ثار العراقيون... فاهتزت طهران
العراق ذلك البلد الذي يمتلك ثالث احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية وفنزويلا، العراق الذي يعد رابع أكبر منتج للنفط، يعاني اليوم من ارتفاع أسعار الوقود والبنزين، وأزمات شديدة في الوقود، العراق الذي يشق أرضه نهرا دجلة والفرات أصبح يعاني من نقص في مساحة الأراضي المزروعة ومن قلة الغذاء وتدهوراً في المرافق الصحية والتعليمية، وارتفاعاً في معدلات البطالة، العراق الذي كان مقصد المهاجرين صار أهله اليوم لاجئين في كافة دول العالم، إضافة إلى حالة الانهيار التي يعاني منها الشعب العراقي في النواحي الأمنية حتى صار مضرب الأمثال في سوء الأوضاع وهشاشة الدولة والفوضى التي تؤدي إلى زعزعة الأمن، حتى بات كثير من الحكام المستبدين إذا تململت شعوبهم من الإفقار والمرض والظلم والذل خوَّفوهم بمآلات العراق. ورسالتهم في ذلك اقبلوا بالظلم وإلا فالآتي أظلم واقبلوا بالإذلال وإلا فالآتي أشد إهانة وذلاً.
العراق الذي كانت عاصمته عاصمة الخلافة لمدة خمسة قرون منارة للعلم والحضارة، قسمته نخبته السياسية اليوم إلى طوائف دينية وجماعات عرقية ومذهبية تتناحر في ما بينها، وصارت طبقته الحاكمة مرتهنة بالكلية للخارج. وصارت بغداد اليوم عاصمة الفوضى والفقر.
لقد ضج العراقيون من عراق ما عادوا يعرفونه لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا هوية فخرجوا إلى الشوارع والميادين في ساحة التحرير ببغداد وغيرها من المحافظات الجنوبية (التي للمفارقة هي ذات أغلبية شيعية) خرجوا مطالبين برحيل حكومة عبد المهدي وإخراج إيران من العراق وقاموا بإحراق العلم الإيراني.
حرق العراقيون العلم الإيراني لأن الشعب أدرك منبع الخطر، ومصدر الفساد والتهديد الوجودي الذي تمثله طهران لوطنهم، لم يحرق المتظاهرون في الجزائر أو السودان أو غيرها من البلاد العربية التي عمت فيها الانتفاضات علماً لدولة أخرى، رغم عدم البراءة المطلقة من محاولات التدخل من العديد من القوى الإقليمية والدولية في شأنهم، لكن التدخل الإيراني ليس ثمة تدخل مثله؛ إنه احتلال مباشر سُلط على مقدرات الدولة فأفقرها، وشرد شعبها وأثار فيه النعرات الطائفية والعرقية، وأمسك بتلابيب السلطة فيها عبر أحزاب صنعها على عينه، لا تقر قراراً إلا بموافقة مرجعياتها في طهران.
إيران اليـوم صارت ماثلة في كل شيء في العراق، فإذا دخلتَ سوقاً فستجد السلع الإيرانية هي المهيمنة، وإذا فتحت التلفاز فالقنوات إما إيرانية أو عراقية مدافعة عن إيران، والأحزاب العراقية تضع صور خامنئي اعترافاً بالتبعية، والمراجع الدينية تدين بالولاء لطهران، حتى المؤسسة العسكرية لم تكتفِ طهران بنفوذها فيها وهيمنتها على الحكومة، بل أنشأت أذرعاً عسكرية تدين بالولاء المطلق لها أسمتها الحشد الشعبي، في استنساخ لتجربة الحرس الثوري الإيراني في العراق، واللغة الفارسية صارت منتشرة في كل مكـان، حتـى داخـل المؤسـسات الحكـومية الرسـمية. لا تنظر إيران أبداً إلى العراق على أنه دولة جـارة بل تنظر إليها على أنها امتداد جغرافي طبيعي لها مستعيدة حقبة ما قبل دخول الإسلام، وهذا ما صرح به علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في 8 مارس 2015م حيث قال: إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي.
لقد أدرك العراقيون اليوم تلك الحقيقة وعلموا أن مشكلتهم الرئيسة ليست مع حكومة فاسدة أو أشخاص بها، وليست مع منظومة حكم أو أحزاب هشة ومتصارعة، بل الحقيقة أن معاناتهم اليومية وتدهور أوضاعهم هي بسبب التدخل الإيراني الذي سمم كافة مناحي الحياة العراقية السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد كان حرق الأعلام الإيرانية إدراكاً عميقاً من قِبل الشعب العراقي لأصل المشكلة والداء الذي يعانون منه. كانت شعاراتهم التي ضجت بها حناجرهم في الساحات: «إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة» معبرة بشكل كافٍ عن مدى وعي الشعب العراقي بما فعلته طهران بهم منذ عام 2003م بداية الغزو الأمريكي الإيراني لبلادهم.
لم يخرج المتظاهرون في العراق فقط من أجل المطالب المعيشية والإفساد الذي بثته طهران في المجتمع؛ بل خرجوا في محاولة لاستبقاء هويتهم العربية والإسلامية بعد محاولات السلخ التي فرضتها عليهم نخبتهم الحاكمة التي جعلت العراق يدور في الفلك الإيراني، فلا عجب أن يطالب العراقيون بإنهاء منظومة الحكم كاملة وإنهاء الفساد والمحاصصة الطائفية التي كرستها طهران بهيمنتها الاقتصادية والأمنية على البلاد. كخطوة نحو التحرر الكامل من الهيمنة الفارسية.
والسؤال الآن: هل تنجح محاولات الشعب العراقي بالرجوع إلى محيطه وانتزاع طهران من داخل أحشاء المجتمع العراقي؟
الإشكالية الكبرى أن العراق لم يلقَ الدعم المناسب من محيطه العربي الذي لم يتلقف طرف الخيط ويمده بما يدعمه؛ فالأوضاع السياسية تلتقي بشكل مباشر مع مصالح المنطقة العربية الإستراتيجية، وفي هذا الإطار لنا أن نعلم أن السفارة الإيرانية في بغداد فيها أكثر من خمسين دبلوماسياً يعملون بها، في ظل غياب، أو حضورٍ هشٍّ يشبه الغياب لمعظم سفارات العالم العربي، لم يتمدد الأخطبوط الإيراني إلا في الفراغ الذي خلَّفه الغياب العربي. وهذه لحظة للبدء بتدعيم الوجود العربي في العراقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
في المقابل وجدت شعارات العراقيين مسارها إلى طهران سريعاً واستدعت تصريحات ومواقف صريحة ليست من القادة السياسيين أو من رئاسة الجمهورية بل من المرشد الإيراني علي خامنئي نفسه حيث وصف احتجاجات العراق بأنها «مؤامرة من الأعداء تهدف إلى التفريق بين إيران والعراق». وقال خامنئي في تغريدة له عبر حسابه على موقع «تويتر»: إن «إيران والعراق شعبان ترتبط أجسادهم وقلوبهم وأرواحهم بوسيلة الإيمـان بالله وبالمحبة لأهل البيت وللحسين بن علي». و «سوف يزداد هذا الارتباط وثاقة يوماً بعد يوم. يسعى الأعداء للتفرقة، لكنهم عجزوا ولن يكون لمؤامرتهم أثر».
تَحَرُّك العراقيين هذا لم يُخِف ولم يهز أحداً بقدر ما أخاف النخب السياسية في طهران التي باتت تدرك أن الشعب العراقي إذا تحرك بكافة طوائفه فإن الخاسر الأكبر سيكونون هم، وأن الهيمنة الإيرانية باتت على المحك، وأن حنين العراقيين إلى دولتهم التي تجمعهم وهويتهم الإسلامية والعربية سيمزق خيوط العنكبوت التي نسجتها طهران حول بلادهم.
ومع وجود كثير من التشعبات الحزبية والمذهبية في الداخل العراقي بالإضافة إلى الأوضاع الدولية والإقليمية خاصة دول الجوار العراقي، وما يحيط بالمنطقة من تقلبات سياسية ومؤامرات صهيونية وغربية، يجعل من التغيير السياسي في العراق أمراً في غاية التعقيد إلا أنه لا أحد من الظالمين يستطيع أن يوقف عجلة التغيير إذا انطلقت، ويحبط إرادة الشعوب إذا اتحدت وبان لها عدوها. فلا تستخفوا بالشعوب فلا القتل ولا التهجير ولا السجون والمعتقلات في إمكانها إثناء شعب أراد مستقبلاً يحيا فيه بكرامة، وينعم فيه بالأمن والاستقرار. وما محاولات نزع هوية الشعوب والمزيد من الكبت والتضييق إلا تهيئة وتمهيد للحظة الانفجار، والطوفان إذ بدأت موجاته بالتحرر والانطلاق فإنه سيجتاح من حاول إعاقة تقدمه أيّاً كانت قوته، والعاقل من استمع لصوت شعبه، واتعظ بغيره اليوم قبل أن يعتبر الآخرون بمصيره غداً.