أهل الأهواء والدين المبدل
قال لي صاحبي: قد وعدتني ببيان أن الاجتماع على المحكمات من خصائص أهل السنة والجماعة[1].
قلت: هذا المقال بما فيه من تفصيلات هو تحقيقٌ لطلبك الذي وعدناك به، ولكن هل تحب أن نسرد البيان سرداً أم يكون على طريقة السؤال والجواب كما سبق في المقالات الأولى؟
قال: طريقة السؤال والجواب أنفع وأقوى نشاطاً للذهن.
قلت: إذن نبدأ بالسؤال الرئيس، وهو كيف بدل أهل الأهواء الدين؟ ونوجه السؤال إليك لعلك تجيب بما سمعت في المقالات السابقة.
قال: نعم، فهمت أن المخالفين حرفوا مفاهيم الدين وابتدعوا فيه وشرعوا من عند أنفسهم وافتاتوا على الشرع واستدركوا عليه، ولبسوا الحق بالباطل، ولم يعظِّموا الله حق تعظيمه.
قلت: أحسنت، هذا جوابٌ سديد.
قال: كيف يكون التعظيم الصحيح؟
قلت: يكون بتعظيم الله بالتوحيد، وتعظيم أمره بالإيمان به واتباع سنة نبيه، وهذا خلاف دين أهل الأهواء.
قال: ولكن بعض الناس عنده شبهة لا بد من رفعها، وهي قولهم كل بدعة يزعم فاعلها أن فيها مصلحة تكون عنده حسنة وإن لم يأتِ بها الشرع.
قلت: لم يأذن الله للناس بالاستدراك على شرعه وبيّن لهم أن الشريعة كافية، وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، فالشريعة كافية ولا حسنة في ما يخالفها، وما لم يأتِ به الشرع نصاً أو لم يدل عليه مجموع نصوصه فلا يجوز نسبته إليه.
قال: وهل انقطاع الوحي والتشريع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم يعني انفراد الشارع بالتشريع؟
قلت: نعم، وهذه قاعدة عظيمة تميّز بها أهل السنة في تحديد العقائد والأحكام والمفاهيم، إيماناً منهم بأن ذلك كله مرجعه الشرع، وأنهم يتلقون ذلك من الكتاب والسنة ولا يأذنون لأنفسهم بالزيادة أو النقص منه. وهذا الذي جعل دينهم صحيحاً، وأما الدين المبدل فهو على الضد من ذلك.
قال: وكيف يكون تعاملهم مع المستجدات؟
قلت: يكون ذلك عن طريق الاجتهاد.
قال: ما الفرق بين الاجتهاد والتشريع؟
قلت: التشريع المطلق إنشاءٌ للأحكام والعقائد ابتداءً، وأما الاجتهاد فهو استنباط واستخراج الحكم من النص الشرعي أو من مجموعة نصوص تضمنت بيان مقصد الشارع.
قال: إذن كل المصالح عند أهل السنة لا بد من ربطها بالشريعة باجتهاد صحيح؟
قلت: نعم.
قال: مثّل لي.
قلت: أنواع التعازير في الجرائم التي ليس فيها حدود وعقوبات مقدرة، وكذلك مسائل الاقتصاد الجديدة المعاصرة، وكذلك طرق الإدارة، ويدخل في ذلك كثير من المسائل الجديدة المتعلقة بأحكام الأقليات التي تعيش في بلاد غير المسلمين، كل هذه المستجدات لا بد من ربطها بالشريعة بطرق الاجتهاد الشرعية.
قال: اذكر الأدلة على ذلك.
قلت: الأدلة على ذلك كثيرة، وكل آية أو حديث أمر المسلمين بالرد إلى الشريعة يصلح دليلاً على ما ذكرناه آنفاً، ومن ذلك:
- {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٣].
- {الچـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].
- {إنِ الْـحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
- {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
- {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
هذه الآيات محكمات في بيان دين الإسلام ووجوب اتباعه والتحاكم إليه، وهي من أصول أهل السنة المجمع عليها، وقد خالف كثيرٌ من الفرق في ذلك قديماً، كما خالف العلمانيون والاشتراكيون والقوميون والبعثيون المنتسبون للإسلام ولهذا قلنا: إن الاجتماع على المحكمات من خصائص أهل السنة والجماعة، وكذلك من خصائصهم العمل على ربط المستجدات بالشريعة، وكذلك تحاكمهم إلى مرجعية الشريعة الربانية التي هي الكتاب والسنة ولا يتخذون مرجعاً سواها، ويعتقدون أن اتخاذ مرجعٍ سواها ضلالٌ مبينٌ.
قال: وإذا احتجنا إلى أحكام جديدة في هذه الأزمنة الحديثة المتطورة؟
قلت: سبق الجواب عن ذلك؛ نستخرجها من الشريعة، وأقل درجات الاجتهاد أن تكون مقبولةً شرعاً وتكون الأحكام الجديدة محكومة بمقاصده، وأما إن خرجت عن حكم الشريعة فهي مردودة بإجماع.
قال: ولماذا هذا التشديد؟!
قلت: لأن الشارع الحكيم قصد الانفراد بالتشريع، وذلك لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.
قال: ما معنى الانفراد بالتشريع؟ ولو مثلت لكان أسهل في الفهم.
قلت: نبدأ بأمثلةٍ جزئية ثم نتبعها أمثلةً كليةً، فمن الجزئية انفراد الشارع بتشريع تحريم الربا، فلو شاركه علماء الديانات والأحبار والرهبان وأصحاب الأنظمة الوضعية المخالفة للشريعة في وضع حكمٍ جديدٍ له وهو الحِّل، كما كانت تقول الجاهلية الأولى (إنما البيع مثل الربا)، لكان ذلك منهم مشاركةً في التشريع ورفضاً منهم لانفراد الشارع بالتشريع.
وكذلك تشريع الحجاب مع أن الله قصد الانفراد بتشريع الأحكام لمصلحة عباده فخالفه أهل الأهواء في التشريع، فأجازوا للمرأة خلع حجابها، والخلوة بالأجانب، وشرعوا العقوبات على من يمنع ذلك، وهذا مضادة منهم للتشريع الرباني.
قلت: ومن الأمثلة الكلية أن الكفار شرعوا من عند أنفسهم مذاهبهم من العلمانية والشيوعية والوجودية والحداثة، وهكذا صنع كثيرٌ من الناس في العالم الإسلامي وأقروا هذه المذاهب وبنوا عليها أنظمتهم الوضعية، بل زادوا عليها إنشاء القومية والاشتراكية والبعثية، ومنحوا الشرعية للفرق الباطنية، ولو كان هؤلاء يؤمنون بانفراد الله سبحانه وتعالى بالتشريع، وأن الحكم لوحيه كتاباً وسنةً لما صنعوا ذلك.
قال صاحبي: هذه انحرافات خطيرة، سببها عدم الإيمان بهذه العقيدة، واتباع المتشابهات وترك المحكمات، والآن تبين لي أن الاحتكام إلى المحكمات من خصائص أهل السنة، علماً وعملاً واعتقاداً ونصرةً.
قلت: نعم، وعدم العمل بهذه العقيدة أدى إلى نشوء الدين المبدَّل، ويشمل ذلك التبديل عند أهل الكتاب والأميين وغيرهم، ولهذا أنكر الله عز وجل عليهم ترك الحق والإعراض عنه، فقال سبحانه: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْـحِسَابِ 19 فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19، 20]، فهؤلاء قامت عليهم حجة الله وبلغهم العلم فتركوا شرع الله وشرعوا لأنفسهم ما يشتهون، وخالفوا في أكبر محكمين من محكمات الشريعة، المحكم الأول: التوحيد، فقد أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، والمحكم الثاني: الإيمان بالأنبياء جميعاً وعدم التفريق بينهم، وهكذا ترك أصحاب الديانات التوحيد وفرقوا بين الأنبياء فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وأما المنافقون؛ فآمنوا ببعض الكتاب وأعرضوا عن بعض، وهذا منهم ترك لمحكم من المحكمات وهو وجوب التحاكم إلى الشرع جميعاً.
قال: إذن انتشار الجرائم الكبرى سببه ترك المحكمات والإعراض عن منهج أهل السنة!
قلت: نعم، ويصدق ما قلت انتشار جرائم أربعة، هي من أكبر جرائم البشرية اليوم وهي أركان الدين المبدل.
قال: وما هي هذه الجرائم؟
قلت: إباحة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والإشراك بالله، والقول على الله بغير علم. وهذا كله مضادة لله في تشريعه.
قال: اذكر لي الدليل على ذلك.
قلت: قال الله تعالى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣].
قال: وكيف عرفت أنها من أكبر جرائم البشرية قديماً وحديثاً؟
قلت: تاريخ أكثر البشرية شاهد على ذلك، إلا من آمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، وفي الآية السابقة إعجازٌ تشريعيٌ حيث اشتملت آيةٌ واحدةٌ موجزة على بيان أخطر ما يهدد البشرية من أصول الانحرافات.
قال: هذه الآية من المحكمات الواضحات البينات التي إذا عمل بها الإنسان والتزم بما فيها من أحكام عصمه الله من الضلالة.
قلت: نعم، بارك الله فيك.
قال: بيِّن لي أركان الدين المبدَّل.
قلت: الضدُّ يُعرف بالضد، فإذا خالف كثيرٌ من البشر ما ورد في الآية السابقة فقد خالفوا الدين الصحيح ووقعوا في الدين المبدل، الذي من صفاته التشريع من دون الله تحليلاً وتحريماً، ووقوع البغي والظلم، والشرك والخرافة، والقول على الله بغير علم، وهذه أهم أركان الدين المبدل.
قال: ما وجه الربط بين تبديل أهل الكتاب والمنافقين وأهل الأهواء من المنتسبين لأهل الإسلام؟
قلت: يرجع ذلك كله إلى أصل وهو التشريع البشري المطلق، وهذا هو المصدر الأساس في جميع القوانين الوضعية، وهو أول المصادر كما ورد النص عليه عندهم، سواء في الأنظمة الغربية أو الأنظمة المتأثرة بها.
قال صاحبي: ما معنى التشريع المطلق؟
قلت: هو إنشاء الأحكام ابتداءً دون الرجوع إلى الشريعة، وهو محرمٌ بالكتاب والسنة والإجماع.
قال: إذن عند أهل الحق تشريعٌ إلهيٌ رباني، وعند أهل الأهواء تشريعات بشرية يتكون منها دينٌ مبدَّلٌ؟!
قلت: نعم، وقد وقع الخلاف ووقعت الخصومة في الدين بين أهل الحق والباطل، فأهل الباطل ديدنهم التشريع بالهوى دون الرجوع إلى الشريعة، وإقرارهم العمل بالبدع والأهواء والمذاهب الفكرية المعاصرة، والقوانين المخالفة للشريعة، ودافعوا عن هذا الدين المبدل، وأنكروا على من خالفهم من أهل السنة والجماعة وحاربوهم وأوقفوا دعوتهم، واتهموهم بالرجعية والتطرف.
قال: هؤلاء يزعمون أنهم يريدون العدل والإصلاح والحرية والرشاد.
قلت: نعم، هكذا يزعمون كما زعم أمثالهم من قبل، قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وقال المنافقون مثل ذلك: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]، والبشرية اليوم تدعي العدل والإصلاح والحرية والرشاد، ولم يمنعها ذلك من تلك الجرائم الكبرى التي أشارت إليها الآية السابقة.
قال: ومثل ذلك، مع اختلاف درجات الانحراف، صنيع أهل الأهواء، فقد زعموا أنهم أهل الولاية والعصمة، وأن عباداتهم عند الأضرحة والقبور ما هي إلا تقربٌ للأولياء ليقربوهم إلى الله زلفى.
قلت: نعم، فتح الله عليك، وكذلك صنيع أهل الديانات ومشركي العرب فقد ادعى كل فريق أن إبراهيم عليه السلام أبا الأنبياء إمامَه وقدوتَه، وهذه أكبر دعوى للشرعية، وقد حكم الشرع فيهم جميعاً، فقال الله سبحانه: {مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، فكذبهم الله وكشف سترهم وقبح دينهم، وقد بنى المسلمون تصوراتهم على هذه الآية وهم مستضعفون في مكة وردوا الحق إلى نصابه وشهدوا على أهل الضلالة بالضلالة، وما ضعفوا وما استكانوا وما تخاذلوا وهكذا يجب أن يقتدي بهم أهل السنة في الفصل بين الحق والباطل.
قلت: وهذا مثالٌ يبين كيف يدعي أهل الباطل أنهم على الحق ويزينون لدينهم المبدل ويضفون عليه الشرعية وينزعونها عمن سواهم، وكثيرٌ من أهل السنة وكثيرٌ من دعاتهم ينهزمون ويضعفون عن ذلك ويتخاذلون ويصيبهم الوهن ويتهربون من إعلان الحقيقة، ولو في همسة كلمة أو في تسطير خطٍّ وحرف، فضلاً أن يكون ذلك بالبلاغ المبين.
قال: وكذلك شأن المنافقين فقد نزعوا الشرعية عن أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كما سبق بيانه.
قلت: نعم، وادعوا الشرعية لأنفسهم كما بينا سابقاً، وقالوا إنهم يؤمنون بالله ورسوله ويطيعونهما ويؤمنون باليوم الآخر وإنهم مصلحون، وهكذا يزعمون، ولتأكيد صحة زعمهم؛ إذا كان لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، وهذا هو أشد أنواع المكر حيث ادعوا الشرعية لأنفسهم وتسفيه أهل الحق من المهتدين، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ 47 وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ 48 وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ 50إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ 51 وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 47 - 52].
قال: ألم تر أن الدين المبدل أخذ مساحات واسعة بسبب دعم الكفار والمنافقين وأهل الأهواء وضيقوا على الدين الصحيح، ومن أبرز الأمثلة دين الرافضة الذين شرعوا لأنفسهم ديناً خاصاً، مرجعيته الأئمة المعصومون الذين يدعون علم الغيب ويتبعون بزعمهم العلم اللّدني، ويسمون أهل السنة أهل الشريعة والرسوم، وهم أهل الكشف والحقائق والعصمة، وقد ساعدهم الكفار والمنافقون على تصدير دينهم المبدل للناس وثورتهم المقدسة!
قلت: فتح الله عليك ونور بصيرتك وجعلك من أهل الحق، وقد صدقت؛ لقد اجتمع أهل الأهواء على الإعراض عن الكتاب والسنة وعلم الصحابة رضوان الله عليهم، وذموهم وابتدعوا لهم شرائع لم ينزل الله بها من سلطان، وعادوا أهل السنة والاتباع.
قال: إذن اعتماد المحكمات منهجاً دعوياً وتعليمياً هو سرُ قوة المجددين من أهل السنة.
قلت: نعم، لأن المخالفين يوافقوننا في أمور جزئية وفي مجالات متعددة، لكنهم يتبعون المتشابهات ويخالفون بعض المحكمات.
قال: لو ذكرت أمثلة تبين ذلك؟
قلت: نعم الكفار كانوا يعظمون البيت الحرام، ويعظمون بعض الأمور الجزئية في ملة إبراهيم لكنهم يشركون بالله، ويخالفون في أول محكم من محكمات الدين وهو التوحيد.
وكذلك أهل الأهواء يطوفون بالكعبة المشرفة، ويعظمون الله لكن على الشرك، ففرق بين من يطوف ويشرك بالله ويدعو غير الله في صلاته، وأنت لا تدعو في صلاتك إلا الله وحده، كما أنه فرق بين من يقبل بعض العبادات ويأبى التحاكم إليه في المعاملات وبقية الشريعة، وبين مسلم مستسلم للشرع بدون استثناء، وفرق بين منافقين يضرون بالإسلام ويقولون نشهد أن محمداً رسول الله، وأنت أيها المسلم تشهد أن محمداً رسول الله ولكن شتان بين شهادة وشهادة. وأظن أن في هذه الأمثلة كفاية.
قال: إذن اعتماد المحكمات منهجاً دعوياً هو الحل لتحقيق مصلحة الإسلام ومصلحة المخالفين، وأما الاجتماع معهم على بعض الجزئيات وترك المحكمات فإنه فتنة لنا ولهم.
قلت: نعم.
قال: ألا يُخل ذلك بالجزئيات وشمول الشريعة؟
قلت: لا، بل إنَّ المحكمات قوة للعمل بالجزئيات، ولا تتحقق صفات الشريعة من حيث الثبات والشمول إلا بالرد للمحكمات والمحافظة عليها والعناية بها ووضعها في الموضع اللائق بها.
قال: هذا إذن تكافل: فالمحكمات قاعدة الثبات والشمول.
قلت: نعم فتح الله عليك.
قال: اذكر لي بعض الأمثلة ولو بإيجاز في مخالفة الفرق للمحكمات، حتى يتبين لي أهمية المحكمات.
قلت: المثال الأول: بدَّلت الخوارج في محكم الإيمان وزادت فيه ما ليس منه، وغلت في التكفير، وخالفت ضوابط أهل السنة فيه، وترتب على ذلك تبديل محكم آخر، وهو متعلق بحفظ النفس المعصومة، واستحلت على ذلك دماء المسلمين، فهذه محكمات، انحرفوا في فهمها وتركوا العمل بها، والحق أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا تكفير إلا بمكفر معتبر، بعد تحقيق ضوابط التكفير وانتفاء موانعه، والفاسق الملي لا يكفر ولا يخلد في النار وأنه تحت المشيئة، لقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِـمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
المثال الثاني: غلو المعتزلة في العقل، حتى قدموه على الشرع وأبطلوا به الاحتجاج بدلالات القرآن، وزعموا أنها ظنية، ورتبوا على ذلك نفي صفات الله واستقوا مناهجهم الفكرية من خارج الدين الإسلامي، وشابهوا الخوارج في كثير من العقائد، والحق أن الاحتجاج بدلالات القرآن هو دين المسلمين من أهل السنة والجماعة، وكذلك إثبات الصفات لله سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته على ما وصف به نفسه في كتابه وسنة رسوله، وهذه محكمات معلومة خالف فيها أهل الاعتزال.
المثال الثالث: خالفت الرافضة في محكمات كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر التشكيك في الوحي والرسالة، وزعم بعضهم أن الرسالة لعلي رضي الله عنه ثم اتجهوا إلى جعل العصمة - وهي من خصائص الرسول المرسل من عند الله - لأئمتهم ومنحوهم حق التشريع حتى صاروا مرجعية بذواتهم، واتخذهم الناس أئمة في الضلال، وجعلوهم وسائط بينهم وبين الله، تماماً كما صنع المشركون. ومن المعلوم أنَّ عقيدة أهل السنة التصديق بالوحي واتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، وأن علياً رضي الله عنه من هؤلاء الذين اتبعوه، وأنه إمامُ هدى تابع للنبي صلى الله عليه وسلم ملتزم بشريعته، غير معصوم وأن الوحي قد انقطع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه محكمات خرجت عنها الرافضة وأحدثت ديناً مبدلاً.
ولقد زاد الرافضة على مشركي قريش، فكان المشركون لا يحجون إلا إلى بيت واحد هو البيت الحرام والكعبة المشرفة فزاد الرافضة الحج إلى المشاهد وقبور أئمتهم، كما يصنعون في كربلاء.
والحج إلى أول بيت وضعه الله للناس محكم من محكمات الشرائع السماوية، قال الله تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]، وقال تعالى: {وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وهو دين الأنبياء جميعاً.
وقد حج الأنبياء جميعاً إلى البيت الحرام، فكل هذه المحكمات وغيرها كثير خالفها الرافضة وأحدثوا ديناً مبدلاً زادوا فيه على دين عبدة الأصنام، فإنه من المعلوم أنهم لم يكونوا يحجون إلا إلى البيت الحرام، وقس على ذلك بقية الفرق الباطنية.
فهل تكفي هذه الأمثلة لبيان أن المحكمات من خصائص أهل السنة والجماعة، وأن المتشابهات دين أهل الضلالة وهي مكونات الدين المبدل؟
قال لي صاحبي: هذا كاف وقد اتضح لي بجلاء أن المحكمات من خصائص أهل السنة، وأنها قواعد الإسلام، ومجامع الدين، وأم الكتاب، وهي سبب قوة أهل السنة وعصمتهم، ولم ينقطع فيها الحق في جميع رسالات الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13]، وقد كرم الله أهل السنة بالاجتماع على الحق وعدم التفرق فيه بخلاف المشركين وأهل الأهواء والمنافقين.
قال: أراك أكثرت من الأمثلة في شأن الغلاة من الفرق، وأوجزت الكلام عن العلمانية ولم تُفصِّل في أثرها في انتشار الدين المبدل.
قلت: العلمانية نوعان: ملحدة ومتدينة، أما الملحدة فإنكار للدين مطلقاً، وأما المتدينة فتقبل بعضه وترفض الالتزام ببعضه، وما رأت قبوله - كما هو الشأن في التدين الخاص بين العبد وربه كالصلاة مثلاً - لا تراه ملزماً للناس إلا على الاختيار، ولا يجوز لمن اختاره أن يلزم به غيره أو يعتقد ذلك، وهذا دين مبدل قد استطاع دعاة العلمانية ومفكروها وأتباعها ومن تأثر بهم من العصرانيين والتنويريين أن يقدموا الدعاية له وينصروا أهل الأهواء من الفرق الضالة وكذلك المذاهب الفكرية المعاصرة، وبذلك زادوا في مساحة الدين المبدل، ولا يزالون يدعون إلى قصر الدين على العبادات والمساجد وفتحوا المجالات الأخرى وهي أكثر مجالات المجتمع للحريات التي تغطي الانحرافات وتبعد المسلم عن حقيقة الإسلام، ولذلك منع العلمانيون المسلمين من التدخل في الشأن العام للمجتمع، وهذا الغلو منهم في حجب الدين عن تلك المجالات هو نقضٌ للدين الصحيح وتسويغٌ للدين المبدل، بل إن دينهم هو عدم الالتزام بالعبادات أصلاً إلا عند اختيار الفرد لها كما بينّا، فإن لم يقع منه اختيار فلا حرج عليه، وهذا كذب على الله ورسوله وافتراء على الدين وهو أكبر سببٍ في توسيع مجال الانحرافات وأكبر دعايةٍ للدين المبدل عند أهل الكتابين وأهل الأهواء.
قال: اذكر لي الأدلة الصريحة من القرآن على النهي عن هذه الأهواء.
قلت: نعم:
- قال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْـحِسَابِ} [آل عمران: 19].
- وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْـمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].
- وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18].
- وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208].
وكل من لم يؤمن بهذه الآيات ويزعم أنه متدين فهو في الحقيقة متدينٌ ولكن بدينٍ مبدَّل.
قال: إذن أي حدودٍ توضع على الدين الصحيح، هي في الحقيقة تمنح مساحاتٍ جديدة للدين المبدل، فهلّا ذكرت لنا بعض التطبيقات!
قلت: نعم، نبدأ بأمثلة جزئية فنقول: تم التضييق على الحجاب في العالم عند مدّعي الحريات وذلك لإتاحة مساحاتٍ لتبرج الجاهلية، وشرعت القوانين الوضعية في العالم للربا بعد أن كان ممنوعاً في الديانات السابقة كما قال الله تعالى عن اليهود: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: ١٦١]، وكذلك كان اليهود يحرمون الزنا ويعاقبون عليه وقد تدخل رهبانهم آخر الأمر فخففوا العقوبة وبقي الزنا على الحرمة، فجاءت أفكار الغرب والتغريب فجعلت هذا من حقوق الإنسان، وبئس ما فعلوا، معرضين عن قول الله تعالى عن الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
ومن الأمثلة الكلية توسيع المساحة لعبادة القبور وتهيئتها للجمهور الذي يمارس العكوف عندها بدل العكوف في المساجد، ويصرف فيها العبادة للأولياء من الدعاء والنذر وغير ذلك، قائلين نحن نتقرب بالأولياء إلى الله، ويقول لهم علماء الضلالة: أنتم تمارسون ديناً صحيحاً. وهم في الحقيقة يمارسون ديناً مبدلاً، وقد جهلوا الحقيقة الكبرى التي بعث الله من أجلها الرسل عليهم السلام.
ومن الأمثلة كذلك فتح المجال الاقتصادي الربوي الوضعي والتضييق على الاقتصاد الإسلامي، وكذلك توسيع المجال للإعلام المنحرف والسياسات والأفكار المنحرفة ولا يصعب القياس على هذه الأمثال، وهذه مساحات جديدة منحها الضالون المضلون للدين المبدل.
قال: إذن؛ عرفت سر الصراع بين أهل السنة الذين هم أهل الحق وبين هؤلاء، ولكن لماذا اجتمع أكثر العالم على عداوتهم؟
قلت: جاء بيان ذلك في قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْـمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، وكذلك استمرت هذه العداوة لأتباع الأنبياء من الصادقين.
قال: ويؤكد هذا المعنى استمرار أهل الأهواء في عداوة أهل السنة وعدم تغيير موقفهم على مر العصور.
قلت: نعم، منهج الحق واحد وموقف المخالفين سواء الصرحاء أو المنافقون واحد كذلك.
قال: الآن انكشفت لي الحقيقة وخطر هذه المعركة.
قلت: نعم هذه هي الحقيقة التي غابت عن كثير من المسلمين، حتى أصبح الكفار يصدرون مذاهبهم وفسادهم إلى المسلمين، والمنافقون يوزعونها وأهل الأهواء يحسنونها. وانتشرت دعوات التوافق والتقارب بين أهل السنة وأهل الأهواء في هذا العصر.
قال: ولكن الأمور تحسنت الآن أكثر من ذي قبل، واكتشف أهل السنة شيئاً من الحقيقة.
قلت: نعم، وذلك بسبب ثبات أهل السنة، وزوال الشبه عن كثير منهم وظهور العلم ومناصبة أهل الأهواء أهل السنة العداء أدى إلى انكشاف المواقف.
قال: إذن هذه الحقيقة تدعو وتؤكد على أهل السنة بالاجتماع على المحكمات وتحديد الموقف من المخالفين بصورة واضحة.
قلت: نعم، ولا يستطيعون أن يدافعوا عن كياناتهم وبلادهم إلا بذلك، ولا طريق سواه.
قال: هناك من يقول تستفيد من مناهج الغرب والمصالح المشتركة.. إلخ، في تحقيق وحدتنا.
قلت: ليس ذلك بصحيح، وقد جربنا ذلك دهراً طويلاً ولم نستفد من ذلك، إلا كما يستفيد الذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما مناهج الكفار والمنافقين وأهل الأهواء إلا في ضلال.
قال: إذن لا طريق إلا الالتزام بالمنهج ومحكماته والعمل بحكم الله في المخالفين.
قلت: نعم، وهذا هو الموقف الوسط الذي يمثل حكمة الإسلام ومقاصده بدون بغيٍ ولا ظلم ولا عنف ولا غلو.
قال: وهل نصبر على منهج الوسطية وإن ظلمونا وبغوا علينا.
قلت: نعم؛ وإن فعلوا ذلك كله، فنحن نختلف عنهم، نحن أمة منهج، ومبادئ، وأخلاق؛ فلا نظلم أحداً، ولا نبغي عليه ولا نفتري عليه، بل نعامله بالشرع الذي أمرنا الله به، ونتمنى هدايته ورجوعه إلى الحق والصواب.
قال: ما هي مقاصد الموقف الشرعي من المخالفين؟
قلت: مقصد الحكم الشرعي في المخالفين والتحذير منهم هو حفظ بيضة الدين وحفظ كيان أهل السنة من التشويش والتضليل والاتهام، ولهذا أوجب الشارع البراءة من ضلالات المخالفين وكشف افترائهم على أهل السنة كما قال تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥].
قال: مقاصد سامية، ومنهج متميز وأهداف واضحة في وسطية وعلم ورحمة وحكمة، وليت أهل العلم والدعوة والإصلاح يجتمعون عليها في العالم وينشرونها.
قلت: نعم هذه بركة اتباع السنة والانقياد لها، وهكذا عمل المجددون وأنصار السنة في كل عصر وجددوا السنة العملية لعهد الرسالة ونشأة الإسلام، ويجب علينا أن نرجع إلى السيرة لتكون نبراساً في جميع مراحل التاريخ، فنحن أمة منهج ورسالة عالمية، تحمل الحق والهداية والرحمة للناس جميعاً، وترفض المصادرة للحق أو تزييفه كما ترفض النفاق والأهواء.
إن الحرص على هداية الكفار والمنافقين وأهل الأهواء هو مما يميز دعوة أهل السنة، ولا يزالون يعملون لذلك حتى يُسمعوا الحق للعالم ويخرجوا العالم من جهله وطغيانه، وقد ظهر من إعجاز القرآن في وصف المنافقين، أنه قال عنهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]، أي صم لا يسمعون الحق، وبكم لا يتكلمون به، وعمي لا يبصرون دلائله وآياته وبراهينه، وهؤلاء المخالفون لا بد من الصبر على دعوتهم والحرص على هدايتهم، حتى يبصروا دلائل الحق ويسمعوه ويقتنعوا به، والحيلولة بين شرهم وفتنتهم وانحرافاتهم التي ينشرونها بين المسلمين.
قال لي صاحبي: علمت، والحمد لله، أن منهج أهل السنة منهج الوسطية في العقائد والأحكام وهو وقاية للعالم من الغلو والانحرافات وهو منهج عملي لتجديد الدين وحمايته مبني على اتباع المحكمات، والاجتماع عليه والتعاون والتناصر، ويمثل موقفاً واحداً من أهل الأهواء، وكل ذلك عبادة لله وإخلاص الدين له، ورغبة من أهل السنة في هداية البشرية إلى كلمة سواء قد أعلنها القرآن في منهجه، وقد وردت في حق أهل الكتاب، وهي دعوة عامة لأهل الأرض جميعاً، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وهكذا عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، وعظمه صحابته ومن بعدهم السنة، ولا يزالون على ذلك إلى يوم القيامة يعظمون الله ويعظمون أمره ويقيمون حجته على المخالفين على بينة من الأمر كما قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18].
[1] يأتي هذا المقال استكمالاً لما نشر في المقال السابق بعنوان: «موقف أهل الأهواء من المحكمات»، العدد السابق (366).