أهمية ربط العَقيدة بمقاصدها

أهمية ربط العَقيدة بمقاصدها


الباحث فـي نصوص القرآن الكريم تستوقفه إشارات مهمة يجد فيها ربط الدعوة إلـى تحقيق العقيدة الصحيحة بمقاصد وغايات، وهذا أمر لا يُستغرب حينما نستحضر أن العقيدة الإسلامية عقيدة تربط الإيمان بالعمل، وكل ذلك يجعلها عقيدة مستقلة بذاتها، لأنها عقيدة قائمة بنفسها، مأخوذة أصالةً من المصدرين العظيمين: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكلما تعلمها المسلم وتلقاها باستحضار ما اشتملت عليه من المقاصد؛ أثمرت له آثارها من الخشية لله وحسن المراقبة له.

وكلما أمعن الدراس النظر فـي نصوص القرآن الكريم التي تعرض مسائل العقيدة وجد فيها من الإشارات إلى مقاصد الإيمان والتوحيد الشيء الكثير.

ومن ذلك - مثلاً - أن الحديث عن صفات المؤمنين المتقين فـي بداية سورة البقرة، أشار إلـى الغاية من تحقيق الإيمان بالله تعالـى وهو حصول الهداية والفوز والفلاح، وذلك من أعظم مقاصد العقيدة الإسلامية، فقال تعالــى: {الم» 1 ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ 2 الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ 3 وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 4 أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [البقرة: ١ - ٥].

ومن ذلك أن الله تعالـى لما ذكر انفراده بالوحدانية، ونفى تعدد الآلهة، أعقب ذلك ببيان الغاية والمقصد فقال عز وجل: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ 20 لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21 - 22]، فذكر سبحانه وتعالى فـي الآية الثانية الغاية من انتفاء تعدد الآلهة، وهو أن وجودها مُؤْذنٌ بفساد وخراب الكون.

وقال تعالـى أيضاً فـي تأكيد هذه الحقيقة بعد أن ساق مجموعة من الأدلة والبراهين على تفرده بالوحدانية والألوهية: {قُل لِّـمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 84 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ 85 قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 86 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ 87 قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 88 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ 89 بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْـحَقِّ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 90 مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ 91 عَالِـمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ 92 قُل رَّبِّ إمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 84 - 93].

وقوله تعالـى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، فقد بين الله فـي هذه الآية جزاء من حقق الإيمان به وعمل عملاً صالحاً، بنفي الخوف والحزن عنه، وما هذا الجزاء العظيم إلا ثمرة وغاية من غايات العقيدة السليمة.

وقوله تعالــى فـي بيان أهم مقاصد البعثة النبوية: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [البقرة: 129]، ونلاحظ أن الآية الكريمة خُتمت باسمين من أسماء الله الحسنى (العزيز، والحكيم)، وفـي ذلك ما فيه من الدعوة إلـى تدبر ما تحمله هذه الأسماء الحسنى من المعانـي وما تغرسه فـي النفوس من القيم، ولو دُرست العقيدة الإسلامية وفُهمت انطلاقاً من دلالات هذه الأسماء الحسنى كما جاءت فـي القرآن الكريم لكان فـي ذلك خير كثير.

ونحن لا ننكر بعض الجهود التي بُذلت فـي ذلك، لكنها بقيت جهوداً قليلة لم ترقَ بعدُ إلـى المستوى المطلوب، وهذا ما تنبه إليه أستاذنا الدكتور جمال اسطيـري، حيث قال بعد ذكره لمقاصد ختم آي القرآن بأسماء الله الحسنى وجهود علماء الأمة فيه، وأهـم ثمرات هذه الدراسة: «وهذه المنهجية المقترحة تستهدف أن تكون دراسة أسماء الله وصفاته دراسة منهجية، ومعالجتها معالجة كلية لا جزئية، تراعي سياق السورة العام، كما تراعي سياق الآية الخاص، وذلك لأن القرآن يشكل وحدة نسقية يفهم في ضوئها أجزاؤه، وسياقاته الخاصة»[1].

ويقول أيضاً مبيناً أهمية العلم بأسماء الله الحسنى فـي إدراك مقاصد العقيدة: «يعتبر العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا من أهم العلوم، وأوجب الواجبات التي تعرِّف المسلم بأصل الاعتقاد، ومبنى الشرع، وحكمته، ومقاصده؛ فالإيمان بالله إنما يتم عن طريق التعرف على كمالاته تعالى وأفعاله اللامتناهية، والشرع إنما صدر عن أسمائه تعالـى التي لا تخرج عن تحقيق مصالـح العباد بإيصالهم إلـى مدارج الكمال...»[2].

قوله تعالـى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]؛ فالآية الكريمة دعوة إلـى استلهام مقاصد الإيمان، حيث إنها جمعت خصال البر التي تتفرع عنها كل القيم والخصال النبيلة، وبدأت بذكر الإيمان بالله، ثم أتبعته بذكر ما يتفرع عنه من الأعمال الصالحات، فـي إشارة واضحة إلـى أن الإيمان الذي لا يثمر عملاً صالحاً هو إيمان ناقص، قال الشيخ الطاهر بن عاشور فـي تفسير هذه الآية: «... فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.

فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالـح للأمة كثيرة وببذل المال فـي الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.

والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالـى هنا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]  فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة. ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ...»[3].

وقد جمعت الآية أوصاف الإيمان الثلاثة (التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح)، فقوله تعالـى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] عني: الاعتقاد بالقلب، وقوله تعالـى: {وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] يعني: العمل بالجوارح، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} عني: بما قالوه بألسنتهم فصدقوه بأعمالهم.

وقوله تعالــى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 94 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة: 94 - 95]، ولا أرغب هنا فـي نقل ما ذكره المفسرون فـي سبب نزول هذه الآيات، وكذا اختلافهم فـي توجيه وتفسير بعض كلماتها، ومناقشتهم للإمام الزمخشري؛ وإنما أشير إلـى ما تضمنه قوله تعالـى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} من الإشارة إلـى أهمية استحضار هذا الأساس العقدي العظيم الذي يُعبِّر عنه بــ: (خشية الله بالغيب)، أو: (مراقبة الله)، أو غيرها من المصطلحات التي تؤدي المعنى، وإذا انضم إلـى هذا الأساس ما افتُـتحت به الآيتان من نداء المخَاطَبين بوصف الإيمان، وما خُتمت به من الجمع بين اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العلى؛ أدركنا عناية القرآن الكريم بغرس أهمية مقاصد العقيدة فـي النفوس، ويـتأكد هذا الأمر أكثر حينما نستحضر هنا أن الآيات التي استشهدنا بها تتحدث عن موضوع محظورات الحج، وربما لقائل أن يسأل هنا: وما علاقة الحديث عن محظورات الحج بالحديث عن مقاصد العقيدة؟

هذا السؤال ربما له ما يسوغه إذا اعتمدنا على النظرة التجزيئية للعلوم الشرعية، وهي نظرة لا تتماشى مع طبيعة التكامل المعرفـي الذي هو الأصل؛ إذ الأصل أن العقيدة لا تنفصل عن باقي العلوم الإسلامية، ومن يتأمل حديث القرآن عن آيات الأحكام مثلاً فسيجد التكامل حاضراً بطريقة عجيبة فـي حديث القرآن الكريم عن الأحكام الشرعية سواء فـي أحكام الأسرة من زواج وطلاق، وفـي تنظيم أوجه العلاقات بين الناس، ولا تغيب العقيدة فـي كل ذلك، ويكفي أن يتأمل القارئ حديث القرآن الكريم فـي سورة البقرة عن أحكام الطلاق - مثلاً - ليجد هذا الأمر جلياً؛ حيث إن الله تعالـى ختم كثيراً من الآيات التي تبين الأحكام الشرعية للطلاق بأسمائه الحسنى، كاسمه السميع، والعليم، والعزيز، والحكيم... وكل ذلك ليلفت أنظارنا إلـى أن الإيمان القويم بالله تعالـى هو سبب صلاح أحوالنا كلها.

والآيات القرآنية التي تدعو إلـى استلهام مقاصد الإيمان كثيرة، اكتفيت منها فقط بما ذكرت، لأن المقام لا يتسع، والخلاصة أن هذا أمر مطرد فـي نصوص القرآن الكريم، فلا يذكر القرآن العزيز مسألة من مسائل العقيدة إلا ويعقبها ببيان الغاية منها، لأن ذكر الشيء مقروناً بمقصده أدعى لقبوله.

 


[1] مقاصد ختم آي القرآن الكريم بأسماء الله الحسنى، للدكتور جمال اسطيري، ص: 13 ضمن أعمال المؤتمر العالمي الأول للباحثين فـي القرآن الكريم وعلومه، في موضوع (جهود الأمة في خدمة القرآن الكريم وعلومه) المنعقد بفاس عام 1432هـ 2011م.

[2] المرجع نفسه، ص: 1.

[3] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور: 2/ 132.

 

  


أعلى