لجام الكاتمين
من الأحاديث المشهورة، التي يحفظها كل مسلم ومسلمة عن ظهر قلب ما رواه الحاكم وابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار . ثم قال الحاكم : هذا إسناد صحيح من حديث المصريين على شرط الشيخين، وليس له علة، وفي الباب عن جماعة من الصحابة غير أبي هريرة رضي الله عنهم. وكان قال قبل ذلك عن هذا الحديث: وجدنا الحديث بإسناد صحيح لا غبار عليه عن عبد الله بن عمرو. اهـ.
وهذا الحديث من أعظم الأحاديث النبوية الشريفة، حيث إنه يعد أول وأهم قاعدة لنشأة وتطور العلوم، وهي البناء التراكمي للعلوم، فالعلوم تبنى لبنة لبنة، وهي القاعدة المتبعة منذ نشأة العلوم وإلى وقتنا الحاضر في المدارس والجامعات، حيث كان قديماً يقضي عالم عمراً كاملاً في وضع أول لبنة لعلم معين، ثم يأتي تلميذ لهذا العالم ليكمل ما بدأه أستاذه، وهكذا كلٌ يرث الآخر ويبني على ما ورث، ولو كتم أحد هؤلاء العلماء ما توصل إليه ولم يورثه فإنه يكون قد نسف علم من كان قبله في السلسلة، وسيبدأ الذين يأتون من بعده من الصفر، وقد لا يكونون مؤهلين للبناء من الصفر فيعجزوا عن وضع اللبنات الأولى، وبذلك يكون قد اندثر ذلك العلم، فكتم العلم يؤدي إلى اندثار علوم بكاملها، ولذلك توعد الرسول صلى الله عليه وسلم كاتم العلم بالإلجام بلجام من نار في الآخرة، ولتوضيح الصورة أكثر في البناء التراكمي للعلوم نأخذ علم الضوء كمثال، فعلم الضوء تم اكتشاف نظرياته الأولى في عهد أفلاطون وبطليموس وعدد غير قليل من فلاسفة اليونان، فقد اعتقدوا أن الإبصار يتم بخروج نور من العين إلى الجسم المرئي مما ينجم عنه إحساس بالرؤية. وهذا ما نفاه ابن الهيثم بعد ذلك، فقد وضع أساساً لعلم لم يكن موجوداً وهو علم البصريات، كما سمّاه حينه، معتمداً على التجربة والبرهان والبحث العلمي في إثبات صحة نظرياته، فقد قال ابن الهيثم بـ«نظرية الورود»، أي إن الضوء يرد من الأجسام المرئية إلى العين لتحصل الرؤية بذلك، ثم جاء إسحاق نيوتن، الذي وصف الضوء بأنه انبعاث جسيمات، ومن الناحية التجريبية فقد كانت خواص الضوء كالانعكاس على سطح مصقول والانكسار على سطح الماء معروفة من خلال ما قدمه ابن الهيثم، لذا كان على نيوتن إعطاء تفسير لهذه الظواهر على أساس نظريته الجسيمية، ثم طور الفلكي والرياضي والفيزيائي الهولندي كريستيان هويجنز النظرية التي مؤداها أن الضوء ينتقل بحركة الموجات؛ ما فسر الكثير من الظواهر الطبيعية للضوء كالتداخل والحيود والانكسار والانعكاس وغيرها.
وبعد فترة من الزمن وبينما كان ماكسويل يقوم بتجاربه المتعددة على المغناطيس والكهرباء، استنتج أن الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية، حيث أثبت نظرياً أن سرعة هذه الموجات تساوي تقريباً سرعة الضوء، وبالتالي يمكن القول إن الضوء عبارة عن موجات كهرومغناطيسية. وهذا ما جعل النظرية الموجية مقبولة عالمياً، برغم أنها لا تفسر بعض الظواهر كانبعاث الضوء من الذرات.
وظل الأمر هكذا إلى أوائل القرن العشرين حيث أعطى بور أول تفسير منطقي صحيح لميكانيكية انبعاث الضوء من الذرات، كما أشار آينشتاين إلى حقيقة أن الضوء مكون من جسيمات مكممة تدعى بالفوتونات، وبهذا فإنه أعطى تفسيراً للظاهرة الكهروضوئية. ومن المعروف أن الطاقة الكهرومغناطيسية طاقة مكممة أي إنها تفقد وتكتسب بكميات معينة تعرف بالفوتون، وذلك بحسب النظرية الكمية للضوء وروادها بلانك وبور وآينشتاين.
والمتأمل لبناء علم الضوء يجده بني في فترة طويلة نسبياً، وبتعاون كوكبة من العلماء من جميع الجنسيات، وورث كل منهم الآخر، وليس من الضروري في التوريث المعاصرة أو التلمذة، وإنما يكفي تدوين ونشر ما توصل إليه العالم ويجب التلمذة والشرح الشفاهي إذا كان التدوين لا يوصل المعلومة، والسؤال المطروح هنا: ماذا لو قام أحد هؤلاء العلماء بكتمان ما توصل إليه من نتائج؟
والإجابة هي أنه يوجد ثلاثة احتمالات، وهي: إما أن يؤخر الكتمان السلسلة خطوة قد يعجز اللاحقون عن التوصل إليها، وبذلك يحدث انقطاع للبحث وقد يندثر ذلك العلم، والاحتمال الثاني قد يكون كاتم العلم هذا وارثاً لجميع أبحاث من سبقوه وحتماً يؤدي ذلك الكتمان إلى نسف ذلك العلم من الوجود، وهذا كان كثير الحدوث في العصور المتقدمة لقلة العلم والباحثين، والاحتمال الثالث هو إلغاء الخطوة المكتومة من السلسلة وتعويضها بباحث آخر يتوصل للنتيجة المتكومة. والأسلم عدم الكتمان كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا ندخل في هذه الاحتمالات التي أغلبها يؤدي إلى اندثار العلوم.
ويوجد هنا سؤال مشروع:
هل يجوز كتمان العلم المشهور المنتشر بين الناس والذي لا يخشى اندثاره؟
الإجابة لا يجوز لعدة أسباب:
1- النهي في الحديث عام ولم يخص علماً بعينه، حيث أتت كلمة علم في الحديث منكرة، وبذلك تشمل جميع العلوم النافعة والتي تفيد الإنسان في دينه ودنياه، وليس النهي عن الكتمان هنا لعلة اندثار العلوم وحسب بل لانقطاع الاستفادة منها.
2- من الأسباب العامة للتحريم في الإسلام قطع الطريق على تحول المنهي عنه إلى ظاهرة تصيب كل المجتمع، والقرآن الكريم مليء بالأمثلة للمعاصي التي تحولت إلى ظواهر وعمت مجتمعات بأكملها مثل الشذوذ في قوم لوط وتطفيف الكيل في قوم شعيب، ولعدم استجابتهم لرسلهم تم التخلص من هذه المجتمعات المريضة بالعذاب المباشر، والذي أدى إلى الفناء التام لتلك المجتمعات حتى لا تنتشر هذه الأمراض الاجتماعية خارج تلك المجتمعات وتعم العالم، لذلك لا يجوز كتمان العلم حتي لو كان مشهوراً، خوفاً من تحول الكتمان إلى ظاهرة تعم المجتمعات المسلمة وبذلك يندثر العلم المشهور.
3- كتمان العلم المشهور قد يمنع جلب مصلحة، أو دفع ضرر يصيب الجهة التي منع عنها العلم.
4- قد يكون الشخص الذي كتم عنه ذلك العلم من النوابغ وبذلك قد يضيف إضافة مهمة لذلك العلم قد تغير مجرى التاريخ.
مفهوم خاطئ حول الحديث:
يوجد فهم سائد وخاطئ حول كتمان العلم، وهو أن الكتمان لا يتم إلا بعد السؤال، وإن لم يسأل الشخص فيجوز له كتمان العلم، والصحيح هو أنه يجب على صاحب كل علم تبليغ ذلك العلم حتى ولو لم يسأل عنه، بل يجب عليه تحري الثقات والمؤهلين لفهم وتبليغ ذلك العلم وضمان استمراريته.
ما هي الحكمة من النهي عن كتم العلم؟
الإسلام أتى لسعادة الفرد والمجتمع، ودائماً ما يبدأ الأمر الإلهي بالفرد، فإذا التزم كل فرد بذلك الأمر يصبح ظاهرة اجتماعية إيجابية تعم المجتمع، وإذا خولف ذلك الأمر قد يصبح ظاهرة سلبية تعم المجتمع، لذلك أتى تحريم كتمان العلم وتغليظ العقوبة الأخروية عليه لئلا يتحول إلى ظاهرة تعيق تقدم وتطور الأمة الإسلامية، وللأسف الشديد قد تحول كتمان العلم في العالم الإسلامي إلى ظاهرة خطيرة عمت كل المجتمع المسلم إلا قليلاً وتعرف بـ«سر المهنة».
سر المهنة:
وهي كلمة تعني تفرد شخص صاحب مهنة بخصيصة معينة في مهنة محددة دون أقرانه، وهذه الخصيصة توفر عليه الوقت والعناء وتزيد في كفاءة المنتج، وبذلك يجلب عليه مزيداً من الزبائن، ومن ثم مزيداً من الربح، مما يجعله حريصاً علي عدم وصول هذه الخصيصة إلى أقرانه في المهنة خوف المنافسة وضياع الزبائن، وهذا الأمر، أي سر المهنة، أصبح منتشراً في العالم الإسلامي والعربي، وتوجد أسباب كثيرة أدت إلى انتشار هذا الوباء بين المسلمين، ومنها:
1- عدم الدعم من قبل الحكومات للمبدعين والمخترعين من الحرفيين وأصحاب المهن:
من الملاحظ أن مصطلح سر المهنة هذا شائع بين أصحاب المهن والحرفيين، والسبب الرئيس في الكتمان هو الدافع الاقتصادي، لأن هذا السر يحسن من المستوى الاقتصادي للصانع، فلو وفرت الحكومات دعماً مالياً تغري وتغني هؤلاء الحرفيين مادياً ومعنوياً وفنياً وإعلامياً لتسابقوا لإخراج تلك الأسرار، ولانعكس الوضع من كتمان إلى منافسة، ولتطورت البلدان الإسلامية والعربية.
2- قلة التعليم بين الحرفيين والصناع:
وقلة التعليم تجعل الصانع لا يدري قيمة الإضافة التي توصل إليها في هذه المهنة أو ذلك المجال، ولا يوجد لديه أي طموح لتطوير أو لتسجيل هذه الإضافة كبراءة اختراع، وقد يكون لم يسمع أصلاً بشيء اسمه براءة الاختراع.
3- قلة ثقافة بناء العلوم وتطوير الاختراعات عند عامة المسلمين، وخصوصاً الحرفيين والصناع:
من درس أساسيات بعض العلوم وبناءها وتطورها، يلحظ بساطة النظريات والتجارب التي أنشأت تلك العلوم، والتي إذا ذكرتها لشخص عادي من الحرفيين ربما سخر منك ومنها، فماذا يعني سقوط تفاحة على رأس نيوتن؟ ومن منا لا يعلم بالمشاهدة اليومية أن كل جسم ساكن أو متحرك سيظل على حالته إذا لم يؤثر عليه مؤثر (قانون نيوتن الثاني)، ومن منا لا يعلم أن كل جسم يصطدم بجسم ثابت سيرتد بنفس القوة التي اصطدم بها (قانون نيوتن الثالث)، فكل هذه البدهيات والتي إذا ذكرتها لشخص عادي على أنها علوم سيضحك ملء شدقيه، هذه البدهيات أنشأت علماً من أعظم العلوم يسمى الديناميكا.
لذلك يجب على الحكومات دعم البحث العلمي ودعم المخترعين، وخصوصاً من غير حملة الشهادات، فهي أكثر شريحة مهملة وهي أكثر شريحة يوجد بها إبداع وتطوير لعلوم عملية دون اتباع للقواعد العلمية المعروفة في البحث العلمي.