الانسحاب الأمريكي من سوريا.. مآلاته وتداعياته
يمثل الوضع السوري بما فيه من تعقيدات ساحة تنافس بين العديد من القوى الإقليمية
والدولية؛ إيران، روسيا، تركيا، إضافة إلى الوجود العسكري الأمريكي. وفي الوقت الذي
يسعى فيه كل طرف لتعزيز نفوذه خاصة وأن الثورة السورية باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة،
جاء إعلان الرئيس الأمريكي الانسحاب العسكري من سوريا ليخلط كافة الأوراق، سواء
للقوى التي تملك وجوداً أو نفوذاً عسكرياً على الأرض السورية، أو دول الجوار.
وبمقاييس الربح والخسارة، هناك أطراف يمثل لها الانسحاب الأمريكي مزيداً من النفوذ،
وللبعض الآخر خسائر وأوضاع مقلقة، أحد أكثر المستفيدين من هذا الانسحاب هو النظام
السوري نفسه الذي يسعى لاستغلال هذا الوضع العسكري الجديد لتوسيع نفوذه والسيطرة
على ما تبقى من أراضٍ خارج نطاق سيطرته.
ويبدو أن الأكراد الذين بتات ظهورهم إلى العراء بعد تخلي الجيش الأمريكي عنهم يجدون
في نظام الأسد أحد الحلول للخروج من أزمتهم، خاصة في ظل التهديدات التركية
المتواترة بعملية عسكرية شاملة تجاههم. الحقيقة أن الأكراد طالما كانوا يحلمون بحكم
ذاتي لمناطق تجمعهم في سوريا لكن يبدو أن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفنهم وسيصبحون
هم الخاسر الأكبر من تلك التحولات العسكرية الأخيرة، وهم الآن يحاولون بشتى الطرق
الحفاظ على الحد الأدنى من مكتسباتهم، عبر التوجه إلى الحكومتين الروسية والسورية
لإبرام صفقة مع الحكومة السورية تضمن لهم حكماً ذاتياً مقابل موافقة الأكراد على
استعادة الأسد السيطرة على كامل المناطق السورية، والواقع أن الأكراد قد باشروا قبل
أشهر محادثات رسمية مع دمشق حددوا هدفها بوضع خريطة طريق تقود إلى حكم لامركزي، لم
تسفر عن نتائج بعد، مع رفض النظام القاطع لمبدأ الإدارة الذاتية، فالنظام السوري لن
يسمح للأكراد أبداً أن تكون لهم دويلة أو تترك لهم مناطق لتكون تحت الحكم الذاتي
طالما اختارت الولايات المتحدة التخلي عنهم.
أما إيران فهي من سيتلقى الجائزة الكبرى، فالإستراتيجية التي استثمرت فيها إيران
وأنفقت عليها مئات الملايين وجندت لها المليشيات لتثبيت أقدام النظام السوري، ها هي
تواتيها على طبق من ذهب. فمن جهة سيفتح الانسحاب الأمريكي الباب أمام مزيد من
التمدد للنظام السوري على حساب المعارضة، خاصة وأنه قد دخل في مرحلة إعادة التأهيل
السياسي. ومن ناحية أخرى فالتخلص من النفوذ العسكري الأمريكي يجعل أمر البقاء
الإيراني والهيمنة على الدولة السورية أسهل، خاصة في ظل دعوات إقليمية سابقة من دول
الجوار كانت تعول على الوجود العسكري الأمريكي للضغط على إيران وتحجيم نفوذها،
والآن بعد الخروج العسكري الأمريكي لم تعد هناك قوة تدفع إيران لاتخاذ هذا الإجراء.
إن إعلان ترمب الانسحاب الكامل من سوريا يعزز النفوذ الإيراني بالدرجة الأعلى، حيث
ستصبح حركة السير من إيران إلى سوريا عبر العراق ومن ثم إلى لبنان وحزب الله أكثر
سهولة ويسراً، وهو ما يعني إتمام قوس الهلال الشيعي في شمال الجزيرة العربية.
والأمر يعزز من تماسك وثبات الحوثية في اليمن، إذ نجاح الإستراتيجية الإيرانية في
سوريا يرفع الحالة المعنوية للحوثيين برغم الاختلاف في العديد من المعطيات على أرض
الواقع، لكن يبقى الاشتراك في المشروع الإيراني الرابط الأساس بين الواقعين.
أما بالنسبة لتركيا وإن كان الأمر يبدو للوهلة الأولى أنه يشكل مكسباً إستراتيجياً
إذ طالما سعت تركيا لتقويض وجود مليشيات حماية الشعب الكردي بوصفها حركة إرهابية
وامتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي إلا إن الوجود العسكري الأمريكي شكل
حائلاً دون تحقيق هذا الحلم بتوجيه ضربة عسكرية تجاهها، وبرغم الإعلان عن الانسحاب
الأمريكي إلا إن هذا لا يعني تفويضاً لتركياً بتنفيذ خطتها. فالتصريحات الأمريكية
جميعها تشير لعدم تمكين تركيا من إنفاذ حملتها العسكرية ضد المليشيات الكردية.
من جهة أخرى فقد دفع القرار الأمريكي بالانسحاب من شمال سوريا الروس للحضور بشكل
أقوى، فهم يستطيعون من خلال علاقاتهم مع النظام السوري من جهة والعلاقات مع تركيا
من جهة أخرى أن يلعبوا دوراً بارزاً في إدارة هذا الملف.
فالروس يتمتعون بعلاقة إستراتيجية متميزة مع الأتراك والتي تتجاوز الملف السوري إلى
كثير من الملفات السياسية والعسكرية إضافة إلى العلاقات الاقتصادية التي توطدت خلال
الآونة الأخيرة والتي يمكن وصفها بالإستراتيجية؛ مثل مشروع خطي الغاز بين روسيا
وتركيا حيث سيغذي خط الغاز الأول تركيا باحتياجاتها من الغاز الطبيعي، بينما سيصل
الخط الثاني إلى دول جنوب شرق أوربا خاصة اليونان وإيطاليا. حيث سيتم افتتاح الخطين
اللذين سينقلان كمية متساوية من الغاز في الأول من يناير 2020م. وتكمن أهمية
المشروع بالنسبة لروسيا في فتحه طريقاً التفافياً لتجاوز أوكرانيا التي احتكرت
توريد الغاز الروسي عبر خط الغاز الجنوبي طوال الفترة الماضية. وسيمنح المشروع
موسكو فرصة تاريخية لاحتكار تصدير الغاز إلى أوربا التي ترتفع وتيرة طلبها عليه
بشكل مطرد حتى بلغت في السنوات الأخيرة 450 مليار متر مكعب سنوياً. تلك العلاقات
المتشابكة بين تركيا وروسيا من جهة والروس والنظام السوري من جهة أخرى تضع روسيا في
موقف الوسيط الذي يحاول تجسير العلاقات بين النظامين التركي والسوري وإيجاد حلول
وسطية ترضي الطرفين.
وعلى النقيض من الموقف الروسي التركي تأتي العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة
الأمريكية شديدة التذبذب برغم الإعلان التركي الأخير عن موافقة الولايات المتحدة
على إنشاء منطقة آمنة على حدودها بعرض 30 كيلومتراً داخل الحدود السورية، إلا إن
المتابع لمواقف وتصريحات الإدارة الأمريكية يظهر له بجلاء مدى تأرجحها، فما زال
المشهد مرتبكاً مع رفض بعض المؤسسات الأمريكية من بينها البنتاغون الانسحاب الكامل،
فضلاً عن ارتباك المشهد مؤخراً بعد مقتل أربعة جنود أمريكيين في تفجير استهدفهم
بمدينة منبج بعد أيام من تصريحات ترمب عن الانسحاب من الأراضي التي أطلق عليها اسم
«أرض
الرمال والموت».
بدورهم، يبدي أكراد سوريا رفضهم إقامة
«منطقة
آمنة»،
حتى وإن كانت بموجب مبادرة اقترحتها حليفتهم واشنطن وبموافقة أنقرة. ويقترحون
بديلاً عن ذلك خطاً فاصلاً بين تركيا وشمال سوريا عبر استقدام قوات تابعة للأمم
المتحدة لحفظ الأمن والسلام أو الضغط على تركيا لعدم مهاجمة مناطقهم.
إدلب في قلب العاصفة
ليس بعيداً عن انعكاسات الانسحاب الأمريكي تأتي التحركات العسكرية التي قامت بها
هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) لتضيف مزيداً من التعقيدات، فاستيلاء هيئة تحرير
الشام على مناطق واسعة في إدلب بعد معارك خاضتها مع المعارضة المسلحة المعتدلة
والمدعومة تركياً والتي فضلت الانسحاب تاركة إدلب وهي من المناطق المشمولة بوقف
التصعيد تحت سيطرة هيئة تحرير الشام.
الجدير بالذكر أن اتفاق أستانا بين الدول الثلاث روسيا وإيران وتركيا خول تركيا
التعامل مع التهديدات التي تنبثق من جماعات إرهابية، واشترط وقف العمليات العسكرية
في تلك المناطق بقدرة تركيا على ضبطها وإخراج الجماعات المصنفة بالإرهابية وفي هذا
الإطار ينبغي ذكر أن تركيا تصنف
«هيئة
تحرير الشام»
منظمة إرهابية، وذلك بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً على قائمة
الإرهاب في 31 مايو 2018م. وهو الأمر الذي يعطي متكئاً سياسياً إذا رغب النظام
السوري بدعم من روسيا وإيران في معاودة الهجمات العسكرية على إدلب وإلقاء البراميل
المتفجرة أو الغازات السامة كما هو أسلوب النظام في إدارة معاركه العسكرية، وهو ما
يعني مزيداً من الدماء ومزيداً من المشردين واللاجئين من الشعب السوري.
يرى بعض المحللين أن معركة إدلب قادمة لا محالة، وهو الأمر الذي يشتبك مرة أخرى مع
ملف الانسحاب الأمريكي، إذ يرى البعض أن اللقاء التركي الروسي قد يفضي لإقامة منطقة
آمنة شمال سوريا مقابل اعتراف تركيا بالنظام السوري والكف عن المطالبة بتنحية بشار
الأسد عن الحكم، وقد تدخل إدلب ضمن هذا الاتفاق.
وفي خضم تلك الحسابات العسكرية المعقدة وتباينات الموافقة السياسية الإقليمية
والدولية المختلفة، يقف الشعب السوري - إلا من معية الله - كأيتام فوق مائدة
اللئام، يستخدم من قبل الجميع، ويدفع هو وحده الثمن من دمائه وحريته وكرامته، لكن
الدماء الذي سفكت وآهات اليتامى التي دوت لن تذهب أبداً أدراج الرياح، فالثورات
التي روتها الشعوب بدمائها الزكية تخبو أحياناً ولكنها أبداً لا تموت، وما تلبث أن
تعود لتنتقم من جلاديها.