• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مآلات الحراك في الجزائر

مآلات الحراك في الجزائر


حراك الشعب الجزائري منذ خروجه اعتراضاً على ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة ليس كأي حَراك؛ صحيح أن البعض يعدُّه امتداداً لحَراك الشعوب العربية في عام 2011م؛ إلا أن الأحداث التي مر بها الشعب الجزائري تجعل لتجربته خصوصية تحتاج إلى قراءة مختلفة.

فتَحَول الجزائر من الثورة إلى الدولة مرَّ عبر أنْهُر من دماء الشهداء والمنضالين؛ فقد وقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في عام 1830م، واستمر الشعب الجزائري منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين أرضهم بتقديم التضحيات للحصول على حريته واستقلاله، وصولاً إلى ثورته التي اتسمت بالصفة العسكرية عام 1954م إلى أن حصل على استقلاله عام 1962م بعد مائة وثلاثة وثلاثين عاماً من الكفاح، قدَّم خلالها الشعب الجزائري ما يربو على سبعة ملايين شهيد.

لقد ترك الاحتلال جراحاً عميقة في المجتمع الجزائري، والتي لم يكد يتعافى منها حتى كان على موعد مع موجة أخرى من التضحيات؛ إذ مثَّل الفوز الساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات عام 1991م نذير خطرٍ، والذي عُدَّ لدى كبار رجال قيادات الجيش الجزائري أمراً غير مقبول، فقاموا بعزل الرئيس (الشاذلي بن جديد) في 11 يناير 1992م وإلغاء نتائج الانتخابات، وتم اصطناع رئيس جديد للجزائر وهو (محمد بوضياف) - الذي كان يعيش في المغرب بعيداً عن صراعات السلطة - ليكون رئيس المجلس الأعلى للبلاد، وفي 4 مارس 1992م قامت الحكومة بإلغاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ كحزب سياسي مرخص. ودخلت البلاد في آتون ما عُرِف بعد ذلك بالعشرية السوداء؛ التي كانت أشبه بحرب أهلية راح ضحيتها مئات الضحايا والشهداء من الشعب الجزائري، إلى أن توقف القتال في عام 2002م.

وما هي إلا أعوام قليلة حتى خرج الشعب الجزائري مرة أخرى في عام 2019م ليعبِّر عن رفضه لاستمرار منظومة الفساد واستمرار رئيس مُقْعَد في سدة الحكم لولاية خامسة. وما زالت جموع الشعب الجزائري لوقتنا هذا في الشوارع للمطالبة بحقوقهم وحريتهم والعيش بكرامة وحرية.

كل تلك المعارك التي خاضها وما يزال الشعب الجزائري صقلت وعيه، وبات على دراية كاملة بتقلبات السياسة والسياسيين وألاعيبهم. إضافة إلى تجارب الجوار التي ما زالت حاضرة؛ فالتجربة السورية ودماؤها التي ما زالـت نازفة، واليمن وما أصابه من دمار، وليبيا وغياب الدولة... كل تلك النماذج حاضرة في أذهان شعب واعٍ له تاريخ مشرق في مقاومة الظلم والاحتلال.

والخلاصة: أن تجارب الشعب الجزائري ووعيه السياسي والثوري أعمق وأكبر بكثير من تجارب بقية شعوب دول الجوار.

كما أن الجيش الجزائري على دراية كافية بما تمرُّ به المنطقة من أزمات تلجمه عن معاودة تجربة العشرية الدموية أو إعادة السيناريو السوري الذي لا يعد نموذجاً يتطلع له أي نظام سياسي آخر، صحيح أن التجربة السورية أجهضت الثورة إلى حد كبير لكنها بالمقابل أفقدت الدولة استقلالها وهيبتها، وتفكَّك جيشها، ولم يعد للنظام السوري إلا وجود صوري باهت، وأصبح الجميع يعلم أن القرار في سوريا بيد إيران وروسيا.

فرنسا أكبر الحاضرين في الملف الجزائري؛ إذ تحتل الأوضاع الداخلية في الجزائر مساحة كبيرة في الاهتمام الفرنسي إلى المدى الذي تحدثت به الصحف الفرنسية أن الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) ما يؤرقه وهو يدير شؤون فرنسا من قصر الإليزيه ليس تداعيات حركة السترات الصفراء ولا انعكاسات البريكسيت ولا إمكانية اندلاع حرب دولية ضد إيران؛ بل الكابوس الذي يشغل اهتمامه هو تطورات الأزمة الجزائرية. ودليلاً عن هذا القلق الفرنسي الكبير، سارع الرئيس ماكرون بطلب سفيره في الجزائر (كزافيي دريانكور) للمجيء إلى باريس مع بداية الحراك، ونصحه بالتعامل بكل حذر في ما يخص البيانات الصادرة عن الرئاسة الجزائرية لغموض الوضع في قصر المرادية.

لا تريد فرنسا أن تقع الجزائر في آتون الفوضى والحروب، ليس حبّاً بالجزائريين ولا ضنّاً بالدماء الجزائرية، لكن لأن الفوضى والدماء هي الوصفة المحفزة لطوفان الهجرة واللجوء السياسي، وهي الإشكالية التي تعاني منها دول أوروبا، وتسعى بكامل طاقتها لوقفها وسنِّ القوانين التـي تحد من عـدد اللاجئين القادمين إليها.  وما ازدياد نفوذ أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا إلا ردة فعل على ازدياد معدلات المهاجرين الأجانب إلى أوروبا. وأصبح ملف الهجرة واللاجئين من أهم الملفات لدى السياسيين في أوروبا، وباتت قوانين الحد من الهجرة واللجوء هي الميدان الذي تتبارى فيه الحكومات الأوروبية للحفاظ على شعبيتها. كما أن العلاقات الاقتصادية بين فرنسا والجزائر تمثل نقطة ارتكاز كبيرة في العلاقات بين الدولتين، وهناك خشية كبيرة من تأثُّر تلك العلاقات الاقتصادية. إلا أن فرنسا مطمئنة إلى أن الجيش الجزائري بقياداته الموالية لها ما زال ممسكاً بمفاصل السلطة ولا تبدو أية مراكز قوى أخرى تزاحمه على السلطة في الجزائر؛ وهو الأمر الذي من شأنه طمأنة ساكني قصر الإليزيه.

مآلات الحَراك الجزائري

الحقيقة، أن ما حدث في المنطقة العربية منذ عام  2011م من مظاهرات شعبية لا يمكن بحال وصفه بالثورات؛ فالثورة في علم السياسة هي محاولة شعبية لتغيير الأنظمة الحاكمة وليس تغيير الأشخاص القائمين على تلك الأنظمة على نحو ما حدث في الحَراك الشعبي العربي؛ فخروج المظاهرات الشعبية للمطالبة بانتخابات حرة ونزيهة ومحاكمة الأشخاص الفاسدين وإزالتهم من المشهد السياسي إنما هي في أدبيات السياسة حراك شعبي إصلاحي.

والخطأ الذي وقع فيه الكثيرون أنهم حاولوا أن يرفعوا من سقف تلك التحركات الشعبية والوصول بها للحد الأقصى في بيئة إقليمية ودولية شديدة التعقيد، وهو ما أدى بها إلى حالات من الانتكاسات والتداعيات شديدة السلبية.

إن السيناريو القائم الآن وهو الأقرب إلى التطبيق هو سيناريو توازن القوى؛ فلا أحد في الجزائر يريد الاندفاع إلى مواجهات غير محسوبة؛ فلا الشعب الجزائري رفع من سقف مطالبه إلى الحد الذي يقع في معادلة صفرية مع النظام، وابتعد بشكل كبير كذلك عن أدلجة الحراك وقضايا الصراع على الهوية، وهو الأمر الذي وقع فيه حَراك الشعوب العربية المجاورة.

كذلك كان لخبرة الإسلاميين السابقة ووعيهم بتطورات الأوضاع في الدول المجاورة، أثرٌ في ابتعادهم بشكل كبير عن تصدر المشهد، والبعد عن طرح القضايا مثار الجدل.

ولا الجيش الجزائري يريد أن يكرر تجربة العشرية الدموية إلا إذا تأزمت الأمور بشكل كبير. وهو يعلم تداعياته الكبيرة على المجتمع الجزائري.

ولا القوى الدولية والإقليمية تريد بؤرة ساخنة أخرى في المنقطة العربية. وهو الأمر الذي يدفع إلى نقطة اتزان حيث تسير الأمور في الجزائر على هذا الخيط الرفيع: تغيير هادئ بطريقة بطيئة لكنه مؤكد المفعول، متكئ على وعي كبير لدى شعب صلب عظيم.

  

أعلى