• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فقه الشتاء

كان بعض أهل العلم يستحب تقديم صلاة الفجر خاصة في أول الوقت في الشتاء، ويؤخرونها في الصيف، لأن الليل قصير في الصيف، فيعطي وقتاً للناس ينامون، عكس الشتاء، ليله طويل فيمكن أن يطيل الصلاة قليلاً.


إن لفصل الشتاء مَزيّةً خاصةً للمسلمين؛ إذ يحمل في طياته بعض الأحكام الفقهية والفوائد الهامة، التي تحمل التيسير واللطف بالمسلمين، ورأيت أن أضعها مختصرة بين عيني القارئ، لتكون تذكرة لنا وله، والله المستعان.

أولاً: يجوز الوضوء بالماء الساخن والاغتسال به بلا كـراهة، وهـو قـول عمر وابن عمـر وابن عبـاس وأنس وسلمة رضي الله عنهم، وقال ابن المنذر: «وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَكَذَا قَالَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَأَهْلِ الكُوفَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ جَمِيعاً».

قلت، وذكر البخاري معلقاً: «وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّة». الحميم: أي الماء الساخن.

ولا يجوز المسح على ذراعَي القميص، كما يمسح على الجورب والحذاء، ولا قياس في ذلك، بل هو من بدع العبادات، وقد سئلت عنه هنا في مصر كثيراً، ورؤي ذلك من بعض الناس.

وإن لم يوجد الماء الساخن فالوضوء بالبارد فضيلة، وأجرك على قدر نَصَبك.

وأما المسح على الحذاء أو الجورب، فهو من السنة، صيفاً وشتاءً، وهو أولى من غسل القدم بشروطه، يعني إن كنت توضـأت وانتعلـت حـذاءك وجـوربك، ثم نقـض وضوءك، فالأولى أن تمسح على الجورب، أو الحذاء إن كنت ستصلي في الحذاء، نقول هو الأولى لأنه السنة، رواه ما يقارب الستين من الصحابة؛ فهو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي لا خلاف عليه.

فائدة:

وأما شرط أن يكون الجورب سليماً ليس به خرق، وأن يكون ساتراً لكعب القدم، فلا يُعلَم في ذلك دليل، والأئمة الأربعة على عدم الجواز، ودليلهم أنه لا يستر محل الفرض عند الوضوء، وفرض غسل الرجلين أن يتجاوز الغسل الكعبين.

وخالف الأوزاعي وابن حزم وابن تيميـة وابن العثيمين من المتأخرين، وقالوا: بل الأصل أن رسول الله مسح على الخف وأمر بالمسح عليه ولم يبيِّن صفة الخف ولا شَرَط شرطاً في طوله وحجمه وثخانته أو رقته. قلت، والرأي الأخير أوجه، والله أعلم.

ثانياً: ويُستحَب تعجيل الصلوات لو اشتد المطر وكثر الوحل أو الثلج؛ فقد أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ يَعْنِي الْجُمُعَةَ»، وفي رواية «بالصلاة، ولم يذكر الجمعة» أي الظهر. بل يستحب الصلاة في البيوت حينئذٍ. أقول يستحب لما ورد فيـه صريحاً كما عند البخاري وغيره، أَذَّنَ ابْنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَسُـولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  كَانَ يَأْمُـرُ مُـؤَذِّناً يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُـولُ عَلَى إِثْرِهِ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ».

وفي هذا حكم للمؤذن أيضاً، أن يقول في أذانه: صلوا في رحالكم (بيوتكم)، إن كان الأمر كذلك، وأفضل أن تكون هذه الكلمة بعد الأذان، لظاهر الحديث «ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ»، وورد في حديث ابن عباس أن هذه الكلمة تكون بعد «حي على الصلاة» والأمر واسع في ذلك، والله أعلم.

ويجوز كذلك الجمع في المسجد بين الصلوات، يعني يصلي الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، فإذا كان المطر شديداً صلى مع الظهر العصر، يعني في وقت الظهر، ولا أرى داعياً للتكلف فيُحمَل معنى الحديث على الجمع الصوري بأن يؤخر الظهر إلى قبيل وقت العصر ثم يصلي الاثنتين جميعاً؛ إذ لا يكون هناك فائدة للرخصة عندئذٍ؛ فظاهر الحـديث أَوْلى، أعني حديث عبد الله بن عباس: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً، وَالمَغْرِبَ وَالعِشَاءَ جَمِيعاً فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ».

وقَالَ مَالِك: «أُرَى ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ».

قلت، وكذلك هو مروي عن معاذ بن جبل عند مسلم.

وأيضاً، الجُمُعات لو أصاب الناس فيها مطر أو ثلج شديدان جاز صلاتها في البيوت ظهراً.

فائدة:

وهاهنا حديث قلَّما ينوَّه به أخرجه أبو داود والنسائي من حـديث عَبِيـدَة بْن حُمَيْـدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قال: كَانَ «قَدْرُ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  الظُّهْرَ فِي الصَّيْفِ ثَلَاثَةَ أَقْدَامٍ إِلَى خَمْسَةِ أَقْـدامٍ، وَفِي الشِّتَاءِ خَمْسَةَ أَقْدَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَقْدَامٍ».

لكن خالف عبيدة، محمد بن فضيل بن غـزوان، كما عند ابن أبي شيبة في المصنف، فأوقفه، ويبدو أن كليهما صحيح، وعلى أي حال، فالظل في الشتاء أطول منه في الصيف، لاختلاف زاوية سقوط الشمس وميل الأرض، ويختلف ذلك من بلد لآخر، والقصد من الحديث: أن تأخير الظهر في الصيف، وتعجيلها في الشتاء من السنة، كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».

وكان بعض أهل العلم يستحب تقديم صلاة الفجر خاصة في أول الوقت في الشتاء، ويؤخرونها في الصيف، لأن الليل قصير في الصيف، فيعطي وقتاً للناس ينامون، عكس الشتاء، ليله طويل فيمكن أن يطيل الصلاة قليلاً.

ثالثاً: ولا بأس أن يأخذ الرجل شماله بيمينه في الصلاة تحت ثوبه، يستدفيهما، وليس هذا من الإسبال المكروه في شيء، وكذلك لا بأس أن يخمِّر وجهه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  في حديث وائل بن حجر عند مسلم وغيره: «ثُمَّ الْتَحَفَ ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ وَأَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي ثَوْبِهِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا»، اللفظ لأبي داود، وعند أحمد زيادة أيضاً: «ثُمَّ جِئْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ، فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ الثِّيَابُ تُحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ مِنْ تَحْتِ الثِّيَابِ مِنَ الْبَرْدِ».

رابعاً: والصوم في الشتاء وقيام ليله غنيمة العابدين، لقصر نهار الشتاء، فتقصر ساعات الصوم تبعاً، وطول ليل الشتاء يجعل هناك فسحة للنوم والقيام بأريحية.

وروي فـي ذلك حـديث أخـرجــه الترمـذي عَــنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّـتَاءِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَـذَا حَـدِيثٌ مُرْسَـلٌ، عَامِرُ بْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم .

قلت: لكنه مروي من قول عمر، وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما.

خامساً: ختم القرآن، فقد ذكر للإمام أحمد عن عبد الله بن المبارك في ختم القرآن أنه: «إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَاخْتِمْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَاخْتِمْهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ» فأعجب ذلك أحمد.

سادساً: وإذا كان المطر، فالتعرض له، وأن يمسح الإنسان به وجهه ويده ويتبرك به، من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قَالَ أَنَسٌ: «أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى». يعني أن المطر قريب العهد بخلق الله له، وهو رحمة من الله، وماء مبارك كما قال ربنا: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا} [ق: ٩]، فماء المطر طاهر مبارك يجوز الوضوء والاغتسال به، والشرب منه.

ويجوز الدعاء من أجل أن يبارك الله لنا في المطر، فيقال كما صح في الحديث: «اللهم صيِّباً نافعاً» وفي رواية: «اللهم اجعله صيِّباً هنيئاً».

أو أن يصرفه ربنا عنا إذا كان شديداً، يهلك زرعاً أو يفسد مالاً، فيقال، كما جاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ».

وبعض الناس يكتفي بقوله: «اللهم حوالينا لا علينا»، لكن تأمل دعاء رسول الله كاملاً، تجده أنفع وأحسن وأوفق: «اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ».

ويجوز أداء صلاة الاستسقاء للبلاد التي لم تمطر عليها في فصل الشتاء، والاستسقاء يكون في الشتاء والصيف على أي حال.

سابعاً: وينبغي على المؤمن إذا كانت ريح شديدة أن يخاف ويتخوف من ذلك لأن الريح الشديدة من آيات الله ومن جنده، وقال ربنا: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}، وفي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَأَى غَيْماً أَوْ رِيحاً عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ، فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ! عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا».

وروي في ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي، إذا كانت الريح يقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ».

وروى البخاري في الأدب المفرد مرفوعاً: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، فَلا تَسُبُّوهَا، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا».

فائدة:

وكان نبيكم صلى الله عليه وسلم  ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقاً، يعني كأنه في أشد أيام الصيف، من ثقل الوحي وشدته عليه صلى الله عليه وسلم ، فاللهم صلِّ وسلم عليه، واجزه عنا خير الجزاء.

ثامناً: وينبغي للمؤمن أن يقول إذا نزل المطـر: «مُطرنا بفضل الله تعالى» ولا يقول: «مطرنا بسبب ريح كذا وكذا وهبوب كذا وكذا»؛ ففي الصحيح عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَـالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  صَـلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ [يعني المطر] كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ».

فائدة:

نعم، يسبب الله لذلك أسباباً يراقبها الناس، وأهل العلم بالطقس، فيقولون توقعاتهم بناءً على مقدمات تتمثل في سرعة الريح، وتكوُّن الغيوم بالسماء، ودرجة الحرارة... إلخ، وليس هذا من الاعتقاد في الكواكب في شيء؛ إذ في النهاية يبقى الأمر بيد الله، إن شاء أمطرت هنا أو هنالك، وإن شاء حوَّل الريح، كما لا يخفى إخفاق العديد من التوقعات الجوية؛ فالتوقع إنما هو للحاصل أصلاً، أما السحب فلا تمطر بإرادتها، ولا الريح تهبُّ بإرادتها، ولا المطر ينزل بإرادته {قُلْ إنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، فنحن لا نعتقد أن الأسباب تقوم بذاتها إنما بمسببها سبحانه وتعالى.

تاسعاً: ولا بأس أن يستدفئ الزوجان أحدهما بالآخر في الشتاء، وصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعائشة رضي الله تعالى عنها، أخرجه الترمذي في سننه، وله شاهد عند البخاري في الأدب المفرد، قَالَتْ عائشة: «رُبَّمَا اغْتَسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَدْفَأَ بِي فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ وَلَمْ أَغْتَسِلْ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ وَالتَّابِعِينَ؛ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا اغْتَسَلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَدْفِئَ بِامْرَأَتِهِ وَيَنَامَ مَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ المرْأَةُ، وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاق.

عاشراً: وفي الشتاء، يصاب الكثير منَّا بفيروس الأنفلونزا، وما شابهه، فيصاب الإنسان بالحمى، وهي ارتفاع درجة الحرارة، ويمكث الإنسان بسرير المرض أياماً، ولنا في هذا سُنة نتبعها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم  عَادَ رَجُلاً مِنْ وَعَكٍ كَانَ بِهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي المُذْنِبِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّار». لذلك كان أبو هريرة يقول: «مَا مِنْ وَجَعٍ يُصِيبُنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ الْحُمَّى إِنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنَ ابْنِ آدَمَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي كُلَّ مَفْصِلٍ قِسْطاً مِنَ الْأَجْرِ».

ويستحب إبرادها بالماء، وهو أفضل حل عملي لخفض درجة حرارة الجسم إذا ارتفعت؛ فالأدوية قد لا تأتي بنتيجـة، وقد جربنا ذلك مراراً، فلا يكون الحل إلا صب الماء البارد على الجسد كله باستمرار، وهذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم  الناس في مرض وفاته فقال: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ».

فائدة:

وجاء من طرق كثيرة عن أكثر من عشرين صحابياً: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالمَاءِ».

هذا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم  عن سب الحمى، وسب المرض عموماً؛ فعند مسلم، عن جابر بن عبد الله أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، أَوْ أُمِّ المُسَيَّبِ، فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَوْ يَا أُمَّ المُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» [يعني ترتعش من شدة الحمى] قَالَتْ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».

وهذا مما يفرق بين المؤمن وغيره؛ فالكافر يصاب أيضاً، لكنه لا يحتسب أجره عند الله، كما يحتسب المؤمن؛ فلله الحمد على نعمة الإيمان والإسلام.

ختاماً:

حري بأصحاب المال ممن وجب في أموالهم الزكاة، أن يُخرجوا زكواتهم وصدقاتهم للفقراء من المسلمين حول العالم في هذا الشتاء القارص، فإنها نعم الصدقة، والحمد لله رب العالمين.

أعلى