مراد هوفمان... مسيرة دبلوماسي سياسي إلى داعية إسلامي
يقول المفكر الإٍسلامي الألماني الألمعي (مراد هوفمان) الذي وافته المنية في 12/ 1/ 2020م: «الإسلام هو الحياة البديلة بمشروع أبدي لا يبلى ولا تنقضي صلاحيته، وإذا رآه البعض قديماً فهو أيضاً حديث ومستقبليٌّ لا يحدُّه زمان ولا مكان؛ فالإسلام ليس موجة فكرية ولا موضة، ويمكنه الانتظار... لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادة العالم حضاريّاً، فما زالت مقولة: يأتي النور من الشرق. مقولة صحيحة. إن الله سيعيدنا إذا غيرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام».
بلا شك، هكذا كانت غيرة الكاتب مراد هوفمان على الإٍسلام. ولا يحتاج إلى تعريف، فمنذ سنوات والمسلمون يتابعون مؤلفاته وكتاباته ونشاطاته الإسلامية، ويعلمون كثيراً عنه منذ اعتنق الإسلام عام 1980م أثناء عمله في السلك الدبلوماسي الذي امتد 33 عاماً، وكانت آخر محطات عمله في المغرب، عندما أحدث ضجة لفتت الأنظار إليه داخل ألمانيا وخارجها بنشره عام 1996م كتـاب (الإسلام كبديل)، الذي يعتبر من (أجرأ) ما نُشِر باللغة الألمانية فهو على النقيض من كتب عديدة أخرى، لا يعرض بعض جوانب الإسلام عرضاً تقليديّاً، ولا ينطلق من منطلق الدفاع عنه تجاه ما يتعرض له من صور عدائية؛ بل يطرحه باعتباره البديل الضروري والأفضل مما يعتنقه المجتمع الغربي من تصوُّرات في مختلف الميادين. وقد استضافته بلدان عربية عديدة وشارك في مؤتمرات إسلامية مختلفة. كما ظهر أثناء تقديمه لكتابه «الإسلام كبديل»، الذي خطا به خطوة أخـرى في تقديم الإسلام بديلاً، فيؤكِّد عبر الحوار المنهجي المتوازن أن فيه الحلول لما يواجهه المجتمع الغربي من مشكلات اجتماعية وثقافية مستعصية.
• إشراقة داعية منتصر من دبلوماسي سياسي:
وذلك من سنة الله سبحانه وتعالى أن قيض للإسلام من بين فلاسفةِ ومفكرِي وسياسيي العالم من هدتهم فطرتهم السليمة إلى العدالة والنزاهة والموضوعية في النظر إلى الإسلام ونبي الإسلام، بل إن من بين الكارهين من لم يجدوا مناصاً أمام سطوع حقائق الإسلام إلا أن يغيِّروا مواقفهم ويبدِّلوا أفكارهم ويخففوا من غلو آرائهم ودخل بعضهم الإسلام ومن هؤلاء المنصفين المفكر الألماني المسلم (مراد هوفمان)رحمه الله.
كان مراد هوفمان دبلوماسياً ألمانياً، بل من أبرز صناع السياسة الخارجية الألمانية؛ فإذا به يتحول من ذلك إلى الإسلام بعد أن هداه الله سبحانه وتعالى لاعتناق الإسلام في عام 1980م، وبعد قناعة تامة منه أعلن ويلفريد هوفمان اعتناقه للدين الإسلامي وسمى نفسه مراد هوفمان وتحول من دبلوماسي إلى داعية إسلامي وأصبح جندياً من جنود الإسلام يدافع عن الإسلام برؤية عصرية.
ولد الدكتور مراد هوفمان سنة 1931م في أشافنبورغ، وهي بلدة كبيرة في شمال غرب بافاريا تابعة إدارياً لمنطقة فرنكونيا السفلى، عمل خبيراً في مجال الدِّفاع النَّووي في وزارة الخارجية الألمانية وكان إسلامه موضع نقاش بسبب منصبه الرَّفيع في الحكومة الألمانية، كما عمل مديراً لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل ثم سفيراً لألمانيا في الجزائر ثم سفيراً في المغرب وتزوَّج من سيِّدة تركية وأقام في تركيا.
• عوامل رئيسة وحوافز فارقة في اعتناقه الإسلام:
يذكر د. هوفمان أنَّ من أسباب تحوله إلى الإسلام ما شاهده في حرب الاستقلال الجزائرية، وولعه بالفن الإسلامي العريق إضافة إلى التناقضات التي تواجهه في العقيدة النصرانية البولسية. ويتابع هوفمان حديثه عن جاذبية الإسلام بهذا الصدد قائلاً: «إنني أدرك قوة جاذبية فن هذا الدين الآن أفضل من ذي قبل؛ إذ إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثَمَّ بفن إسلامي فقط مثلما أدركها عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزاً عن مجرد تعريف الفن الإسلامي، ويبدو أن سرَّه يكمن في حضور الإسلام في اندماج شديد في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن، إنني أفكر كثيراً في أسرار إضاءة المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل (الاجتماعي - الوظيفي) الباهر للمدن الإسلامية القديمة (المدينة) الذي يهتم بالمعيشة المتجاورة، تماماً كما يهتم بإبراز موقع السوق، وبالمواءمة أو التكيف لدرجات الحرارة والرياح، وبدمج المسجد والتكية والمدرسة والسبيل في منطقة السوق ومنطقة السكن. وإن من يعرف واحداً من هذه الأسواق (وليكن في دمشق، أو إسطنبول، أو القاهرة، أو تونس، أو فاس) يعرف الجميع؛ فهي جميعاً، كبرت أم صغرت، منظمات إسلامية من ذات الطراز الوظيفي».
وفي مقال للدكتور عبد المعطي الدالاتي بعنوان «هكذا أسلم الدكتور مراد هوفمان» قال: في مقتبل عمره تعرض هوفمان لحادث مرور مروِّع، فقال له الجرَّاح بعد أن أنهى إسعافه: «إن مثل هذا الحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يدَّخر لك يا عزيزي شيئاً خاصاً جداً». وصدَّق القدَر حَدْس هذا الطبيب إذ اعتنق د. هوفمان الإسلام بعد دراسة عميقة له، وبعد معاشرته لأخلاق المسلمين الطيبة في المغرب.
• كفاحه المتواصل خلال كتبه وأيديولوجيته الغراء:
ومن مؤلفات مراد هوفمان كتاب (يوميات ألماني مسلم)، وكتاب (الإسلام في الألفية الثالثة)، وكتاب (الطريق إلى مكة)، وكتاب (الإسلام عام 2000)، وأيضاً كتاب (الإسلام كبديل) الصادر عام 1992م الذي ترجم إلى عدة لغات، وقد أحدث ضجة كبيرة في ألمانيا وفي العالم بسبب ما فيه من حقائق ورؤى عن اختراع عدو بديل للغرب بعد انهيار النظام الشيوعي وتفكك الكتلة الشرقية وتحلل الاتحاد السوفييتي لتبرير صناعة وتجارة الأسلحة وسياسات التدخل والاستعمار الجديد، وبسبب ما أكده من صلاحية الإسلام ليكون الدين العالمي في القرن الواحد والعشرين.
وعندما اعتنق مراد هوفمان رحمه الله الإسلام وضع ثقافته وخبرته الدبلوماسية في خدمة الدعوة الإسلامية بمفهوم عصري وقراءة واعية للحضارة الإسلامية وتاريخ الصراع بين الغرب والإسلام ومعرفته بأسلوب الخطاب الغربي وفي سبيل هذه الدعوة زار العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية وشارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية. وقد تركزت محاور تفكير مراد هوفمان وكتاباته وأبحاثه في عرض جوهر مبادئ الدين الإسلامي وعرض الإنجازات والعطاءات الحضارية للإسلام وبيان أثر هذه الإنجازات في الحضارة الأوروبية وعرض العلاقات التبادلية بين العالم الإسلامي والغربي وتحليل ونقد واقع الأمة الإسلامية ودعوتها للنهضة من خلال التمسك بجوهر الإسلام والدعوة لحوار إيجابي بين الغرب والعالم الإسلامي.
• مواجهته الباسلة ومجابهته المكثفة تجاه الهجمات:
ولما صرَّح مراد بإسلامه حاربته الصحافة الألمانية محاربة ضارية عارمة، ولكن هوفمان لم يكترث بكل هذا، يقول: عندما تعرضت لحملة طعن وتجريح شرسة في وسائل الإعلام بسبب إسلامي، لم يستطع بعض أصدقائي أن يفهموا عدم اكتراثي بهذه الحملة، وكان يمكن لهم العثور على التفسير في هذه الآية {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥].
بل كانت السمة الأبرز لإسلام (مراد هوفمان) هي قدرته باعتباره مثقفاً ودبلوماسياً غربياً على إعادة قراءة كثير من المفاهيم الإسلامية وَفْقَ معايير جمالية ربما لا يتنبه إليها أغلب مسلمي المشرق الإسلامي.
ونذكر هنا تلك الواقعة التي تلت إسلام مراد هوفمان، والتي كان لها كثير من الأصداء على المستويين العربي والدولي بعدما تفوَّه سفير دولة ألمانيا المفكر والدبلوماسي ذائع الصيت بإسلامه في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1980م. فقد وجهت إليه دعوة لأداء فريضة الحج من قبل ملك السعودية الراحل فهد بن عبدالعزيز، في البداية حاول هوفمان التعرف على أحكام وشروط الحج الإسلامي من خلال القراءة في مصنفات الفقه الإسلامي.
كما حاول أيضاً التعرف على الحج من خلال وجهة نظر بعض المستشرقين الأوروبيين الذين انتهت الرحلة ببعضهم إلى الإسلام. ولكن وَفْقاً لهوفمان؛ فإن أحداً لم يمكنه أن يرى أمراً مهمّاً في تلك الفريضة العجيبة التي تجمع أجناس البشر على تفاوتهم في زي واحد متجردين من علائق الدنيا، ومتحركين في حركة دائرية حول مركز واحد للكون، يقول هوفمان في كتابه الماتع (الطريق إلى مكة): «النظر من هنا إلى أسفل يكاد يكون كالتنويم المغناطيسي، والمشهد شديد الجمال؛ فالكعبة تبدو كمركز ثابت لا يتحرك لأسطوانة تدور ببطء وفي سكون تام في اتجاه مضاد لاتجاه عقارب الساعة، ولا يتغير هذا المشهد إلا عند الصلاة، حيث تصير الكعبة مركزاً لدوائر عديدة متحدة المركز، تتكون من مئات الآلاف من أجسام ناصعة البياض، لأناس يرغبون في، ويبحثون عن، ويفعلون الشيء ذاته، رمزاً لتسليم النفس إلى بارئها...».
ومن المهم هنا أن نلفت الانتباه إلى تلك القوى الناعمة التي تمثل مصدر قوة حقيقية للدين الإسلامي ومنجزاته الثقافية والحضارية في ذاتها، فمن الخطأ الاعتقاد أن قوة الإسلام ارتبطت بتلك المقدرة على تجييش الجيوش وإلحاق الهزائم بالإمبراطوريات القديمة كالفرس والروم؛ إن قوة الإسلام تكمن في قدرته على إطلاق الطاقات الإبداعية، ومرتبطة بما قدمته الحضارة الإسلامية للإنسانية من منجزات علمية وفنون في النحت والتصوير والموسيقا والعمارة، وهي اللغة الأنسب لمخاطبة أبناء الحضارات الأخرى. أما تلك الآراء التي تنحو بنا نحو تحريم الفن وتحجيم الإبداع فلا هي من الحضارة ولا من الإسلام في شيء.
• نقطة مشتركة تجمع بين هوفمان ومحمد أسد:
لعلِّي أجد أوجه شبه عدة تجمع المستشرق الألماني المسلم د. مراد هوفمان بالمستشرق النمساوي المسلم محمد أسد؛ فهما تجايلا والتقيا مع فارق 30 عاماً في العمر بينهما، وهما خرجا من بيئتين متقاربتين جغرافياً (هوفمان من ألمانيا، وأسد من النمسا)، وكلاهما ألَّف كتاباً باسم «الطريق إلى مكة»، وكان كتاب أسد هو الأسبق والأشهر، وهما مستشرقان اعتنقا الإسلام بعد رحلة تأمُّل حياتية، وتعمقا فيه بالمثابرة والاطلاع والبحث، ثم خدماه فكراً وتأليفاً في كتب متقاربة العناوين، والاثنان مارسا الدبلوماسية، وقد غيرا اسميهما واختارا أسماء إسلامية، وكان من الواضح أن هوفمان تأثر بمنهج أسد وكتب عنه وكان مرجعاً في سيرته، وعندما نعود إلى حياة الشخصيتين نلحظ أن محمد أسد قد التحق في مطلع حياته بوظيفة بسيطة (عامل هاتف) وأن مراد هوفمان عشق الفن والرقص في شبابه، وهكذا.
لكنهما افترقا على بعض أوجه اختلاف؛ فمحمد أسد (المولود في أسرة يهودية) كان عصامي النشأة، صحافياً ورحالة في مقتبل عمره، اعتمر الإيمان قلبه من خلال الترحال والتأمل في الفطرة، ولم يكمل دراسته العليا. بينما كان د. هوفمان (المولود في أسرة كاثوليكية) أرستقراطياً تقلَّد مناصب دبلوماسية عدة، ومر بالدراسات الأكاديمية من أوسع أبوابها، ومع ذلك بقي محمد أسد القدوة الأكثر تأثيراً في فكر هوفمان، وكان هوفمان هو من سماه «هدية أوروبا للإسلام»، فنسجتُ على منوال ذلك لقباً معكوساً «هدية الإسلام لأوروبا» وضعته عنواناً لكتاب ألفته عن محمد أسد عام 2011م.
وكما حدث مع غارودي الذي اهتدى للإسلام في أثناء إقامته في الجزائر إبان فترة مناهضة الاستعمار الفرنسي، فإن هوفمان قد بدأ رحلة الشك خلال إقامته قنصلاً لبلاده فيها، حيث شكلت معاناة الشعب الجزائري وقسوة المستعمر وما وجده من عمق إيمان الجزائريين على الرغم من الاحتلال، جذوة التأمل في قلبه وبداية رحلة اليقين في خياله التي قادته إلى الإيمان.
وبعد: فقد ورد في كتاب هوفمان رحمه الله «الطريق إلى مكة» الصادر عام 1996م: «اللهم اجعل الحق يقر في نفسي»، وهو دعاء شخصي اختاره مراد هوفمان في شعيرة الطواف لأول حج له عام 1992م، وكان سبق أن أدى العمرة بُعيد إسلامه، وما أروع أن يتعرف المرء على من يعتنق الإسلام عن اقتناع (من أمثال الفرنسي د. روجيه غارودي المتوفى عام 2012م، والأمريكي د. جيفري لانغ) وهي نماذج مشرقة للإسلام في الممارسات والإنتاج الفكري، وأمثلة يتعلم منها المسلمون أنفسهم مكامن عظمة الدين ومقاصده الحياتية ومعانيه الروحية والإيمانية، في زمن صار المسلم يقف فيه وجهاً لوجه في مواجهة دموية مع أخيه المسلم في عقر بلاد الإسلام.