• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الحَلْقَة المفقودة

الحَلْقَة المفقودة

يقول - تعالى - في كتابه العزيز {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] وفي الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[1]. هذان النصان الكريمان يجسدان حركة الحياة التي كانت سائدة آنذاك؛ حيث كانت القيادة والأفراد على قلب رجل واحد؛ لا توجد انقسامات ولا تحزُّبات ولا حَلْقَات مفقودة بين الرأس وسائر أعضاء الجسد، وهذا ما أغاظ بعض اليهود؛ فحاول أن يستغل بعض الماضي ويوظفَه لزعزعة الحاضر وإقلاق المستقبل، فدسَّ بين الصفوف من يذكِّرهم بيوم بُعَاث حتى اشتد القوم وكادوا أن يهلكوا، حينها بادر النبي صلى الله عليه وسلم لاحتواء الموقف وسرعة معالجته حتى هدأت النفوس وسكنت.

إن المجتمعات - سواء كانت صغيرة أو كبيرة، دعوية كانت أو تنظيمية - إذا لم تتصل الحلقات بين الأفراد والقيادات فيها، وبقيت هناك حلقات مفقودة بين الطرفين، فستظهر الإشكالات والقلاقل؛ ومن أبرزها الثرثرة الجانبية في ما بين الأفراد، وهو ما ينعكس بدوره على أداء الأفراد وحيويتهم وفعاليتهم مع دعوتهم، وربما تفاقمت الأمور ووصلت إلى حدِّ تبادل الملامة والتهم بين الأطراف العليا والأفراد وتحميل كل طرف مسؤولية الفشل؛ ففي غزوة حنين (هوازن) - مثلاً - نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصلته بعض الأقاويل من بعض أتباعه الشباب على بعض الإجراءات؛ وهي تقسيم الغنائم على قريش وبعض قبائل العرب وتَرْك الأنصار؛ حيث وجد الأنصار في أنفسهم من هذا التصرف، وأخبر سعد بن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله الأنصار، فطلب منه أن يجمع له قومه، ثم جاء صلى الله عليه وسلم فقال: «ما قالة بلغتني عنكم وجِدَةٌ وجدتموها في أنفسكم: ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألَّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟ قال: أما والله! لو شئتم لقلتم فلَصدَقْتم وصُدِّقْتُم: أتيتنا مُكَذَّبا فصدَّقْناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك. أَوَجَدْتُم في أنفسكم - يا معشر الأنصار - في لُعَاعَةٍ من الدنيا، تألَّفْتُ بها قوماً ليُسلموا وَوَكَلْتُكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون - يا معشر الأنصار - أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً، وسلكتِ الأنصار شِعْباً لسلكتُ شِعْبَ الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار! قال: فبكى القوم حتى أَخْضَلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسْماً وَحَظّاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا»[2].

تمعَّن - يا رعاك الله - في هذا المجلس الأخوي العظيم؛ إنه - والله - موقف المربي المحب الرؤوف الرحيم قبل أن يكون موقف القائد الحاسم الحازم، وانظر لهذا العتاب الجميل الممزوج بكل معاني الحب والوفاء لهذا الحي العظيم؛ لقد استحقوا أعظم تكريم وأجلَّه، وهو أعظم من كل غنيمة في الغزوة. هنا يبرز تقدير القائد الفطن لاحتواء أي مؤشرات من شأنها أن تخلق حالة مثل فَقْد الحَلْقات بين الأفراد وقادتهم، ولسرعة التفادي وعدم ترك مساحة يستثمرها الشيطان لتتسع الحَلْقة وتكبر.

وكان من هَدْيه صلى الله عليه وسلم حرصُه على ردم هذه الهوة بينه وبين أتباعه؛ فلا يسمح بوجود مثل هذه الحَلْقة المفرغة، ومن الأَوْلى أنه لم يكن يسمح باتساعها وكِبَر مساحتها؛ فكان هو من يبادر إلى إزالة هذه الحلقة وهو من يبدأ تعزيز الثقة والتواصل الإيجابي بينه قائداً ومربياً وموجهاً، وبين أتباعه أفراداً وأتباعاً وفريقاً؛ لأن القائد هو من تُلقَى على عاتقه إزالة هذه الحلقات بينه وبين الأفراد. فكان صلى الله عليه وسلم يراعي الأمور التي هي دقيقة هامشية في تصوُّر بعض الناس اليوم، ويعطيها حجمها من الاهتمام والرعاية؛ ولا أدل على ذلك من صلاته على المرأة السوداء[3] التي كانت تقمُّ المسجد (أي: تنظفه) عندما افتقدها فسأل عنها فقيل: ماتت من الليل ودُفنت، وكرهنا أن نوقظك، فذهب إلى قبرها وصلى عليها. إن هذا التصرف نابع من حرصهم على عدم إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم كما صرَّح به في الرواية، وأيضاً لشعورهم بأن المرأة لم تبلغ تلك المنزلة والمكانة التي تستوجب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كهذا، كما في رواية مسلم الذي قال: «فكأنهم صغروا أمرها أو أمره»[4].

وهنا يأتي دور المربي الذي لا يعرف بين أنصاره فئة هامشية لا تستحق أكثر من فتات وقته، متعذراً بمشقة المهام وجسارتها، إنه صلى الله عليه وسلم يرسل الرسائل من خلال هذا الحرص والاهتمام بالأفراد مهما كان دورهم وترتيبهم في سُلَّم أولوياته إلى كافة الأفراد والأتباع؛ أنهم شركاء في مشروع البناء ومن ثَمَّ لا بد أن تتصل جميع الحلقات حتى يكتمل البناء ويثبت، ويحرص أيضاً على أن يستفيد أصحابه مما أعطاه الله وحباه من العطايا والمزايا فيسخِّرها لهم ويوظفها لأجلهم، وإن غيَّب الواحدَ منهم الموتُ، فإن هذا من شأنه أن يجعل الأفراد يلتفُّون حوله ويتصلون به وينضمون إليه، فقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وصلى على أهله ودعا لهم وقال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم».

لقد جمع صلى الله عليه وسلم بين وظيفتين عظيمتين وهما: القيادة والتربية، ولا تجتمعان في كل أحد؛ فمن جمعهما لم يفقد مَن تحتَه، ولم تنفلت الأمور من يده، ولن تكثر الحِلَق المفقودة بينه وبين أفراده. وبالنظر إلى واقعنا الدعوي والمؤسَّسي نجد أن هناك قادة ليسوا بمربيين، أو مربين ليسوا بقادة وهذا ما أحدث شروخاً في مشاريعنا الدعوية والمؤسسية.

وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد سلامَه على الصبيان كلما مرَّ بهم، وعيادتَهم وملاطفتَهم والرفق بهم... كل ذلك يعكس صورة حية تجسد الشعور بإبقاء الاتصال وعدم ترك حلقات مفقودة مع كافة الشرائح؛ وعدم إهمال أي شريحة مهما كان وضعها الاجتماعي، وهذا يعزز من ترسيخ مكانة القائد في محيطه، وهو ما يجعل حضوره في نفوس أتباعه أكبر من حضوره الحسي بينهم، ومن هنا نجد أن الصحابة - رضوان الله عليهم - ونتيجة لشدة تواصله معهم كانوا يُطلِعُونه على تفاصيل حياتهم الخاصة، التي لو أخفاها الواحد منهم عنه لم ينله إثم ولا حرج، ولكن الحلقة المفقودة التي نشكوا منها اليوم لم تكن موجودة حينها.

إن القيادة الفعالة هي من تستطيع أن تكتشف وجود هذه الحلقات أولاً ثم تقدِّر مدى سعتها وأثرها في الأفراد ثم تضع المعالجات والخطوات التصحيحية الفعالة والبنَّاءة لإزالتها أو تصغير حجمها، ولن تجد القيادة أفضل من السيرة النبوية وسيرة السلف الصالح منهجاً تستعين به في إزالة مثل هذه الحلقات المفقودة؛ ولذا فمن المعيب أن لا تتمتع القيادة بحس مرهف، وفطنة لطيفة، وفهم ثاقب، وغوص شديد في معاني هذه السيرة العطرة.

 إن من أبرز العوامل التي تزيل هذه الحلقة المفقودة بين القيادة والأفراد أن تكون القيادة تمثل القدوة الحسنة في كثير من الجوانب الحياتية، وأن يرى فيها الأفراد النموذج الأعلى لهم في حياتهم، وأن تكون بعيدة عن مواطن الشُّبَه والريبة، وأن تتمتع بقدر عالٍ من المصداقية والشفافية بعيدة عن الغموض، وهذه هي تكلفة القيادة لمن أراد أن يمتطيها؛ فلا بد أن يبرز في شؤون حياته ويتقن إدارتها؛ حتى لا يكون سبباً في تكثير هذه الحلقات، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً أعلى وقدوة حسنة لأصحابه؛ يرونه سباقاً في كل ميدان وحدث، قد حاز من الفضائل والسجايا ما كسب بها حب أصحابه وودَّهم. قال الله - تعالى - مخاطباً إياهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]. وكان أصحابه يرون أفعاله ويسمعون كلامه فكان مما يزيدهم حباً فيه وحرصاً للقرب منه، وكانوا يتنافسون على طاعته وإرضائه، وهكذا تلاشت هذه الحلقة بينه وبين أتباعه.

إن القيادة أمانة، وإنها خزي وندامة؛ إلا من أخذها بحقها، وهي فن وذوق وإبداع، وليست عبوساً وشدة وغلظة واكفهرار وجه؛ فمن عرف مفاتيحها سهل عليه ممارستها، وإننا بحاجة ماسة لفقهها وإتقانها، ومعرفة إدارتها وتطبيقها، ولربما قاد الصغيرُ جحافلَ الشيوخ، ونطق باسم القوم أصغرُهم سناً.


 


[1] صحيح البُخَارِي: 8/11 (6011)، ومسلم: 8/20 (6678).

[2] أخرجه أحمد: 3/157 (12629)، والبخاري: 4/1576 (4082).

[3] أخرجه أحمد: 2/388 (9025)، والبخاري: 1/488 (1272)، ومسلم: 2/659 (956). ورد في الحديث: «أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء» الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا أو من أبي رافع، انظر فتح الباري: 1/553.

[4] صحيح مسلم: 2/659 (956).

 

 

 

أعلى