن خصائص التراث التيمي أنَّ مؤلفها رحمه الله ‏إذا حرَّر جواباً أو حقق مسألة فكأن العلـوم بين عينيه، وقد فتح الله عليه فأُلينتْ له العلوم والمعارف والفهوم، فإذا شرع في الجواب أظهر جوداً وسخاءً بعلمه ونصحه وبيانه لا نظير له ولا مثيل، فيتحدث عن المسألة بدلائلها الشرعية والعقلية والفطرية، ‏ويُظهِر أصولها وجذورها، ويجلِّي ما يتفرع عنها، وما تستلزمه، فلو كانت المسألة - مثلاً - في تفسير آية من كتاب الله فإنَّه يحشد نفائس في العقيدة، وقلائد الحديث، وعلائق في السلوك، وبدائع في علوم الآلة وغيرها، وكل ذلك ينساق بترابط عجيب واطراد باهر، وبناء علمي محقق ومؤصل متماثل محكم.

والرزية أنَّ أبحاثاً كثيرة معاصرة عن جهود ابن تيمية ومؤلفاته ومنهجه ومواقفه؛ يغيب عنها هذا الأمر الكبير والشأن الجليل باسم (التخصص الدقيق)! فتستروح إلى تفريغ كلام ابن تيمية وتقطيعه، ‏فتكون المسألة العظيمة من تقريرات ابن تيمية فيها شمول واستيعاب، وعلوم عديدة، ودلائل نفيسة يصدِّق بعضها بعضاً، فيعمد فئام من المشتغلين بتلك البحوث إلى صروح تيمية شاملة ومتكاملة فيعملون على تعضيدها وتفتيتها، ومن ثَم يغيب عمق تقريره ورسوخه، ويذهب بهاؤه وتمامه، ‏ويُضْعِف ذلك إحكام بنيانه ‏العلمي والمنهجي وما فيه من السعة والرسوخ والقوة والشمول.

  ومن فرائد كتب ابن تيمية أنَّ في ثنايا تلك الكنوز عبارات جامعة وأقوال بليغة؛ فأبو العباس أحكم المسائل و الدلائل، واستوعب علوماً وفهوماً لا حصر لها، ومن ثَم فإنَّه يختزل ذلك في مقولات وجيزة وقواعد جليلة، بحيث تصلح أن تكون نواة لمشاريع علمية كبيرة، ‏كما في عبارته المتداولة في طرائق العلم ومصادره «الوحي والعقل والفطرة»، وأن دلائل المتكلمة وشبهاتهم في تعطيل الصفات: نفي التشبيه ونفي التركيب ونفي الاختصاص، وتقرير أنَّ من خالف الرسل وسبيل السلف فلا بدَّ أن يقع في: تحريف أو كتمان أو تجهيل أو تكذيب، كما في قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: ٥٧] الآيات[40]، ‏وأنَّ دين الرافضة: إما نَقْل كاذب لا يصح، أو دلالة مجملة مشتبهة، أو قياس فاسد... إلخ.

  وقبل الأخير فإنَّ التراث التيمي ليس مفخرة للمنهج السلفي أو السني فحسب؛ بل ليس ‏مفخرة ولا عزّاً للمنهج الإسلامي فقط، بل هو كرامة وحياة وبعث للمعرفة البشرية السوية التي لزمت شرع ربها، وحرَّكت عقلها، وأيقظت فطرتها، ففي هذا الموروث البديع: العمق والرسوخ، وصحة الاستدلال وقوة الحِجاج، وتعظيم نصوص الوحيين ‏والاعتصام بهما وتخليص العقل من الخرافات والأوهام، وإزاحة الرواسب والحُجُب العالقة بالفطرة الإنسانية، وفي هذه الكنوز الاستقرار العلمي والتأصيل المنهجي، كما أنَّ فيه أسلحة للمعارف والعلوم، ورحمة بالخلق، وموضوعية وواقعية، وإنصافاً وعدلاً، ومراعاة لأحوال الناس، وفقهاً للمصالح والمفاسد.

 

أخيرًا: إن كان للعلم طغيان لا يقل عن طغيان المال والرياسة، كما في طغيان العلم المادي على كنيسة الخرافة بالغرب، فإنَّ التراث التيمي وصاحبه على النقيض من ذلك؛ فمؤلفات ابن تيمية إخبات إلى الله، وتعلُّق بالله، ومحبة لله وخشية له سبحانه، ‏فهذه المؤلفات تُجلِّي أنَّ العلم بأحكام الله يستلزم العلم بالله والإنابة إليه، فتراه - مثلاً - يؤكد أنَّه كلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له[41]، ‏وذكر أنَّ بيان الأفضل للعبد لا يمكن ذكره في كتاب، بل لا بدَّ من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح، وما صدق اللهَ عبدٌ إلا صنع له[42]. وهذه النفائس والدراري من مؤلفات ابن تيمية هي مذهب السلف الصالح، ومنهج أهل السنة؛ فقد استوعب ابن تيمية وأحكم آلاف المصنفات التي كتبها السلف وغيرهم خلال عدة قرون وفي عامة الفنون، ثم صاغها وحرَّرها ونقَّحها وهذَّبها، وفتح الله عليه فتوحات ربانية لا تحصى، ومواجيد أثرية لا تستقصى، وما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها. 

وهذِهِ الهمَم اللاتِي متى خَطَبتْ

تعثَّرت خلْفَها الأشعارُ والخُطَبُ

 


[1] ينظر: ذيل طبقات الحنابلة (4/ 523)، وينظر العقود الدرية لابن عبد الهادي، ص51 - 81.

[2] مدارج السالكين (2/ 294).

[3] مجموع الفتاوى (12/ 103).

[4] مجموع الفتاوى (12/ 416).

[5] مجموع الفتاوى (32/ 137).

[6] مجموع الفتاوى (35/ 144). وينظر: جامع المسائل (1/ 81 - 101 - 156).

[7] جامع المسائل (1/ 49).

[8] ينظر: العقود الدرية، ص 81.

[9] مجموع الفتاوى (28/ 58 - 57)، باختصار.

[10] البير بلـدة صغيرة بالقرب من مدينـة الرياض شـمالاً، حيث شـرع الشيخ بن قاسم (ت 1393هـ) في جمع الفتاوى ببلدته هناك.

[11] أنشد هذا البيت ابن الزملكاني لـمَّـا رحل عن دمشق وانتقل إلى حلب كما في حوادث سنة 724هـ من تاريخ ابن كثير (18/ 242).

[12] ينظر: مدارج السالكين (1/ 524).

[13] ينظر مقدمة المحقق لجامع المسائل (1/ 17 - 20).

[14] ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 510).

[15] ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 108 -  119).

[16] مجموع الفتاوى (35/ 116).

[17] ينظر: البداية والنهاية (18/ 146).

 [18] ينظر: مجموع الفتاوى (27/ 182).

[19] ينظر حوادث سنة 712هـ من تاريخ ابن كثير (18/ 125).

[20] ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 445 - 476).

[21] ينظر: البداية والنهاية (18/ 51).

[22] ينظر: البداية والنهاية (18/ 53).

[23] ينظر: مجموع الفتاوى (28/ 30 - 46).

[24] ينظر: البداية والنهاية (18/ 65).

[25] ينظر: مجموع الفتاوى (28/ 657 - 656).

[26] ينظر: البداية والنهاية (18/ 95).

[27] ينظر: البداية والنهاية (17/ 666).

[28] ينظر: مجموع الفتاوى (28/ 49 - 48).

[29] ينظر: مجموع الفتاوى (26/ 98). وينظر: مجموع الفتاوى (21/ 517)، (26/ 199).

[30] ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 13)، (30/ 292 - 298)، (35/ 252 - 288، 310).

[31] ينظر: مجموع الفتاوى (٢٧/ ٤٥٣ - ٤٥٢).

[32] مجموع الفتاوى (31/106).

[33] منهاج السنة النبوية (6/ 375).

[34] منهاج السنة النبوية (7/ 416).

[35] مجموع الفتاوى (11/ 300).

[36] مجموع الفتاوى (17/ 456).

[37] مجموع الفتاوى (19/ 35).

[38] مجموع الفتاوى (27/ 459 - 485 - 486).

[39] جامع المسائل (1/ 202 - 204).

[40] ينظر: مجموع الفتاوى (14/ 71 - 70)، جواب الاعتراضات المصرية، ص 20 - 21.

[41] ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 42 - 48).

[42] ينظر: مجموع الفتاوى (22/ 309 - 308).

 

 


أعلى