الرؤيا

الرؤيا

 

لمْ يكن سعيداً كما كان بعضهم يتخيل؛ فقد سكنه الرعب، وطاردته المخاوف. بل سجن نفسه بنفسه، وكتب شهادة وفاته بيده، وحفر قبره بأظافره منذ أن أطاح بسلفه؛ فكان إذا أكل شيئاً خاف أن يكون قد وُضِع له فيه السم، وإذا نام خاف أن يُغتال، وكثيراً ما كان يحجم عن المشاركة في المناسبات العامة، وإن خرج ظل متوجِّساً من أقرب الناس إليه؛ لأنه كان يعي تماماً أنه انتزع حقاً ليس له، ونصَّب نفسه (عمدة) بالقوة والإكراه.

لم يكتفِ بهذا، بل وصل به الجشع أن استولى على مزرعة لطفلين يتيمين، كما اغتصب أرضاً تابعة لمدرسة القرية، ثم ما لبث أن هدم جزءاً من المدرسة نفسها ليضمه إلى أملاكه.

وفي سبيل ذلك استخدم كل أساليب التخويف لإرهاب خصومه ومناوئيه، فلم يسلم منه أحد، حتى أقرب الأقرباء بمن فيهم أخوه (الصياد)؛ الذي أنفق كل شيءٍ من أجله؛ فقد استولى على ميراثه، وأهانه أمام الناس، وأمهله حتى الصباح ليغادر القرية إلى الأبد!

وأثناء خروجه من القرية مُنكسراً حزيناً، مر على «شيخ الجامع» ليقص عليه رؤيا كان قد رآها، فوجده قائماً يصلي في المحراب، فانتظره حتى فرغ من صلاته، ثم حكى له ما رأى. فسكت برهة، ثم سأله: متى رأيت ذلك؟ قال: الليلة الماضية. فقال: أبشر - أيها الحبيب - ربما يصيبك بعض الأذى، لكن ستنتصر في نهاية الأمر، وسيكون لك شأن كبير.

عندما علم الناس باختفاء الصياد فجأة أصيبوا بخيبة أمل شديدة، وصدمة عنيفة، لفقدهم النصير والمعين الذي طالما ضحَّى بالكثير من أجلهم. فلم ينسوا أبداً شهامته ومواقفه الجريئة؛ فقد كان يضرُّ نفسه لينفع غيره، ولن ينسوا كرمه الذي صار مضرب الأمثال؛ فكان إذا اصطاد سمكاً، أهداه لأي عابر سبيل.

لقد مرت سنوات عجاف، والقرية ترزح في العنت والاستبداد حتى بلغ اليأس بالناس مبلغه. فالعشرات بل المئات هجروا القرية دون رجعة، ومن بقي استسلم لجبروت العمدة وبطانته الفاسدة؛ خاصة بعدما رأوا ما حدث لناظر المدرسة الذي جلده العمدة في الطريق العام، ثم أمر بحبسه شهراً كاملاً، كما تورط في قتل طبيب الوحدة الذي أبى أن يبيع ضميره.

ولما استفحل طغيان العمدة لم يستطع الشيخ السكوت بحال من الأحوال، فحرَّض الناس عليه، وانتقده بشدة في آخر خطبة من شعبان، وقال بالحرف الواحد: ليت هذا المفتري يتعظ ممن هو أشد منه بطشاً، وأكثـر جمعـاً؛ فـ «فرعون» لم يغنِ عنه سـلطانه، و «هامان» لم تغنِ عنه وزاراته، و «قارون» لم تغن عنه كنوزه وثروته.

فلمَّا رجع إلى منزله رآه مهدوماً، فرفع بصره إلى السماء ونادى بصوت مكلوم: يارب! داعياً الله أن يهبه الصبر، ويفرِّج كربه.

بعدئذٍ توجه غاضباً لمقابلة العمدة، وفي منتصف الطريق - تقريبا - استوقفه «بائع اللبن» ليقص عليه رؤياه، فقال: بعد انقضاء صلاة الجمعة مباشرة، أخذتني غفوة، فرأيت (موسى بن عمران) واقفاً على مشارف القرية.

فجذبه بقوة، وقال متلفهاً: لو كنت صادقاً في ما تقول، فإن ظالماً سيهلك قريباً، وما أرى أظلم من العمدة. وبالفعل لم تغرب شمس ذلك اليوم، حتى اغتيل «العمدة» على يد ابنه الأشقى.

لم تستقر الأحوال بمقتل العمدة كما تمنَّى الناس، بل تفاقمت سوءاً، وتلظَّوا على جمر صبر؛ فـ (العمدة الجديد) كان أظلم وأطغى بل إن ظلم أبيه بجوار ظلمه يُعدُّ رحمة.

لكن بعد مرور أقل من شهر واحد على جلوسه على الكرسي رأى رؤيا أفزعته بشدة وأقضَّت مضجعه، فلم يجرؤ على أن يذهب إلى الشيخ ليحكيَها له بسبب العداوة القديمة، لكنه أرسل واحداً من خدمه، وطلب منه ألا يُخبره أن العمدة هو الذي رأى الرؤيا.

ذهب الخادم وقص الرؤيا كاملة فأطرق الشيخ قليلاً ثم سأله: أأنت الذي رأيت أم العمدة؟ قال: بل أنا. فقال له: كذبت، ارجع إلى صاحبك وقل له: إن مصيرك مثلُ مصير والدك.

بمجرد أن سمع الخادم ما سمع انتفض على الفور، وأصفر وجهه، وولى مُدبراً!

وقبل وصوله إلى هناك ببضعة أميال، سمع بمقتل العمدة.

في صبيحة يوم عيد الفطر كان الصياد قد اشتاق لرؤية أصدقائه ومحبيه! فدخل القرية على حين غفلة من أهلها. فراودته نفسه بالرجوع؛ خشية أن يَفْرُط عليه العمدة أو أن يطغى، لكنه سمع هرجاً ومرجاً وفوضى عارمةً، فتوقع أن العمدة ارتكب حماقة أخرى، أو أن مصيبة ما حلَّت بالقرية بالبائسة! فهرول نحو الجموع المحتشدة على طول الطريق العام. وبمجرد أن رأوه، تسابقوا نحوه فرادى وجماعات، واستقبلوه بشوق عارم، وحفاوةٍ بالغة.

هناك علم أن القرية كلها كانت تبحث عنه، وتتمنى عودته. فاختاروه في الحال عمدةً لهم، وعانقه «الشيخ» مبتهجاً ومهنئاً وقال - ووجهه يتهلل، وقلبه يخفق بحكايات قديمة -: هذا تأويل روياك التي رأيتها قبل ثلاثين عاماً.

  

أعلى