وقد كان الصحابة الكرام على قدْرٍ عالٍ من البهاء والتفرد والسمو في إيمانهم وأخلاقهم ومآثرهم، وهذه الحال من الظهور بمكان لا تخفى على من يراهم وإن كانوا من الأمم الأخرى
الصحبة جزء من تعريف الذات، هذا أمرٌ معلوم، وكما قيل في الأمثال: قل لي من تصاحب
أقُل لك من أنت. بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك:
«المرء
على دين خليله، فَلْينظر أحدكم من يخالِل»[1].
حين رفض مشركو مكة أنْ يكتبوا: (محمد رسول الله) في وثيقة صلح الحديبية نزل القرآن
مؤكداً أنه رسول الله؛ وإنْ كذَّب به قومه وعشيرته، فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح:
29].
قال بعض المفسرين: محمد خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو محمد، يعود هذا الضمير المحذوف
على قوله: {رَسُولَهُ} في الآية قبلها[2].
أيْ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:
28]،
قال ابن عاشور:
«وهذا
المعنى هو الأظهر هنا؛ إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله؛ وإنما المقصود
بيان رسول الله من هو؛ بعد أنْ أجرى عليه من الأخبار من قوله: {لَقَدْ صَدَقَ
اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْـحَقِّ} [الفتح:
27]
إلى قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:
28]
فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان مَن هذا المتحدَّث عنه بهذه الأخبار؟ فيقال له:
محمد رسول الله؛ أي هو محمد رسول الله. وفيه وجوه أُخَر لا تخفى، والأحسن منها هذا»[3].
الرُّكَّع السجود:
ولمزيد من التعريف برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يجحد المشركون رسالته نوَّه
الله تعالى بشأن أصحابه الكرام، ذلك لِـمَا للصاحب من دلالة على صاحبه مدحاً وذماً،
فجعلهم جزءاً من التعريف برسوله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:
29].
قال ابن عطية:
«{وَالَّذِينَ
مَعَهُ}
إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور»[4].
فكأنَّ القرآن الكريم يقول للمكذبين: انظروا إلى أصحابه؛ إلى أخلاقهم، إلى جهادهم،
إلى عبادتهم، إلى سمتهم، إلى تجردهم عن الحظوظ الدنيوية، انظروا إليهم لتعرفوا قدر
صاحبهم وسيدهم وزعيمهم ونبيهم ورسولهم، فيا لله هذه الكرامة التي أكرم الله بها
أصحاب خاتم رسله وأنبيائه، أنْ جعلهم دليلاً عليه.
وقد كان الصحابة الكرام على قدْرٍ عالٍ من البهاء والتفرد والسمو في إيمانهم
وأخلاقهم ومآثرهم، وهذه الحال من الظهور بمكان لا تخفى على من يراهم وإن كانوا من
الأمم الأخرى، وقد حكى الحافظ ابن كثير عن الإمام مالك قوله:
«بلغني
أنَّ النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله! لهؤلاء خير
من الحواريين فيما بلغنا»[5]
فهم يقِرُّون بخيريتهم من جهة الخبر ومن جهة المعاينة؛ فمن جهة الخبر فكما أخبر
الله تعالى عن وصفه لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة السابقة، حيث
جاء وصفهم في التوراة بأنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، قال
مقاتل:
«ذلك
الذي ذُكر من نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة»[6].
فها هنا خمس صفات مذكورة في التوراة:
الأولى والثانية: أشداء على الكفار، ورحماء بينهم؛ فهم كالجسد الواحد في التراحم
والتعاطف والتواسي، وفي الوقت نفسه هم الأشداء على الكفار وهم الذين يجاهدونهم
ويذلونهم وينصرون المسلمين عليهم. وهذا التباين في هذين الخُلُقين ليس من باب
التناقض؛ وإنما هو من باب التجرد من الأهواء وقوة ضبط العاطفة بالإيمان، لذا قال
ابن عاشور:
«وفي
الجمع لهم بين هاتين الخلتـين المتضـادتين الشدة والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم
وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على
نفوسهم محمـدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية»[7].
وقد ظهرت شدتهم على الكفار وعاينها الناس في كل المواطن التي قاتلوا فيها المشركين،
في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، وكُتُب السير والتراجم حافلة
مملوءة بهذا، فإذا رابك شيء من ذلك فتذكر قول عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه
لرؤوس قريش واصفاً لهم رؤيته للصحابة الكرام قبيل موقعة بدر وهم يتأهبون لقتال
عشيرتهم:
«...
ولكن يا معشر قريش رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ
ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أنْ يُقتل رجلٌ منهم حتى يَقتل
رجلاً منكم»[8].
وأما التراحم فلا أدل على ذلك من عقد المؤاخاة بينهم قبل الهجرة وبعدها؛ بل وصل بهم
الحال من التراحم أنْ تكون رابطتهم الإيمانية هي الحاكمة على رابطة النسب والقبيلة
في مجتمع يعلي من شأن هاتين الرابطتين ويقدسهما.
والثالثة والرابعة: صلاتهم وعبادتهم المشار إليها بكثرة الركوع والسجود لأن لفظتي
الركَّع والسجَّد تفيدان كثرة وقوعهما، وإخلاصهم لله تعالى في ركوعهم وسجودهم،
والعجيب مجيء رؤيتهم بصيغة المضارع المفيدة للتكرار واستمرار الرؤية، فكأنه يقول:
متى ما رأيتهم فإنك لن تراهم إلا أهل صلاة وعمل صالح لا يرجون به دنيا ولا حظ نفس؛
وإنما يبعثهم على ذلك حب الله تعالى ورجاء ما عنده من الفضل والرضا واتقاء سخطه،
هذا بالرغم من اشتغالهم بمجاهدة الكافرين ومواساة المؤمنين وما يرتبط بهما من
متعلقات انتمائهم إلى الكيان الإيماني الاجتماعي.
والقارئ لسِيَر الصحابة رضي الله عنهم يجد هذا الأمر كثيراً، برواية الذين عاينـوا
ذلك، فهم كثيرو الصلاة، حتى إنك لتخال الصلاة من الأعمال التي يقضون بها وقت فراغهم
إذا فرغوا، كيف وقد جاءهم التوجيه القرآني: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ
7
وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧ - ٨]
فضلاً عن كونها ملجأهم ومفزعهم في النوائب والضوائق، والاستدلال على هذا الأمر
متوافر جداً.
وهنا يتجلى توفيق الله تعالى للصحابة الكرام للموازنة المحمودة بين الاشتغال بما
ينفع خاصةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الله تعالى والاشتغال بما يتعدى نفعه غيرهم محتسبين
فيه الأجر من الله، وهذا التوازن المطَّرد دليلٌ على صحة تصوراتهم الإيمانية وعميق
فقههم بالشريعة ولزومهم الصراط المستقيم.
والخامسة: سيماء العبادة البادية عليهم، والتي يراها من يلقاهم ويراهم،
«قد
أثَّرت العبادة - من كثرتها وحسنها - في وجوههم حتى استنارت، لَـمَّا استنارت
بواطنهم استنارت ظواهرهم»[9].
ذلك أنَّ العبادة بوجه عام والصلاة بوجه خاص تطبع أهلها بسمت خاص، هو سمت الخشوع
والرقة والورع والديانة في الأفعال والأخلاق، والبهاء والوقار والنور في الصورة
والشكل، قال السدي:
«الصلاة
تُحسِّن وجوههم، وقال بعض السلف: مَن كثُرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»[10].
هذا هو وصفهم في التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى وقرأها علماء بني
إسرائيل، وهو وصف صدق أثبته الله تعالى في القرآن، ثم رآه الناس رأي عين. أفلا يكفي
هذا في معرفة فضلهم وتعظيم شأنهم وإعلاء منزلتهم!
أصول وفروع:
وقد جاء وصفهم في الإنجيل بقوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:
29].
والشطء في الزرع ما خرج من حول الأصل[11]،
قال ابن عطية:
«هو
فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، يقال: أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها»[12].
وآزره: قوَّاه، قال ابن فارس:
«الهمز
والزاء والراء أصل واحد، وهو القوة والشدة»[13].
وقال ابن السمين الحلبي:
«تأزَّر
النبت: طال وقوي»[14]،
فهو هنا يضيف إلى التقوِّي معنى آخر وهو الطول والتمدد، وهو معنى لا يخرج عن القوة
والشدة، فإنَّ استطالة الشطء تقويه وتقوي أصله، ولذلك ذكر ابن عطية كلّاً من
المعنيين فقال:
«ولذلك
كله معنيان: أحدُهما: ساواه طولاً، فالفاعل على هذا المعنى الشطء»
يعني أنَّ الشطء استطال حتى ساوى الزرع الأصل، قال:
«والثاني:
آزره بمعنى أعانه وقواه، فيحتمل أنْ يكون الفاعل الشطء، ويحتمل أنْ يكون الفاعل
الزرع؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما يقوي صاحبه»[15]
فيحتمل المعنيين؛ أنَّ الزرع الأصل والشطء يقوِّمان بعضهما، وكلا المعنيين صحيح،
فإنَّ الشطء يطول وفي الوقت نفسه يقوي الزرع الأصل ويتقوى به.
وهذا مَثَلٌ عظيم ضربه الله لأهل الإنجيل، مَثَلٌ ضربه في أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بأنهم آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وقووه وأعانوه على نشر دعوته
لتصل إلى حدِّ الظهور والعلو والانتشار، فدعوتُهم جزءٌ من دعوته تتمثل فيها علاقة
الجزء بالكل والفرع بالأصل كعلاقة الشطء بالزرع لأنهم أعظم مَن اتبع النبي صلى الله
عليه وسلم وأكثر الناس حملاً لرسالته ودعوته، ولذلك فإنَّ سيرة الصحابة الكرام في
مجملها في عصر الخلافة الراشدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، تعتبر امتداداً
للدعوة الإسلامية الجديدة، وتم فيها تشييد العديد من الأحكام والمفاهيم والتطبيقات
الشرعية، وبُنيت فيها كذلك العديد من الحواضر الجديدة وَفْقَ المنظور الإسلامي،
وأُسس فيها كثير من التراتيب الإدارية والعلمية مما يعتبر سُنة متَّبعة، حتى اكتمل
بنيان الحضارة الإسلامية المصفَّى من الشوائب، ذو الرؤية المتفردة، والذي هابته
وخضعت له الأمم والدول المجاورة. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:
«وهو
مَثَل ضربه لمحمد، يقول: بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم اجتمع إليه
ناس قليل يؤمنون به، ثم يكون القليل كثيراً ويستغلظون ويغيظ الله بهم الكفار»[16].
وهذا المعنى الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما يفيدنا بأنَّ الزرع هو محمد صلى
الله عليه وسلم وأنَّ شطأه هو أصحابه قال البغوي:
«مثل
ضربه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده، ثم قواه الله بأصحابه كما قوى
الحبة بما ينبت منها»[17].
بينما يرى ابن جرير الطبري والسعدي أنَّ الزرع - الذي هو الأصل - هو أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم الذين ابتدؤوا الدخول في الإسلام، وأنَّ شطأه هو الذين أسلموا بعد
ذلك، يقول ابن جرير الطبري:
«إنما
مثَّلهم بالزرع المشطئ لأنهم ابتدؤوا الدخول في الإسلام وهم عدد قليلون، ثم جعلوا
يتزايدون ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما
يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى»[18].
ويقول السعدي:
«كذلك
الصحابة رضي الله عنهم هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم
وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه قد لحق الكبير
السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه من إقامة دين الله والدعوة إليه كالزرع الذي
أخرج شطأه فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} حين
يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون وهم في معارك النزال ومعامع القتال»[19].
وهذا معنى عظيم وتنويه رباني بشأن تلك الثلة الطاهرة؛ إذ هي تنمو وتنمِّي بعضها
الآخر وتمده من قوَّتها وحياتها كما يمد الأصلَ الفرعُ وكما يمد الساقَ الشطءُ،
وأنها أصل في الدعوة إلى دين الله تعالى، ولها فضل على مَن آمن بعدها إلى أنْ يتم
الله نوره ويظهر دينه، بل إلى أنْ يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. كيف لا، وقد
زرعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته لهم وتزكيته لهم وتعليمه إياهم!
وكأن القرآن يقول للكافرين الذين عاندوا هذه الرسالة الجديدة؛ وللمنافقين والذين في
قلوبهم مرض الذين يترقبون استئصال هذا الدين وقد حكى الله عنهم في السورة نفسها ذلك
فقال سبحانه: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْـمُؤْمِنُونَ
إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:
12]؛
كأنه يقول لهم جميعاً: إذا جحدتم أنه رسول الله وظننتم أنَّ نهاية هذا الدين قد
أزفت فانظروا إلى زرعه الذي زرعه وغرسه الذي غرسه، انظروا إلى قوَّتهم واجتماعهم
والتفافهم حول أكابرهم والسابقين منهم، وانظروا إلى تزايد أعدادهم ونمائهم وأنهم
يزيدون ولا ينقصون ويكثرون ولا يقلون وأن أرضهم تتسع ولا تضيق؛ أفلا تكون كل هذه
الأوصاف كافية للدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم شيء مختلف عن تلك الزعامات
والقيادات والرئاسات، وأنَّ دعوته صلى الله عليه وسلم شيء مختلف عن تلك القوميات
والعرقيات والعصبيات!
وإذا نوه الله تعالى بشأن طائفة من الناس من غير الأنبياء في كتبه المنزلة على
رسله، التوراة والإنجيل والقرآن كما رأيت، وجعلها دلالة على أمور عظيمة كرسالة محمد
صلى الله عليه وسلم وعلى ظهور دعوته؛ فماذا يعني ذلك غير عظمتهم وكرامتهم على الله
تعالى، حتى إنه ليحيك في النفس أنه لو لم يرد في تفضيلهم إلا قوله سبحانه:
{وَالَّذِينَ مَعَهُ} لكانت كافية في التنويه بشأنهم وفضلهم؛ فكيف وقد أفاض
الله عليهم كل هذه النعوت! فرضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا في زمرتهم وتحت لوائهم.
وإنه لشأن عظيم أنْ ينوه الله تعالى، الرب الخالق، القدوس المتكبر، بشأن طائفة من
الناس، الأمر الذي يسترعي الانتباه ويلفت النظر ويجعلنا أمام شيء مختلف من البشر
ونوع فريد من الناس، الأمر الذي حدا بأئمة السنة وأعلام السلف وفقهاء الشريعة أنْ
يُعلوا من شأنهم فيجعلوا حبهم عبادة ودليلاً على صحة الإيمان، ويجعلوا بغضهم
والانتقاص من قدْرهم والإغضاء من شأنهم ضلالة ونفاق، وسطروا ذلك في متون العقيدة،
قال الطحاوي رحمه الله:
«ونحب
أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم،
ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان
وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان»[20].
ولهذا فيجب على المسلم اليوم، حيث تباعد الزمن عنهم، ونبتت نابتة النفاق التي تغضي
من شأنهم، أنْ يرسخ هذا الأصل العظيم من العقيدة الإسلامية في نفسه، وفيمَن حوله،
وفيمن جعلهم الله تحت رعايته وولايته، عرفاناً للفضل الذي أثبته الله تعالى لأصحاب
نبيه صلى الله عليه وسلم ، واتباعاً لمنهج أهل السنة والجماعة أهل الحق في تفضيل من
فضَّل الله تعالى.
[1] مسند الإمام أحمد، حـ (8417).
[2] تفسير التحرير والتنوير: 26/202.
[3] تفسير التحرير والتنوير: 26/203.
[4] المحرر الوجيز: 9/85.
[5] تفسير القرآن العظيم: 7/362.
[6] موسوعة التفسير المأثور: 20/352.
[7] تفسير التحرير والتنوير: 26/205.
[8] البداية والنهاية 4/55.
[9] تفسير السعدي: 4/1677.
[10] تفسير ابن كثير: 7/361.
[11] مقاييس اللغة (شطأ): 1/612.
[12] المحرر الوجيز: 9/89.
[13] مقاييس اللغة (أزر): 1/58.
[14] عمدة الحفاظ: 1/87.
[15] المحرر الوجيز بتصرف: 9/90.
[16] تفسير الطبري: 27/114.
[17] شرح السنة: 14/68.
[18] تفسير الطبري: 27/112.
[19] تفسير السعدي: 5/1677.
[20] شرح الطحاوية: 2/689.