لا شك في أن عزل السكان العرب جغرافياً واجتماعياً يجعل من السهل على الحكومات الصهيونية التعامل معهم، وهذا ما تكشف عنه لغة الأرقام
عند الحديث عن المجتمع العربي داخل الكيان الصهيوني، فإن أول ما يتبادر إلى أذهان
كثير من الناس عنصرية الاحتلال تجاه مليوني إنسان يمثلون نحو 20% من مجموع السكان،
لكن ليس هذا ما يشغل هؤلاء، لأن ثمة قضايا أخرى هي أشد فتكاً باتت تهدد حياتهم؛
فمنذ سنوات طويلة والمدن العربية تعيش في جحيم الجريمة المنظمة التي تنتشر وتزداد
وطأتها مع مرور الوقت.
لم يعكس ذلك الانسجامُ الاجتماعي والثقافي السائد في أوساط المدن العربية حالةً من
الاستقرار الأمني أو الاجتماعي، لأن علة المجتمعات الاستيطانية ذات التنوع العرقي
والثقافي تم نقلها بشكل مقصود ومُخطَّطٍ له من الأوساط الصهيونية إلى الأوساط
العربية، فظاهرة السلاح والمافيا والقتل عادةً ما تتميز بها المجتمعات الاستيطانية،
غير أن تلك الظاهرة تخلت عن حاضنتها الصهيونية ونُقلت عمداً للفتك بحياة المجتمع
العربي، وكأن السلوك الصهيوني الجديد اتجه إلى التخلي عن المواجهة المباشرة مع
السكان العرب، متبعاً إستراتيجية جديدة تقوم على تدميرهم ذاتياً.
إذا كان نواب الكنيست العرب الذين يشكلون الكتلة الثالثة من حيث عددُ المقاعد، قد
طالبوا مراراً باهتمام حكومة نتنياهو والتفاتها إلى المدن العربية، وتوفير الأمن
والاستقرار لها على غرار المدن الصهيونية؛ فإن ذلك لا يعني أن الجريمةَ المنظمة في
المجتمع العربي داخل دولة الاحتلال وليدةُ اللحظة؛ لأن سنوات طويلة ظلت شاهدة على
مئات الجرائم التي استهدفت صمود عرب الداخل كما يُطلَق عليهم. ففي تقرير أعدته
جمعية الشباب العرب (بلدنا)، بالتعاون مع جامعة (كوفنتري) في بريطانيا، في يونيو
الماضي 2020م، جاء تحت عنوان
«تسع
سنوات من الدم»،
أرجع التقرير سبب الجريمة المنظمة في المدن العربية إلى سياسات الحكومات الصهيونية
ذات الطابع العنصري ضد العرب؛ فتلك العنصرية التي تدخل في كافة المجالات الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية، خلقت بيئة حاضنة للعنف والجريمة وحولتها إلى (غيتو) منفصل
عن المجتمع الصهيوني، على حدِّ وصف التقرير.
يعود تاريخ انتشار الجريمة المنظمة في الأوساط العربية داخل دولة الاحتلال إلى
الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000م؛ إذ لم تفلح الحكومات الإسرائيلية في تدجين
المجتمع العربي واختراقه اجتماعياً أو عزله وطنياً، فقررت حينها إغراقه بسلاح
الجريمة، فمشاركة المدن العربية في الانتفاضة الفلسطينية عزز من عنصرية دولة
الاحتلال تجاه العرب في مناطق تجمعاتهم، وقد تزامن إغراق المدن والأحياء العربية
بالسلاح، مع إفراغها من وحدات ومراكز الشرطة وأقسام مكافحة الجريمة، وهذا ما ساعد
على نشر السلاح على أوسع نطاق، وخاصةً أن رئيس الحكومة الصهيونية الأسبق (شارون)
كان قد أعدَّ خطة لمواجهة منظمات المافيا داخل المجتمع الصهيوني خلال تلك الفترة،
ولم تجد المافيا الصهيونية سوى أبواب المدن العربية مفتوحة أمامها، وسرعان ما نقلت
نشاطها من المدن الصهيونية إلى المجتمع العربي الذي كان يشهد حالة من التحسن
التنموي والاقتصادي حينها، ولا ريب في أن تلك التطورات المفتعلة كانت قد عززت
الفجوة الاجتماعية والأمنية الكبيرة بين المجتمعين العربي والصهيوني داخل دولة
الاحتلال.
ولعل أبلغ دليل على ذلك، هي تصريحات الوزير الصهيوني السابق (بتسلال سمرتتش) الذي
دعا إلى عدم السماح للعرب الذين يحملـون الجنسية الإسرائيلية بالسكن في المناطق
التي يقطنها اليهود خوفاً من التقارب الاجتماعي وعلاقات المصاهرة، وهذا ما تحرص
عليه دولة الاحتلال منذ ثمانينيات القرن الماضي، فالحاخامات الصهاينة لا يتوقفون عن
دعوات الفصل، وهذا ما يُفسر استمرار حالة العزل السكاني والجغرافي للمدن العربية
داخل الكيان الصهيوني.
لا شك في أن عزل السكان العرب جغرافياً واجتماعياً يجعل من السهل على الحكومات
الصهيونية التعامل معهم، وهذا ما تكشف عنه لغة الأرقام؛ فبحسب صحيفة (هآرتس)
الصهيونية فإن معدل الجريمة داخل المدن والأحياء العربية يصل إلى ثلاثة أضعاف
الجرائم التي تُسجَّل في التجمعات الصهيونية، ورغم أن العرب يمثلون 20% فقط من
مجموع السكان، إلا أن 67% من جرائم القتل والعُنف عام 2019م وقعت في المدن العربية.
في هذه الأثناء يتستعرض الكاتب الصهيوني (آرون بوكسرمان) في موقع (تايمز إف أوك
إسرائيل) بتاريخ 10 نوفمبر الماضي دراسةً أجرتها مؤسسة (مبادرات إبراهيم)، تفيد بأن
نحو 60.5% من العرب الذين يحملون جنسية دولة الاحتلال، يعانون من عدم الأمان
الشخصي في مسقط رؤوسهم بسبب العنف، مقارنةً بـ 12.8% فقط من اليهود.
منذ عام 2012م والحكومات الصهيونية تتحدث عن تصورات وخطط للتخلص من الجريمة المنظمة
في أوساط التجمعات العربية، لكن تلك الخطط لا تتجاوز حدَّ الشعارات، وتدخل أحياناً
في إطار الدعاية الانتخابية، لكن الإجابة عن سبب تجاهل الحكومات الصهيونية لاستمرار
هذه الجرائم المنظمة الآخذة في التطور تكمن في تسجيل غالبية الجرائم ضد مجهول،
وانتشار السلاح داخل المدن العربية على مرآى ومسمع السلطات الصهيونية التي تدير
حالة الفوضى وتعزز الجريمة!
تعزيز الحكومات الصهيونية لتلك الفوضى المنظمة أو التخطيط لها، ليس مجرد اتهام، أو
محاولة لتحميلها المسؤولية؛ إنما هي واقع يعلمه الجميع داخل الكيان الصهيوني،
فالنائبة عن القائمة العربية المشتركة (إيمان الخطيب ياسين) وجَّهت أصابع الاتهام
إلى الحكومات الصهيونية خلال جلسة الكنيست 10 نوفمبر الماضي2020م؛ إذ أشارت النائبة
إلى أن الحكومات الصهيونية تقوم بتوفير الغطاء لمنظمات مافيا معيَّنة دون ذكر اسم
هذه المنظمات. ومن جانب آخر أرجـع النائب العربي السابق في الكنيست، ورئيس لجنة
المتابعة العليا لمكافحة العُنف (طلب الصانع) أعمال العنف والقتل المتزايد في صفوف
عرب فلسطين عام 1948م إلى تقاعس السلطات الصهيونية، مؤكداً على أن 90% من جرائم
القتل تُنفَّذ بسلاحٍ ناريٍّ مصدره الجيش والشرطة في الدولة العبرية.
وهنا يمكن الإشارة إلى دلالات هامة نستطيع البناء عليها، تتعلق بحيثيات الجرائم
التي تُرتكب في المناطق العربية، وفي أغلب القضايا تغيب أسباب الجرائم المباشرة
ومرتكبوها، ولا تتمكن جهات التحقيق في هذه الجرائم من الكشف عن مرتكبيها إلا في
حالات قليلة جداً، وهذا يُصعب من مهمة الوصول للأسباب الحقيقية التي أوصلت المدن
العربية إلى هذا الوضع الخطير؛ خاصةً أن 15% من الجرائم التي تُرتَكب يومياً في
المدن العربية يتم الكشف عن حيثياتها، على عكس تلك الجرائم المشابهة التي تُرتكب في
المدن والأحياء الصهيونية، فهذه الأخيرة يتم الكشف عن أكثر من 90% من حيثياتها،
وهذا يمثل دليلاً دامغاً على وقوف دولة الاحتلال خلف تلك الجرائم، لأن كل المؤشرات
والأسباب تحوم حول الواقع الذي أسسته منظومة الكيان الصهيوني داخل المدن العربية
بهدف تفكيك النسيج الاجتماعي للمجتمع العربي داخل الكيان الصهيوني.
عند إلقاء نظره على أهم مطالب عرب 1948م من الحكومات الصهيونية، سنلاحظ أن غالبيتها
يتمحور حول توفير الأمن وتعزيز التنمية داخل المدن العربية، لكن العنصرية الصهيونية
لا تتوقف عند التجاهل فحسب؛ إنما يصل الأمر إلى أبعد من ذلك؛ ففي عام 2018م قلصت
الحكومة الصهيونية مبلغ 400 مليون (شيكل)؛ أي حوالي 100 مليون دولار من ميزانية
الأمن المخصصة للمدن العربية، كما أن المؤسسات الصهيونية الرسمية والأهلية تتجاهل
دراسة المجتمع العربي، فأغلب مطالب النواب العرب في الكنيست تُقابَل بردود عنصرية
تتمحور غالباً حول التخلف الثقافي، بهدف الإساءه للمجتمع العربي والتهرب من الأسباب
الحقيقية التي تقف خلف الجريمة المنظمة.
وبناءً عليه يمكن الاستشهاد بتصريحات المحاضر في جامعة كوفنتري د. مروان درويش
لموقع (عرب 48) الذي أرجع استمرار الجريمة المنظمة في المجتمع العربي والفشل في
إيجاد حلول، إلى غياب الدراسات والمعلومات، والاعتماد دائماً على وسائل الإعلام،
وهو ما يخدم المساعي الصهيونية في نشر جرائمها دون أن تتحمل المسؤولية المباشرة،
فالجريمة المنظمة لا يمكن تصورها إلا من خلال علاقة مجهولة مع الحكومة، لأن غالبية
الجرائم المرتكبه تنفذها شخصيات عربية تتبع لمافيا محلية، وتلك المافيا المحلية
تعمل كمقاول لعصابات صهيـونية تعجـز الشرطة عن مواجهتها أو بتعبير أكثر دقة: لا
تسعى لمواجتها، وخاصةً أن الحكومة الصهيونية ليست معنية أصلاً بالمجتمع العربي الذي
يُعاني من أزمات مختلفة، ولا شك في أن تلك الأزمات تخلق بيئة ملائمة لانتشار
الجريمة، وهنا يمكن القول: إن الحكومات الصهيونية لم تتخلص من المنظمات والعصابات
اليهـودية التي تُمارس الجريمة وأنشطتها داخل المدن اليهودية؛ إنما تعاقدت معها
وقدمت لها الحماية مقابل تحويل مجال عملها إلى داخل المدن العربية.