ومن نماذج الفراغ الإيماني، شدة تقدُّم الغرب الذي أبهر المسلمين، وفتنهم فتنة شديدة، لدرجة قد ينكر معها بعض الناس أن يعذب الله مثل هؤلاء، أو أنهم أحق بالجنة
بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
(1)
الفراغ الإيمـاني هو أحـد أبرز ملامـح هـذا الزمان، ولا ريب، ولا أعني به في
الحقيقة (غياب الإيمان كلية) ولا (غياب أسبابه)، لكنني أعني بالفراغ الإيماني في
هذا المقال:
حدوث خلل في الإيمان ناتج عن الذهول[1]
أحياناً عن قدرة الله تعالى، ثم تناسي أوامره سبحانه لعباده بالأخذ بالأسباب مع
التوكل عليه، لا على الأسباب؛ فهذان سببان ينشأ عنهما تفسير الظواهر الحادثة - سواء
على مستوى العالم أو حتى على المستوى الشخصي - تفسيرات بعيدة كل البعد عن سنة الله
في خلقه، وعن الإيمان بقدرته المطلقة سبحانه في فعل ما يشاء، فينتج تبعاً لذلك فجوة
إيمانية وفراغ، يخطئ المسلمون بسببه في معالجة الظواهر أو التعامل معها.
(2)
وأنا في هذا المقال أذكر بعض الأمثلة عن هذا الفراغ الإيماني وخطورته، وضرورة
الانتباه دوماً له، لأن معالجته تعتبر معالجة مشكلة رئيسة وهي عودة الوعي التام بما
تحتاجه الأمة الإسلامية الآن، من غرس واجب، وفهم صحيح لما هو مراد في الوقت الراهن،
وفي كل وقت.
إذ لا يخفى على عاقل مدى التجريف الذي أصاب أرض الإسلام الخصبة، ومدى الحاجة إلى
إعادة الغرس الصحيح والمنظم والحكيم والصبور، لإعادة الأرض مروجاً وجنات وأنهاراً.
(3)
أما النموذج الأول للفراغ الإيماني، فهو مثال مشهور ومتردد دوماً على الألسنة في أي
حادث يقع على أي مستوى، وهو (نظرية المؤامرة)ً؛ ففي كل مرة يحدث حادث ما، خاصة إن
كان كبيراً، ربما يكون أول ما يخطر في بال الناس (المؤامـرة)، ويتناسى الناس
أحياناً أن لله عزَّ وجلَّ قدراً في خلقة، وسلطاناً على عباده، فلا بد مِن ردِّ
الأمر له سبحانه أولاً وآخراً، والإشكال في هذا النمط من التفكير أنه أصبح يخدم
فعلاً أصحاب الشر والمكر في الأرض، فكأن سلطانهم في الأرض أصبح مطلقاً بلا قيد أو
شرط، فيخوف الناس أنفسهم بأيديهم، ويوهمون أنفسهم بأنفسهم أن الأمر مدبَّر بليل،
وأنه لا بد من وجود مؤامرة وسبب وراء ذلك، وأنه لا سبيل للنجاة من ذلك! والحق أن ما
حدث ربما يكون حادثاً وقع بسببٍ سخره الله ويسره، ولا دخل لمؤامرة فيه ولا تدبير!
وربما تردُّ عليَّ وتسأل: ألم يذكر الله تعالى المكر ومكر أهل الشر في كتابه
مراراً، وهذا بمثابة المؤامرة؟
والجواب: نعم! ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أن مكر الأشـرار حاصل،
ومؤامراتهم لا تتوقف كما قال جلَّ جلاله {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا
أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ
لَـمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: ٣٣]، وقال
سبحانه {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْـجِبَالُ} [إبراهيم:
46]،
وقال عز من قائل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ
مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ} [الأنعام:
123]
والآيات في ذلك كثيرة.
لكن تنبه؛ فكما علمنا أصول الفقه والاستدلال، ألَّا نأخذ بالدليل حتى نضم إليه
شبيهه ونظيره وناسخه ومقيده، حتى تتضح لنا الصورة كاملة ونفهمها فهماً صحيحاً، بل
يتأكد ذلك لو كان الأمر يتعلق بصفات الله سبحانه وأسمائه.
فحين ننظر في آيات المكر السابق ذكرها وغيرها، ربما لو قرأتها من غير نظيراتها
وشبيهاتها، لم تحسن فهمها، ولن تقف على حقيقة معنى المكر في كتاب الله، ولتوضيح
المراد بالمعنى اقرأ هذه الآيات أيضاً في المكر: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
وَاللَّهُ خَيْرُ الْـمَاكِرِينَ} [آل عمران:
54]،
وقال سبحانه {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ
بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ
وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:
26]،
وقال عزَّ وجلَّ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:
127]،
{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:
51]،
{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ
أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:
10].
قال الحافظ بن كثير في هذه الآية (فاطر: 10):
«أي:
يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسرَّ عبد سريرة إلا
أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسرَّ أحد سريرة إلا كساه الله
رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي،
أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا
تخفى عليه خافية».
والآيات كثيرة، فإذا قرأت هذه مع ما سبق، علمت يقيناً أنه ما من حادث يحدث، سواء
كان صغيراً أم كبيراً، إلا بعلم الله ومراده، ولا يضرنا مكـر الماكرين بدين الله في
الأرض، بل إن الله ردَّ على الكافرين مكرهم في آية فذَّة فقال سبحانه: {إنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:
36]
وهذا أعظم تصوير واقعي عملي لمكر الخبثاء بدين الله، وأعظم طمأنينة للمؤمنين؛ فالله
يعلم ما يمكرون، وليست الحوادث تقع بمرادهم، ولا الأمور تجري بضغطة زر منهم، فكل
سبب يمكر أهل الشر به بدين الله، من إعلام وصحافة وترويع وإرهاب ورشوة وسلاح ...
إلخ، إنما هو بعلم الله، وكلها خطوات تحتاج إلى أموال وتمويل طائل لا ينضب، ولا
تنضب معه حسرتهم!
فلا تغترن بمكر سوء، ولا كثرته، ولا تنسَ قدرة الله في خلقه؛ فما يحدث في العالم
الآن من كوارث اقتصادية وعسكرية ومرضية واجتماعية، لا يسعنا في هذا المقال أن
نبينها تفصيلاً، يقيناً هو بسبب مكر الله بهم، فمهما دبروا بليل، فربُّ الليل
والنهار مطَّلع عليهم وعلى ما تخفي صدورهم، سبحانه وتعالى لا يغفل ولا ينام.
(4)
من النماذج الأخرى للفراغ الإيماني، وهو مشهور جداً الآن، الاعتقاد فيما يُعرَف
بالطاقات السلبية والإيجابية الحيوية أو الكونية، فتجد الناس الآن يعتقدون حتى في
لون الحائط، والمحفظة، إذا كان لونها كذا فإنها تجلب كذا وكذا، ويعتقدون في مواضع
الأشياء والأثاث في المنازل والبيوت، فلو كان كذا قريباً من كذا، حدث كذا وكذا...
وهكذا. بل إن بعضهم ربما لا يجلس بجوار أخ له، وامرأة ربما قطعت أختاً لها، بسبب
الحزن الذي ألمَّ بها، وتقول إن هذه المرأة تحوي كمّاً من الطاقة السلبية الذي قد
يعديني، بدلاً من أن تخفف عنها، وتعديها هي من طاقتها الإيمانية، لو صح التعبير،
فتأخذ الأجر والمثوبة من الله!
إن مصطلح الطاقة الإيجابية والسلبية، أصبح منتشراً جداً بين جموع المسلمين، وهم لا
يعلمون أن هذا النوع من الطاقة لا يعترف به أحد من علماء الفيزياء التجريبية أصلاً!
بل فيه من الضلالات والشرك بالله ما الله به عليم، فبجانب مخالفـة هذا الكلام
للعقيدة والإيمان، فإنه لم يقم عليه أي دليل علمي تجريبي أيضاً، فأصل ذلك الكلام آت
من أماكن وثنيـة بالصين والهند والتبت، لا تؤمن بالله أصلاً، بل تؤمن أن الكون نتج
عن تفاعل الطاقتين معاً (الإيجابية والسلبية)، ثم يلبسون على الناس بأنهم يمكنهم
قياس تلك الطاقات بأجهزة مخصوصة... بل تمادى الأمر أكثر من ذلك فزعموا أنهم يمكنهم
شفاء وعلاج الناس باستخدام هذه الطاقات، فصنعوا أساور وخواتم وقلادات، لموازنة
الطاقات بالجسم بزعمهم، وهذا كله كلام لا أصل له، لا في العلم التجريبي البحت، ولا
في دين الله.
بل الله سبحانه يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ} [الزمر:
62]،
ويقول سبحانه {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:
43]،
وقال سبحانه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلَّا
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلَّا
فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:
59]
، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة، والتشاؤم، وعن تعليق التمائم والخرز
والأشياء التي كان يفعلها أهل الجاهلية يظنون أنهم بذلك يدفعون شراً أو يجلبون
خيراً، والأمر كله لله، والأسباب بيده وحده سبحانه، ومن أراد التغلب على الحزن
والكآبة، عمل بما أمره الله، وتزود من الإيمان والتقوى، فالقرآن شفاء لما في
الصدور، والشريعة كلها خير للنفس الإنسانية، ومن تقرب إلى الله قرب الله منه.
فائدة:
عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم رَأَى رَجُلاً فِي يَدِهِ حَلْقَةٌ مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ:
«مَا
هَذِهِ الْحَلْقَةُ؟»،
قَالَ: هَذِهِ مِنَ الْوَاهِنَةِ، قَالَ:
«انْزِعْهَا
فَإِنَّهَا لَا تَزِيدُكَ إِلَّا وَهْنًا»[2].
والحلقة خاتم، أو مثل السوار أيضاً كان يلبس في العضد، يعتقد أنه يشفي الأمراض،
وقوله هذه الواهنة أي التي تزيل الوهن أو التعب وتذهب به.
(5)
ومن هذه النماذج أيضاً للفراغ الإيماني، قضية استعجال التغيير، واستبطاء النتائج
عند الأخذ بالأسباب الشرعية، وأنا أتحدث ههنا عن مسألة اللجوء للتغيير بـ (السلاح)
كنوع من الحلول (المتوهمة) لإحداث التغيير من القمة، وهو ما عرف في التاريخ
الإسلامي بـ (الخروج على الحكام).
وهذه الآلية في إحداث التغيير لم يأتِ من ورائها خير أبداً على مرِّ التاريخ، ولم
تنجح تجربة واحدة لهذه الآلية على مر الزمن منذ قام الخوارج على سيدنا علي بن أبي
طالب رضي الله تعالى عنه، إلى اليوم!
ورغم هذه الحقيقة تجد الشباب - هداهم الله - متحمسين جداً لهذه التجربة، بسبب
الفراغ الإيماني، فهم ذُهلوا عن قدرة الله في كونه، ونسوا أنه لن يحدث شيء أراده
الله من عباده إلا من خلال سنته التي شرعها، والتي أجراها على لسان وأفعال أنبيائه،
ومنهجهم المشروع في إحداث عملية التغيير.
وعملية التغيير المنشودة للمجتمعات، لم يبدأها نبي بحمل سلاح، ولم يحاول نبي أن
يبدأ التغيير من أعلى بالقوة، بل بالنصيحة والدعـوة الحسنة والصبر على أقدار الله
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا
خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِـمُونَ} [العنكبوت:
14]،
وكان ذلك، والحال بسيطة والأمور ليست بهذا التعقيد الذي عليه العالم الآن. ولعل
كلام السيد علي عزت بيجوفيتش - رحمه الله - في إعلانه الإسلامي خير ما يقال في هذا
المقام، وخير ما يستشهد به، فهو رجل كان حاكماً لدولة مسلمة، حمل السلاح، وجاهد،
وعلم من أمور السياسة والحرب ما يعطيه الحق في الإدلاء بكلمته في هذه المسألة
فيقول:
«لا
أحد يملك الحق لتشويه وجه الإسلام ولا الإساءة إلى هذا الجهاد باستعمال العنف
الجامح والإسراف في استخدام القوة، وعلى المجتمع الإسلامي أن يؤكد من جديد أن
العدالة أحد أسسه الراسخة. والغاية النبيلة لا يمكن الوصول إليها بوسائل دنيئة، كما
أن استخدام الوسائل الدنيئة من شأنه أن يحط من أي غاية ويعرضها للخطر، وكلما ارتقت
أخلاقنا قلَّت حاجتنا لاستعمال العنف. والعنف في مجال العقيدة سلاح يلجأ إليه
الضعفاء، وما لا يمكن تحقيقه بالقوة، يمكن تحقيقه بالكرم والثبات والشجاعة... وتسلم
السلطة نتيجة توافر مجموعة من الظروف المواتية دون إعداد أخلاقي ونفسي كافٍ، ودون
توافر الحد الأدنى الضروري من الأفراد المدربين تدريباً عالياً متيناً يعني إحداث
انقلاب آخر وليس ثورة إسلامية، والانقلاب إنما هو استمرارية للسياسة غير الإسلامية
مما تقوم به المجموعات الأخرى أو باسم مبادئ أخرى غير المبادئ الإسلامية»[3].
ولأن هذا الطريق - أعني طريق الدعوة والإصلاح - طريق شاق وطويل ووعر، ويحتاج إلى
إيمان كالجبال وصبر ووقت طويل، يقع بعض الناس في هوة الفراغ الإيماني، ويتسرعون
باستخدام آلية الجهاد، بغضِّ الطرف عن نتائج ذلك، وبغضِّ الطرف عن أن قيام دولة على
منهاج النبوة لن يكون إلا على طريقة الأنبياء والرسل وهو الدعوة الحسنة للناس -
القاعدة العريضة - وحسن تربيتهم أخلاقياً وإيمانياً.
(6)
ومن نماذج الفراغ الإيماني، شدة تقدُّم الغرب الذي أبهر المسلمين، وفتنهم فتنة
شديدة، لدرجة قد ينكر معها بعض الناس أن يعذب الله مثل هؤلاء، أو أنهم أحق بالجنة؛
نظراً لنفعهم البشرية بهذا الكم من الاختراعات والتقنيات المذهلة.
بل تمادى مدَّعو التنوير الآن واتهموا الدين أنه سبب تخلُّف المسلمين!
ونَسُوا قول ربهم: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:
221]
فالمؤمن العبد، ليس الحر، خير عند الله من ملء الأرض من أمثال كل علماء الغرب وقد
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة أحسن البيان، في حـديث مسلم عن عائشة
- رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم،
ويُطعِم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال:
«لا
ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»؛
يعني: مهما بلغ الكافر من أعمال برٍّ ونفع لخلق الله، فإن ذلك لا يعلو على الكفر
بالله؛ فما الذي ينفع رجلاً قد نفع الناسَ ببره وعلمه، وهو كافر بربه، مشرك به؟
ونحن لا ننكر تأخر المسلمين الآن علمياً وتقنياً، وهم في حاجة إلى تدارك ذلك، لكنَّ
تأخُّرهم الحقيقي كان بسبب تخليهم عن دينهم، وعن أمر الله بالعمل والسير في الأرض
وعمارتها، فالمسلمون كانوا سادة العالم علمياً وتقنياً لقرون، وحضارة الغرب إنما
قامت على علوم المسلمين، كما قامت علوم المسلمين على علوم الروم الفرس والروم، التي
قامت على علوم من سبقهم، حتى يصل الأمر مسلسلاً إلى قول الله تعالى {وَعَلَّمَ
آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:
31].
[1] ولا نقول شك، فالشك في قدرة الله تعالى كفر، لكن نقول قد يذهل المسلم عن ذلك
أو يغيب عنه، ويحتاج فقط إلى أن يُذكَر فيتذكر.
[2] أخرجه ابن ماجة في سننه (3531). وروي ذلك موقوفاً على عمران، وهو أصح من
المرفوع وله حكمه، فقد رواه أبو بكر الخلال في سننه عن عمران موقوفاً وفيه زيادة:
«وَلَوْ
متَّ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهَا نَافِعَتُكَ، لمتَّ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْفِطْرَةِ»
وسماع الحسن البصري من عمران بن الحصين صحيح.
[3] الإعلان الإسلامي، (ص128 - 129).