طالبان من جديد

طالبان من جديد


إن من البشائر الربانية في وقت الشدة والبلاء؛ سنة الله الثابتة في تبدل الأحوال وعدم ثباتها؛ فالقوي يضعُف والمستضعف يمَكَّن والعدل يملأ الأرض بعد أن ملئت جوراً وعندما نتيقن برعاية الله لأوليائه وفرحِه بتوبة عباده وأنه - سبحانه - يملي للظالم ثم يأخذه؛ فإننا لا يمكن أن يفوتَنا ملامح البُشرَيَات التي تتوالى، والتقدمات الواضحة لنُذُر مرحلة جديدة قادمة يكون فيها للإسلام مكان بين الكبار وأنَّ الإسلام قادم بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل.

 ومن هذه البشريات عودة طالبان إلى الواجهة بعد حوالي عشرين سنة من الصبر والمصابرة وإدارة الصراع بمهنية عالية وامتصاصهم الصدمة القاسية التي تلقَّوها من ضيف أكرموه ومن عدو غاشم استباح بيضتهم، وهنا لا يفوتنا أن نذكر باختصار شديد أهم المحطات التي مرت فيها طالبان؛ فقد كان اقتتال الأطراف الأفغان على السلطة وانتشارُ الفساد وانعدام الأمن عاملاً أساسيّاً في نجاح مشروع الطلبة الشرعيين وقبول الناس لهم، وقد شهد حتى أعداؤهم بنجاحهم في تحقيق العدالة وبسط الأمن، ومع تفرُّد أمريكا بالزعامة العالمية كانت أحداث 11 سبتمبر عام 2011م فرصة ذهبية لاحتلال أفغانستان وإقامة قواعد عسكرية في أوزبكستان وطاجيكستان وأقامت حكومة تابعة لها حرصت فيها أمريكا على تصدُّر البشتون للواجهة السياسية في محاولة لتقسيم وتشتيت الحاضنة الشعبية لطالبان.

وكان تعامل طالبان مع المستجدات فريداً فقـد ذابت الحركة ظاهريّاً وأبقت على عمل عسكري منضبط بشدة؛ فمن البداية تم حظر أي أعمال انتقامية أو تصفية للمتعاونين مع المحتـل إلا بأمر من الملا عمر وتركيز الجهد العسكري على الاحتلال والقوات المساندة له. وبذلك حافظت طالبان على الحاضنة فقـد رضيت من الزعماء والوجهاء التعامل الظاهري مع الحكومة العميلة بشرط الولاء لطالبان الذي يزداد مع كل عمل انتقامي أمريكي أهوج. ومع مرور الوقت وتوسُّع رقعة سيطرة طالبان الظاهرة وانحسار الاحتلال وتقوقعه، طرحت أمريكا عن طريق الحكومة استيعاب طالبان في الهيكل السياسي للدولة، وكان موقف طالبان الثابت أنها لا تعتـرف بالحكومة وأنها لا تفاوض إلا المحتل الذي بدأ يشعر بالإنهاك والخوف من الأسوأ؛ فقد أوعزت روسيا العائدة للساحة الدولية للدول الدائرة بفلكهـا بعدم تجديد عقود القواعد العسكرية الأمريكية وأصبحت باكستان المتنفَّس والمعبَر الوحيد لهذه القوات. ولا يخفى أن هوى باكستان مع طالبان التي لا يخفى تصميمها على تصفية الوجود الأمريكي الذي يمكن تحقيقة بطريقتين: إما تفاوض طالبان مع أمريكا لخروجها، وإما تفاهم طالبان مع الصين لإخراجها وهو سيناريو مرعب يجعل يد أمريكا مغلولة في التعامل مع الصين، وهو ما يوضح سبب حرص أمريكا الشديد على الخروج السريع من أفغانستان وإصرارها عليه؛ حتى أن ملف أفغانستان سبب رئيس لطرد جون بولتون رئيس مجلس الأمن القومي.

لا شك أن أمريكا قد تخلَّت عن مشروع حكومة عميلة لها في أفغانستان، ولكنها لم تتخلَّ عن مشروع دولة فاشلة في أفغانستان، وقد نشهد مع الانسحاب الأمريكي محاولة تكرار ما حدث بعد انسحاب قوات الاتحاد السوفييتي سابقاً وإدخال البلد في صراع داخلي... والذي نراه أن دخول طالبان السريع إلى كابل سهل ولكن الأصعب هو التعامل مع تحالف الشمال؛ وخاصة أن ممثلهم السياسي عبدالله عبدالله لم يعترف بنتائج الانتخابات! وما نتوقعة هو أن طالبان الجديدة قد اكتسبت حنكة سياسية وخبرة عسكرية تؤهلها للتعامل الصحيح، وأن تفرض نفسها بقوة في الساحة الأفغانية بل في الساحة الإقليمية؛ فنحن أمام إرهاصات نقل أمريكا لمركز ثقلها في المنطقة إلى الهند تمهيداً لمواجهة محتملة مع الصين وتأجيل الصراع مع العالم السني، بل محاولة التقرب منه. وبصورة أوضح فبعد أن كانت أمريكا مصرة على تشكيل حكومات بتفصيلها على مقاسها أصبحت تتقبل وصول نظام إسلامي لا يظهر لها العداء وهو تحوُّل سيكون له آثار كبيرة على الأوضاع السياسية في العالم السني. ومن هنا نفهم الإصرار الأمريكي على الوصول إلى تفاهم مباشر مع طالبان؛ بل الاحتفاء بالاتصال الهاتفي الذي استمر ثلاثين دقيقة بين ترامب والملا بردار آخوند رئيس وفد طالبان التفاوضي وصف بعده طالبان بأنهم يدافعون عن بلادهم، وهو اعتراف غـريب عجيب من محتل مكابر! ومن المهم الوقوف أمام تصريحات أخرى لترامب مصاحبة للحدث، منها قوله حول إمكانية وصول طالبان للسلطة: «ليس من المفترض أن يحصل ذلك، لكن هذا احتمال».  وأكد على أنه على الدول أن تتولى مسؤولية نفسها وأنه على الحكومة الأفغانية ضمان أمنها بنفسها، وأضاف أنه لا يمكن أن تمسك بيد أحدهم إلى الأبد.

إنها تصريحات رئيس بلد مثقل بالأعباء على وشك الدخول في صراع مكشوف مع الصين التي وصلت إلى مرحلة التصريح باحتمالية نقـل الجيش الأمريكي لفيروس كورونا للصين. وبينما يأتي هذا التصريح في وقت تتعافى فيه الصين وينتقل ثقل الوباء بثبات إلى داخل أمريكا؛ فإن أمريكا مطالَبَة بثمن كبير لتجاوز المحنة التي تمر بها.

ولمن يعتقدون أن أمريكا الفتيَّة محدثة النعمة باقية أبد الدهر نذكِّرهم بقوله تعالى: {قُلِ اللّ›هُمَّ مَالِكَ الْـمُلْكِ تُؤْتِي الْـمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْـمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْـخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

 


أعلى