الحياء تاج وزينة

«الحياء من أفضل الأخلاق، وأجلِّها وأعظمها قدراً، وأكثـرها نفعـاً، بل هو خاصَّة الإنسانية؛ فمَن لا حياء فيه، فليس معه من الإنسانيَّة إلَّا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة»

الحياء مَكْرُمةٌ من معالي الأخلاق، وهو شعور بانقباض النَّفْس، يدفع صاحبه لعدم التقصير في الحقوق، واجتناب ما يَأْباه الأدب والكرامة؛ لِئَلَّا يُعَاب ويُذَم[1].

والحياء من لوازم الفطرة التي مَيَّز الله تعالى الإنسان بها، ولذا وجدنا أهل الجاهلية يمتدحون الحياء ويتحرَّجون من القبائح، كقول الشَنْفرى مادحاً حياء امرأةٍ:

كأنَّ لها في الأرْضِ نِسْياً تَقُصُّه

على أَمِّها، وإِنْ تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ

نِسْياً: شيئاً مفقوداً، تَقُصُّه: تتبع أثره، أَمِّها: قصدها، تَبْلَتِ: تقطع الحديث. والمعنـى: إذا مشت فعيناها لا تتركان النظر إلى الأرض؛ كأنها أضاعت شيئاً وتبحث عنه، وإذا تكلمت فلا تطيل الكلام استحياءً.

والأسوياء من الناس يستثمرون الحياء في نفوسهم ويُزكُّونه. ومن البشر مَنْ يَتَنَكَّر الحياء ويُغَيِّبُه حتى يصير صَفِيقاً بَلِيد الحس والشعور؛ وإذا انسلخ الإنسان من الحياء صار ميتاً وإن كان يمشي على قدمين، قال ابن القيم: «الحياء من أفضل الأخلاق، وأجلِّها وأعظمها قدراً، وأكثـرها نفعـاً، بل هو خاصَّة الإنسانية؛ فمَن لا حياء فيه، فليس معه من الإنسانيَّة إلَّا اللَّحم والدَّم وصورتهما الظَّاهرة»[2]

وقالت باحثة البادية:

إنَّ الفتاة حديقةٌ، وحياؤها

كالماء موقوفاً عليه بقاؤها

 وحياة القلب والروح رهينة بخُلُق الحياء؛ فكلما كان القلب أَحْيَا كان الحياء أَتَمَّ؛ ولهذا كان الحياء والإيمان صِنْوان، وفي الحديث: «الحيـاء والإيمان قُرَناء جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر».[3]

والحياء من الأخلاق التي اتفقت الشرائع على سُمُوِّها، وهو مطلوب في الرجل والمرأة معاً، غَيْر أنَّه أشدُ طلباً في النساء؛ فهو آكَد صفات المرأة العفيفة الطَّاهرة، به تصون نفسها بعيداً عن الفُحش والبَذَاءَة، وتترفع عن مواطن الرِّيْبة، فتسلم من المثالب والمعايب، وتَكْبر في أعين الناس كلما رأوا الحياء فيها كبيراً، فيصبح الحياء حصنَها الذي يحميها من السفهاء، وسياجَها الذي يحفظ عليها وعلى قومها العزة والشرف والكرامة، ولذا فما يُتَصَوَّر امرأة صالحة إلا والحياء زينتها، بل هو تاج فخارها ومجدها.

ولفضل الحياء اتصف به سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم  إذ «كان أشدَّ حياءً مِن العَذْراء في خِدْرِها»[4]، واتصف به سائر الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ الناس من كلام النُّبُوَّةِ الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت»[5]، كما اتصف به الملائكة الكرام إذ كانت تَستحي مِن عثمان بن عفان رضي الله عنه[6]، بل إنه من صفات الله جل جلاله، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ ربكُم حَييٌّ كريمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عبدِه إذا رَفعَ يَدَيهِ إليه أن يَرُدَّهما صِفْراً»[7]، ولكن الحياء في حق الله تعالى لا تُدركه الأفهام، ولا تُكَيِّفُه العقول؛ فإنه حياء كرمٍ وبرٍ وجلال[8]

وبلغ اهتمام الإسلام بالحياء أنْ جَعَلَه شعاراً لهذا الدين حيث قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ لِكُلِّ دينٍ خُلُقاً، وَخُلُقُ الإسلام الحياء»[9]، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم  بأنه زينة كل شيء تَلَبَّس به، فقال: «ما كان الحَيَاء في شيءٍ إلَّا زَانَهُ»[10]. ولَـمَّا كان الحياء سبباً في كل خيرٍ وحاجزاً عن كل شرٍ خَصَّه النبي صلى الله عليه وسلم  بالذِّكْر دون بقية شُعَب الإيمان، فقال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وستُّونَ شُعْبَةً، والحياء شعبةٌ مِن الإيمان»[11].

فتور الحياء ودواؤه:

تَفَنَّنَ كثيرٌ من أعوان الشياطين - وما يزالون - لتجريد المرأة من حيائها، فأَغْوَوْهَا لتَعرِض مفاتنها لكل عينٍ تَنْهَشُها، وجعلوها وسيلةً لإثارة الغرائز وتحريك الشهوات، وزيَّنُوا لها تقليد غير المؤمنات، بزُخْرُفٍ من القول وزَيْفٍ من الشعارات، والإنسان حينما يفقد حُمْرَةَ الخجل، ولا يبالي ما يقول أو يفعل، تغلبه الوقاحة ويتدرج في دَرَكَات الشر من سَيِّئٍ إلى أرذل، حتى ينتهي إلى عاقبة السُّوء، قال سلمان رضي الله عنه: «إنَّ الله تعالى إذا أراد بعبد شَرّاً، أو هَلَكَةً، نَزَعَ منه الحياء، فَلَمْ تَلْقَهُ إلا مَقِيتاً مُمَقَّتاً، فإذا كان مَقِيتاً مُمَقَّتاً نُزعت منه الرحمة، فَلَمْ تَلْقَهُ إلا فظّاً غليظاً، فإذا كان كذلك نُزعت منه الأمانة، فَلَمْ تَلْقَهُ إِلَّا خَائِناً مُخَوَّناً، فإذا كان كذلك نُزعت رِبْقَةُ الإسلام من عُنُقِهِ، فكان لَعِيناً مُلَعَّناً»[12].

ولله دَرُّ مَنْ قال:

إذَا لَمْ تَخْــــشَ عَاقِبَةَ اللَّيَــــــالِي

وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

فَلَا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ

وَلَا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ

يَعِيشُ الْـمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ

وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

وإذا كان المفسدون يَرُومون طَمْسَ الحياء المركوز في فطرة المرأة، فالواجب عليها أن تجاهد هذا المكر الدَّنِيء وتُنَمِّي في نفسها خلق الحياء بالمجاهدة والمحاسبة، وتزكية الروح بالأهداف والأفكار السَّامية؛ وأن تتفكر في نعم الله وإحسانه، وأن تراقب الله تعالى في السر والعلن، قال ابن القيم: «العبد متى علم أن الرب تعالى ناظرٌ إليه أَوْرَثَهُ هذا العلم حياءً منه»[13]، وينبغي أيضاً صُحْبة الصالحات والتَخَلُّق بأخلاقهن، قال مجاهد: «إن المسلم لو لم يُصِبْ من أخيه إلَّا أن حَيَاءَهُ منه يمنعه من المعاصي لَكَفَاه»[14].

أوهام ليست من الحياء:

تَوَهَّم بعض الناس أنَّ في حياء المرأة خوفاً وضعفاً، والحقُّ أنَّه لو كان في الحياء شيءٌ من الخوف فهو خوف الحريصة على نزاهتها أن تقدح فيها السَفَاسِف والدَّنايا، فليس الحياء منقصةً أو جُبْناً بل هو الشجاعة في أسمى صورها؛ إذ قد تخاطر العفيفة بحياتها دفاعاً عن حيائها.

وتَوَهَّم بعض الناس أن الحياء يدفع إلى الإخلال ببعض الواجبات، وهذا باطلٌ؛ فإنَّ المانع من القيام بأوامر الله ليس بحياءٍ؛ بل عجزٌ ومهانةٌ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  بَلِيْغ الحياء، ومع ذلك فلم يمنعه من الحق مانعٌ، وأما مَنْ فَرَطَ عليها الحياء حتى منعها من الحق فقد تركت الحياء من الله تعالى[15].

وتَوَهَّم بعض الناس أنَّ الحياء يمنع المرأة من التَفَقُّه في دينها، وهذا خطأ، وليس حياءً مشروعاً؛ فلم يمنع الحياء امرأةً أنصاريةً أن تأتي النبي صلى الله عليه وسلم  وتسأله كيف تتطهر من المحيض، وكيف تغتسل، فقالت عائشة: «نِعْمَ النساء نساء الأنصار لم يَكُن يَمْنَعْهُنَّ الحياء أن يَتَفَقَّهْنَ في الدين»[16]، وجاءت أُمُّ سُلَيْمٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقالت: «يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق»، ثم سألته عن غُسْل المرأة إِذَا احْتَلَمَتْ[17].

نماذج مشرقة لحياء العفيفات:

ومما يُزَكِّي الحياء في طباع المرأة تَمَثُّلها برموز الحياء الرفيعة، ومنها:

أولاً: ما قَصَّه علينا القرآن في سورة القصص من شأن بنتي شعيب مع موسى عليه السلام، والقصة فيها من مظاهر الحياء ما ينبغي أن يكون محلاً للاقتداء: {وَلَـمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: ٣٢] فقد خرجتا لسقي أغنامهما وكانتا {تَذُودَانِ} أي: تُبعدان غنمهما عن الماء، وتنتظران فراغ الرِّعاء من السقي؛ لأنهما تكرهان مزاحمة الرجال ومخالطتهم، وقيل: تذودان عن وجهيهما نَظَرَ الناظر لتَسَتُّرِهما[18]، ولَـمَّا سألهما موسى عن شأنهما، ذكرا له أنَّ الضرورة هي التي ألجأتهما للسَّقي {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، وبعد أن سقى لهما موسى عليه السلام وعرف أبوهما ما حدث، {فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: ٥٢] أي: مُستَحْييَّةٌ كأن الحياء بساطٌ تمشي عليه، ساترةٌ وجهها بِكُمِّ ثوبها، ليست بِسَلْفَع - والسلفع: الجريئة على الرجال - وتمشي مشية مَنْ لم تَعْتَدِ الخروج والدخول، وقيل: مَاشِيَةٌ على بُعْدٍ عن الرجال، ونادته من بعيدٍ {إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: ٥٢] ، فلم تتكلم إلا في حدود الضرورة، وتأدَّبَت في العبارة فلم تطلبه طلباً مُطْلَقاً لئلا يُوهم رِيْبَةً، بل قالت في حياءٍ إن أباها يدعوه ليثيبه على ما صنع[19].

ثانياً: حياء أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي بلغ أنها تستحي من رجلٍ بعد موته، حيث قالت: كنت أدخل بيتي الذي دُفِنَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي، فَأَضَعُ ثوبي، وأقول: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فلما دُفِنَ عمر معهما، فَوَاللهِ ما دخلتُه إِلَّا وأنا مَشْدُودَةٌ عليَّ ثيابي، حياءً من عمر رضي الله عنه[20].

ثالثاً: وكانت فاطمة الزهراء رضي الله عنها تستحي أن تُشَيَّع إلى قبرها بعد موتها فوق خشبةٍ لا جوانب لها، فلا يُسْتَرُ حجمُ الجسم عن المشَيِّعِين، فقالت لأسماء بنت عميس: «إِنِّي قد اسْتَقْبَحْتُ ما يُصْنَعُ بالنساء؛ إنه يُطْرَحُ على المرأة الثوب فيَصِفُها، فقالت أسماء: يا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ! أَلَا أُرِيكِ شيئاً رَأَيْتُهُ بأرض الحبشة؟ فَدَعَتْ بِجَرَائِدَ رَطْبَةٍ فَحَنَّتْهَا، ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة رضي الله عنها: ما أحسن هذا وأجمله! تُعرف به المرأة من الرجال»، فلما تُوفيت فاطمة وضعوها في نعش مُغَطَّى من جوانبه يشبه الهودج كي يسترها، فكانت أول مَن صُنِع نَعْشُهَا من النساء في الإسلام على تلك الصِّفَةِ[21].

بمثل تلكم النماذج الراقية في الحياء يجب أن تَحْتَذِي المرأة؛ فإنها إذا اكتست بالحياء اهتدى باستقامتها خلقٌ كثيرٌ، ووَقَتِ الأمةَ ما يُكَاُد بها مِن شرٍ مستطيرٍ.

 


 


[1] التعريفات للجرجاني (ص94)، دار الكتب العلمية بيروت، ط. الأولى، فتح الباري لابن حجر (1/ 52)، دار المعرفة، بيروت.

[2] مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية (1/ 277)، دار الكتب العلمية، بيروت.

[3] الحاكم (58) وصحَّحه، ووافقه الذهبي.

[4] البخاري (3562 )، ومسلم (2320).

[5] البخاري (6120).

[6] مسلم (2401).

[7] أبو داود (1488)، والترمذي (3556) وحسَّنه.

[8] مدارج السالكين لابن قيم الجوزية (2/ 250)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثالثة.

[9] ابن ماجة (4181)، وصحَّحَه الألباني.

[10] الترمذي (1974) وحسَّنه.

[11] البخاري (9) بلفظه، ومسلم (35).

[12] الأصفهاني في حلية الأولياء (1/ 204).

[13] مدارج السالكين (2/ 253).

[14] ابن أبي شيبة (35451).

[15] فيض القدير للمناوي (1/ 487)، المكتبة التجارية، مصر، ط. الأولى.

[16] مسلم (332)، كما أخرجه البخاري (314) دون قول عائشة إذ أورده معلقاً.

[17] البخاري (130)، ومسلم (313) .

[18] البحر المحيط لأبي حيان (8/ 296)، دار الفكر، بيروت، ط. 1420 هـ.

[19] زاد المسير لابن الجوزي (3/ 380)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الأولى. مفاتيح الغيب للرازي (24/ 590) دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط. الثالثة، تفسير ابن كثير (6/ 228)، دار طيبة، ط. الثانية.

[20] أحمد (25660)، والحاكم (4402)، وصحَّحه.

[21] الاستيعاب لابن عبد البر (4/ 1897)، دار الجيل، بيروت، ط. الأولى.

أعلى