استراتيجية الهزيمة.. أداة أمريكا لصناعة الطائفية وقوة إيران الناعمة!

استراتيجية الهزيمة.. أداة أمريكا لصناعة الطائفية وقوة إيران الناعمة!


مع التراجع الأمريكي والغربي الملحوظ أمام السياسة الإيرانية على مختلف الأصعدة، يبرز الحديث عن القوة الناعمة لإيران التي ربما تتشكل لدى البعض في الشعوب العربية والإسلامية، على ضوء سلسلة مواقف أظهرت فيها الندية والمعاملة بالمثل، كان من بينها احتجاز ناقلة نفط بريطانية، وإسقاط طائرة استطلاع أمريكية، مع الإعلان في الوقت نفسه عن تجاوز نشاط تخصيب اليورانيوم الحد المسموح به.

فرغم إعلان ترامب عن تعزيزات عسكرية دولية لحفظ الأمن وحركة الملاحة في مضيق هرمز؛ إلا أن النظام الحاكم في إيران أظهر نفسه أمام العالم والشعوب المحيطة كقوى إقليمية لا تخضع للضغوط، بل تستطيع أن تتجاوز الأزمات بسياسة التحدي التي تعلنها من حين لآخر، على عكس حقيقة المسار الذي رسمته له القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، والذي تجسد في إستراتيجية رئيسية هي صناعة الهزيمة العلنية أمام إيران، لتشكيل هذا (البعبع) في المنطقة.

كيف خرج الصمت الأمريكي والغربي، وتراجعت مواقف الدول الكبرى تباعاً أمام دولة محاصرة بالعقوبات منذ أربعين عاماً؟ بل كيف تحولت التهديدات بشن عمليات عسكرية ضدها إلى إعلان الرغبة في الحوار معها، لتصبح إيران منتصرة مع كل أزمة، وليخرج أعداؤها منهزمين في كل معركة؟

تسليم العراق لرجال إيران أولُ هزيمة أمريكية مصطنعة:

الأمر ليس بعيداً عن فكرة استخدام الولايات المتحدة والغرب لإيران لإرهاب دول الخليج وابتزازها ماديّاً ومعنويّاً، لكن السؤال الأهم هو كيفية صناعة إستراتيجية هزيمة (الدول الكبرى) أمام إيران؟

الإجابة عن هذا التساؤل تعيد الأذهان إلى فترة ما بعد الثورة في إيران عام 1979م، وقدرة النظام الإيراني على الصمود بأفكاره الثورية والعقائدية التي تشجع الاستقلالية والندية أمام العقوبات التي فُرضت عليه، ومن الممكن كذلك أن يكون هذا الصراع مع الولايات المتحدة والغرب منطقياً خلال هذه الفترة، ومن ثَمَّ يكون أي انتصار معنوي لإيران قائماً في أعين المتابعين لها على قدرتها على إظهار التحدي والندية، وفي المقابل يبدو أي تراجع من القوى الكبرى أمامها في شكل هزيمة أمام هذا النظام الجديد.

المواقف التي تلت الثورة في إيران تعطي انطباعات بأنها حقيقية ولا تحمل داخلها هزيمة مصطنعة من الـولايات المتحدة والغرب، كما أن الصراع هنـا قد لا يقبل التشكيك في مجمله خلال هذه الفترة، لكن بظهور التحالف والتنسيق العلنيين بين الولايات المتحدة وإيران مع بداية غزو العراق عام 2003م؛ يمكن الحديث بوضوح عن الإستراتيجية الانهزامية أمام إيران التي بدأت تتجلى بتسريع خطوات برنامجها النووي مع تولي أحمدي نجاد السلطة في عام ٢٠٠٥م، وتصاعد وتيرة اليأس المتعمَّد أمام طموحات إيران النووية منذ ذلك التاريخ، وكأن فكرة ردعها مستحيلة.

هذا الانتصار الإيراني تزامن بالطبع مع تسليم مقدرات الحكم في العراق إلى رجال إيران دون إطلاق طهران رصاصة واحدة أو خوضها حرباً جديدة مع العراق، لتتولى طهران مقاليد السلطة بشكل علني على حساب الولايات المتحدة التي ارتضت الظهور في شكل المنهزم سياسيّاً في إرساء الديمقراطية التي وعدت بها على الأرض بعد غزو العراق.

الفشل السياسي العلني لصالح إيران كان هو لب إستراتيجية هزيمة واشنطن، لصناعة دور طهران الطائفي ليس فقط في العراق، وإنما في المنطقة بأسرها؛ حتى بات اللعب بهذه الروح المتصاعدة هو الأكثر تدميراً لما تبقى على هذه الأرض وفي محيطها، وصولاً إلى خروج تنظيمات مسلحة على أساس طائفي في الاتجاه الآخر، ودخول الأجيال تباعاً غمار مواجهات دامية دمرت بلداناً في المنطقة وقتلت وشردت الملايين.

خروج هذه الصراعات من البلد الذي قررت له واشنطن مسار الديمقراطية على طريقتها كان استكمالاً لمسار الهزيمة التي صنعتها الولايات المتحدة لصالح إيران في العراق، والتي لم تكتـرث لتداعياتها والإرهاب الذي خلفته في كل المنطقة، حتى بعد أن انتقل لأوروبا نفسها لاحقاً.

الاتفاق النووي البابُ الخلفي لتمويل ميليشيات إيران في عهد أوباما:

صناعة الأحداث التي أخرجت هذه الهزيمة أمام إيران لم تكن مرتبطة فقط بإدارة الحزب الجمهـوري لمقاليد السلطة وشنِّ الحرب على العراق تحت قيادة جورج بوش الأبن؛ بل إن الديمقراطيين وعلى رأسهم باراك أوباما كانوا أيضاً من بين المنفذين لهذه الصناعة، وتبنَّوا باحترافية إستراتيجية الهزيمة العلنية أمام إيران ونشر المزيد من الإرهاب بعد ثورات الربيع العربي.

الاتفاق النووي الذي وقَّعته الولايات المتحدة والدول الكبرى مع إيران عام ٢٠١٥م جاء ليقلبَ كل موازين القوى في المنطقة، ويحملَ مزيداً من الانكشاف لخطة واشنطن التي استهدفت تعزيز دور إيران من خلال التسويق إعلاميّاً وسياسيّاً لاتفاق يقضي بخفض نشاط إيران النووي مقابل رفع كل العقوبات الأمريكية والأوروبية ذات الصلة ببرنامجها النووي، دون إظهار النوايا الحقيقية من ورائه.

مكاسب الولايات المتحدة والغرب من هذا الاتفاق ظهرت في شكل الترويج لاتفاقيات وصفقات ضخمة، لكن المكسب الأهم والحقيقي لطهران كان توفير أكثر من مائة مليار دولار من الأموال المجمدة في البنوك الأمريكية والأوروبية وَفْقَ ما أعلنـه الرئيس الأمريكي دونالـد ترامب نفسه قبل الانسحاب من الاتفاق الذي منح طهرانَ التمـويلَ اللازم لنشاطها المسلح في المنطقة، لا سيما في سوريا واليمن.

هذا الاتفاق تزامن مع السماح لروسيا بتدخُّل عسكري أوسع في سوريا جاء في سياق خطة تراجع الدور الأمريكي نفسها؛ إذ ظهر ذلك بعد تنسيق علني بدأ في اجتماع عقده وزيرا الدفاع الأمريكي والروسي في عام ٢٠١٥م وأعقبته مفاوضات أكبر ذات طابع عسكري منحت دوراً متصاعداً لروسيا ومِن خلفها ميليشيات إيران، وكان محل ترحيب من الإدارة الأمريكية تحت قيادة أوباما الذي كان يروج منذ اندلاع الثورة السورية في عام ٢٠١١م للقيام بضربة عسكرية لإنهاء نظام بشار الأسد.

خطة أوباما كانت كسب الوقت لتشتيت المعارضة السورية والتعويل العربي على دور مرتقب للجيش الأمريكي على غرار الدور الغربي ضد معمر القذافي في ليبيا، لكن في الوقت نفسه كان الترتيب للدور الروسي حاضراً بقوة، بل مدعوماً كذلك بميليشيات إيران التي تمكنت من تلقي التمويل اللازم من خلال الاتفاق النووي الذي ساعدها على تكثيف عملياتها في سوريا وحماية بشار الأسد.

الولايات المتحدة نفَّذت هذا المخطط دون اكتراث بصورتها المنهزمة أو حتى الخجل من إظهار نفسها متراجعة أمام النفوذ الروسي والإيراني؛ بل زادت على ذلك بالسكوت عن جرائم روسيا وميليشيات إيران في سوريا، واعتبرتها ضرورة للدفاع عن نظام بشار، والحيلولة دون قيام نظام جديد يهدد أمن إسرائيل.

توسيع النفوذ الإيراني من خلال هذا الاتفاق النووي منح طهران كذلك الدعم الكافي لتمويل جماعة الحوثي في اليمن، وخوض حرب مفتوحة لاستنزاف قدرات دول الخليج، وإجبارها في المقابل على الدخول في سباق تسلح استفادت منه الولايات المتحدة والغرب، ليحقق بذلك طرفا الاتفاق النووي أكبرَ مكاسبَ ممكنة.

مواقف ترامب المتناقضة كشفت مخطط الانتصار الوهمي لإيران أمام أمريكا: 

في الوقت نفسه، لم يسفر هذا الاتفاق النووي عن تنازلات ملموسة من جانب إيران بشأن برنامجها النووي، وظل مخطط إبقائها وميليشياتها قوية وأكثر خطراً ضد جيرانها هو الخيار الذي ظهر للعلن، لتقوم بالدور المنشود في المنطقة، قبل أن يعلن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي في عام ٢٠١٨م، لكن مع فتح باب آخر أمامها وإبداء استعداده للتفاوض على اتفاق جديد.

المسارات التي أعلن عنها ترامب كانت مخالفة لشكل التهديدات التي أطلقها ضد إيران منذ توليه السلطة، كما زاد على ذلك بالتجهيز للحرب على إيران وإرسال تعزيزات عسكرية، قبل أن يُبديَ لاحقاً استعداده للحوار معها، ويقفَ ساكناً على الأرض أمام إسقاطها طائرة استطلاع أمريكية، ويتراجع عن تحذيره لها من أنها تلعب بالنار بعدما أعلنت تجاوز سقف مخزونها من اليورانيوم المخصَّب الحدَّ المنصوصَ عليه في الاتفاق النووي.

التصريحات المتناقضة من جانب ترامب لم تكشف هذا التراجع فقط؛ وإنما أظهرت بوضوح خطة الهزيمة العلنية لسياسة أمريكا أمام إيران، التي اتسقت أيضاً مع التصريحات الضعيفة من قادة الغرب إزاء احتجاز ناقلة نفط بريطانية وتصعيد عمليات تخصيب اليورانيوم.

هذه المواقف منحت إيران مزيداً من الانتصار المعنوي، لكنها كشفت في الوقت نفسه كيف تكون الهزيمة على الجانب الآخر متعمَّدة وتسير وَفْقَ مخطط يستدعي وجود النظام الإيراني وليس تدميره.

إيران لم تستفد فقط بالظهور في موقف المنتصر، ولم تكتف الولايات المتحدة بتحقيق مصالحها المنشودة من وراء هذه الهزيمة المتكررة والمتعمَّدة أمام النظام الإيراني؛ بل سعى كلاهما لتقديم هذه الإستراتيجية في مخطط جديد يستهدف صناعة قوة ناعمة جديدة تخدم التوترات الطائفية في محيطها، لإحداث مزيد من التغييرات السياسية القائمة على تلك المساحة الكبيرة الممنوحة لها من واشنطن والغرب منذ غزو العراق، مروراً بالاتفاق النووي، ووصولاً للصمت على تصعيدها العسكري والنووي خلال الأشهر الماضية.

إستراتيجية صناعة القوة الناعمة لإيران والهزيمة الأمريكية في المقابل، اعتمدت كذلك على أولويات جديدة وضعتها واشنطن لسياساتها الخارجية؛ بحيث تراجعت منطقة الشرق الأوسط والخليج في سُلَّم الاهتمامات التي تستدعي تدخلات مباشرة من الولايات المتحدة، وبات الاعتماد في المقابل على أدوار لقوى إقليمية، على رأسها إيران لتحقيق أهدافها في المنطقة.

تحوُّل السياسة الأمريكية نحو الصين أفسح المجال للدور الإيراني:

هذا الدور الذي منحته أمريكا للنظام الإيراني تزامن مع المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين باعتبارها قوة عالمية تهدد هيمنتها؛ لا سيما في ظل الميزان التجاري السلبي الأمريكي معها؛ حيث تحولت بوصلة الإعلام الأمريكي بشكل لافت من الاهتمام بالتوترات في منطقة الشرق الأوسط والصراع مع إيران، إلى تغطية التظاهرات في هونغ كونغ وروسيا.

سياسة واشنطن وتوجهات الإعلام الأمريكي، باتت منصبَّة على تحديات جديدة للأمن القومي الأمريكي، تتعلق بالنمو الاقتصادي المتصاعد بقوة من جانب الصين، وإعلانها تحقيق السيطرة العالمية في العقد القادم في مجالات تكنولوجية مهمة تشمل الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس الخلوية، باعتبارها أدوات للتجسس الصناعي، ومن ثَمَّ وضعت واشنطن الصراع مع الصين أولوية قصوى على جدول أعمالها الأمني، بإجماع واضح من أعضاء الحزبين الجمهوري والديموقراطي على حد سواء.

ومع وضع الصين على رأس أولويات السياسة الأمريكية، اكتملت في عهد ترامب عملية إعادة الانتشار الإستراتيجي الأمريكي، التي بدأت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما؛ حيث انتقل التركيز إلى الشرق الأقصى، على حساب الشرق الأوسط، في ظل تناقص الاعتماد على النفط العربي مصدراً رئيسيّاً للطاقة؛ ومن ثَمَّ كانت هناك أسباب منطقية لتراجع الدور الأمريكي في المنطقة لصالح قيام إيران بالدور الذي يخدم السياسة الأمريكية، لا سيما في ما يتعلق بسباق التسلح في المنطقة، وتحقيق الاستقرار الأمني لإسرائيل بحماية إيران لبشار الأسد، مع إعلان ترامب أيضاً خفض نشر القوات الأمريكية في سوريا، لإبقاء دور طهران مهيمناً على الوضع خلال الفترة المقبلة.

تحركات الولايات المتحدة الأخيرة زادت من الريبة حيال تعاطي واشنطن مع قضايا المنطقة، لكنها أكدت حجم التنسيق مع النظام الإيراني في ضوء الاستفادة المتبادلة التي يحققها كلا الطرفين مع كل قرار يخرج من جانب أي منهما.

في النهاية، تبدو صناعة قوة ناعمة لإيران على هذه القاعدة من المصالح هي السيناريو الأهم بالنسبة لطهران خلال الفترة المقبلة، مع الترويج لنجاح شعارات الاستقلال والنِّدية التي ترفعها أمام القوى الكبرى منذ ثورة عام 1979م لمداعبة مشاعر الشعوب العربية، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، وكأنها لم تكن طرفاً رئيسياً في تدمير بلدان المنطقة الواحد تلو الآخر؛ وهو ما يستدعي مزيداً من التركيز على سياسات المصالح الأمريكية والإيرانية، ووضعها في موقعها الصحيح من الأحداث، مع عدم التعويل إعلامياً وسياسياً على دور واشنطن كمنقذ محتمل للشعوب، أو الافتتان بالقوة الناعمة المصطنعة لإيران كبلد منتصر أمام القوى الكبرى. 

 

 

 

أعلى