فصل المقال فيما بين العرب والأمازيغ من اتصال
قسّم فرنسيس بيكون الأوهام العقلية أقساماً أربعة هي: أوهام القبيلة، وأوهام الكهف،
وأوهام السوق، وأوهام المسرح. والرابط بينها جميعاً أنها تجعل العقل كمرآة محدبة
تعكس الأشياء بصورة مشوهة. ولإخواننا دعاة القومية الأمازيغية أوهامهم بشأن العلاقة
التكوينية البنيوية مع العرب واللغة العربية، حيث يرى بعضهم أن الوجود العربي في
الشمال الإفريقي وجود استعماري، وقد يبلغ الحنق بهم أن يرفضوا الإسلام نفسه لكون
دخوله إلى المغرب الكبير حصل بفعل الفتح الإسلامي العربي، وهناك شوفينيون يتبنون
أفكاراً جنونية لا واقعية من قبيل المطالبة بترحيل العرب من حيث جاؤوا!
وفي مقابل هذه الرؤية الجاهلية الاستئصالية التي يتبناها هذا التيار الشوفيني
الأقلوي، يتبنى غالبية الأمازيغ والعرب رؤية إسلامية اتصالية تتجلى في الأبعاد
التالية:
1 -
الاتصال العرقي:
هناك عدة نظريات لتحديد أصل الأمازيغ، فهناك من يرى أنهم جاؤوا من أوربا، وهناك من
يرى أنهم جاؤوا من آسيا الصغرى، وهناك من يرى أنهم جاؤوا من اليمن عبر الحبشة أو
عبر مصر، والحقيقة أن هذه كلها نظريات اختزالية مؤدلجة، لأن نتائج الأنثروبولوجيا
الجسمانية والاكتشافات الأثرية كما يذكر عبد الله العروي في كتاب «مجمل تاريخ
المغرب» تؤكد أن الأمازيغ سكنوا الشمال الإفريقي منذ زمن طويل وأن أصولهم متباينة،
وليس أدل على ذلك من اختلاف ألوان الأمازيغ وأشكالهم وأحجامهم، ففيهم ذوو الملامح
الإفريقية، وذوو الملامح الشرق أوسطية، وذوو الملامح الأوربية، وفي كل هؤلاء أعراق
شتى، وهذا من آيات الله العظمى في خلقه.
والعرب أنفسهم هم مثل إخوانهم الأمازيغ، فيهم ذوو الملامح الإفريقية، وذوو الملامح
الشرق أوسطية، وذوو الملامح الأوربية، وفي كل هؤلاء أعراق شتى.
ولأجل ذلك، يستحيل أن نحكم على الفرد المغاربي انطلاقاً من مظهره الجسماني بكونه
عربياً أو أمازيغياً، والذي كرس ذلك أكثر كون درجة التصاهر بين العرب والأمازيغ في
الشمال الإفريقي شديدة التعقيد، وخاصة في المدن الكبرى والأحزمة الحدودية، ومما
ينبغي قوله في هذا الإطار أن جل عرب المغرب الكبير متعربون، أي ينحدرون من أصول
أمازيغية، ولأجل هذا كله ليس في وسع أحد من الأمازيغ أو العرب في المغرب الكبير
ادعاء النقاء العرقي.
2 -
الاتصال اللغوي:
يقول الناشط والأكاديمي إدريس أيتلحو في مقدمة كتابه «الأمازيغية بصيغة المفرد»:
«إن الشروع في بلورة لغة أمازيغية واحدة موحدة في المغرب بمثابة تيه، بل هو فقدان
للمعنى في حد ذاته، لأن هناك عدة منوعات لسنية أمازيغية في العالمين المتوسطي
والإفريقي.
وسيكون من سبيل المغالطة أن نجعل الأمازيغية تنتحر داخل غيطو محدد باسم لغة
أمازيغية وطنية مغربية.
وهكذا يلزم أن تكون الأمازيغية عبارة عن لغات جهوية رسمية مغربية».
إن المقياس البنيوي بين اللهجات الأمازيغية متشابه نحوياً وتركيبياً، وهو بذلك يجعل
من اللهجات الأمازيغية عائلة لغوية واحدة، لكن لا يجعلها لغة واحدة، فحتى تكون
كذلك، لا بد من وحدة المقياس الوظيفي، أي إمكانية التواصل بسهولة بين أفرادها مهما
تكن لهجاتهم، وهذا ما يثبت الواقع عسره أو استحالته، وبرغم ذلك تسعى بعض النخب
الأمازيغية في عبث لاختراع لغة أمازيغية معيارية لا ينطق بها أحد من الأمازيغ ولن
ينطق بها أحد منهم، وسعيهم هذا ليس إلا مكابرة عمياء، وإلا فإنا نجد مثلاً اللغات
الإسكندنافية مستقلة عن بعضها البعض برغم التقارب الكبير بينها بنيوياً وتواصلياً،
والأمر نفسه ينطبق إلى حد ما على اللغات اللاتينية وكثير من العائلات اللغوية
الأخرى.
إن العربية والأمازيغية تنتميان معاً إلى اللغات الأفروآسيوية، وليس هذا هو الوجه
الوحيد للتعالق بينهما، بل هناك وجوه تعالقية أخرى، من بينها أن جل اللهجات
الأمازيغية تتضمن معجمياً ما يقارب الربع من الكلمات العربية، وأن التراث الأمازيغي
بعد الفتح الإسلامي إنما تم التعبير عنه بتوظيف الخط العربي، وأن اللهجات العربية
المغاربية متأثرة تركيبياً وصوتياً ومعجمياً بالأمازيغية، وهذا ما يفسر سر اعتماد
المغاربة على رواية ورش بشأن تلاوة القرآن الكريم عوض رواية حفص.
3-
الاتصال الجغرافي:
مما
يمكن ملاحظته بوضوح تام أن الجغرافيا الطبيعية للمغرب الكبير حيث يوجد الأمازيغ هي
نفسها الجغرافيا الطبيعية للشرق الأوسط حيث يتركز العرب، فالصحراء تمتد من المحيط
إلى الخليج، وفي كل هذا الامتداد نجد المناخ والتضاريس والغطاء النباتي والأنواع
الحيوانية نفسها.
وأيضاً كلا المنطقتين تطلان معاً على البحر المتوسط، ولذلك لا نجد فرقاً واضحاً بين
بلاد الهلال الخصيب والشمال الإفريقي في كافة الأبعاد الجغرافية.
ومما يلزم قوله بشأن الجغرافيا البشرية للمغرب الكبير أن الأمازيغ لا يشكلون وحدة
ترابية متواصلة جغرافياً، إذ يتوزعون على عدة دول في المغرب الكبير ومنطقة الساحل
الإفريقي جنوب الصحراء الكبرى، وباستثناء الطوارق، فإن جلهم يتركز في الجبال؛ لكن
لا يعني ذلك خلو هذه الجبال من العرب، خاصة ذوو الأصل الأمازيغي.
وبإلقاء نظرة عامة على خريطة المغرب الكبير، فإن مناطق التركز الأمازيغي تبدو مثل
جزر مبثوثة في محيط عربي كبير، ومن هنا، تبدو كلمة «تامزغا»
(أي
أرض الأمازيغ)
لا تجسد واقع الحال كما هو، مثلما أن كلمة المغرب العربي لا تجسد هذا الواقع أيضاً،
والأفضل تداول كلمة المغرب الكبير لتعريف منطقة شمال إفريقيا من الناحية الحضارية.
وما ينطبق على الأراضي الريفية ينطبق على المدن نفسها، فهذه الأخيرة، سواء وجدت في
المدار الأمازيغي أو في المدار العربي، تعرف تمازجاً معقداً بين العرب والأمازيغ.
4-
الاتصال الثقافي:
الناظر
المنصف في واقع الثقافة المغاربي الراهن، يجد أن التمايز الثقافي فيه هو بالدرجة
الأولى تمايز مناطقي وليس تمايزاً قومياً، ولذلك تحضر التعددية الثقافية بين عرب
شمال إفريقيا مثلما تحضر بين أمازيغها، وهذا يعود إلى العامل الجغرافي ممثلاً في
طبيعة التضاريس ونوعية المناخ وغير ذلك، ويعود أيضاً إلى مقدار التثاقف مع الحضارة
الإسلامية
(العربية
والتركية)
والحضارة الغربية والحضارة الإفريقية.
ونتيجة لما سبق، نجد على سبيل المثال حضوراً ضعيفاً للخصوصيات الثقافية المشتركة
بين أمازيغ الريف والأمازيغ الطوارق، سواء على المستوى السلوكي
(أي
العادات والتقاليد)
أو المستوى الإنتاجي
(أي
الفن والعمران)،
وفي المقابل نجد حضوراً قوياً في الخصوصيات الثقافية المشتركة بين أمازيغ جبل نفوسة
وعرب غرب ليبيا، وهذا يدلل على صحة فرضية الثقافات المغاربية عوض فرضية الثقافة
الأمازيغية، علماً أن الثقافات المغاربية في الوقت الحاضر تتبع عملياً لتيارين
اثنين رئيسيين هما:
التيار الإسلامي والتيار العلماني، ولذلك كان تصور الأمازيغ الإسلاميين لمفهوم
الثقافة وتجلياتها العملية منضبطاً بالروح الإسلامية، فيما نجد تصور الأمازيغ
العلمانيين غارقاً في الموجة التغريبية أو مرتداً إلى الجاهلية الأمازيغية.
5-
الاتصال التاريخي:
خضعت
منطقة المغرب الكبير طيلة قرون عديدة للحكم الإسلامي أزمان الخلافة الأموية
والعباسية والعثمانية، وقد أتاح لها ذلك وحدة سياسية اتجهت مركزياً نحو دمشق أو
بغداد أو إستانبول، بالإضافة إلى العلاقة المتميزة مع المسلمين في الأندلس وصقلية
وبموازاة الوحدة السياسية، كان بين العرب والأمازيغ بحكم الوحدة الدينية تفاعل
حضاري شمل كل ميادين الحياة، سواء تعلق الأمر بتنقل الأفراد أو تنقل السلع أو تنقل
الأفكار.
أما قبل الفتح الإسلامي، فقد كان الأمازيغ مثل إخوانهم العرب أمة مفككة الأوصال
وخاضعة للاستعمار الأجنبي، وبدراسة مقارنة بشأن حال الأمازيغ قبل الفتح الإسلامي
العربي وبعده، نجد المجد فيهم مولوداً ونامياً بعد الفتح الإسلامي وليس قبله، وهم
لم يعرفوا الوحدة إلا في ظل الحكم الإسلامي، وخلاله برز من بينهم الكثير من الأعلام
في ميادين السياسة والحرب والعلم والتربية وغير ذلك، وقد أتيح لهم أن يحكموا أنفسهم
بأنفسهم في مناسبات عديدة، خاصة في عهود الدول المرابطية والموحدية والحفصية
والمرينية.
إن الأمازيغ قبل الفتح الإسلامي، الذي وقعت فيه بالتأكيد أخطاء دينية غير قليلة،
كانوا في أحد حالين؛ العيش في ظل نظام قبلي شبيه بالنظام القبلي للعرب في الجاهلية،
أو العيش في ظل الاستعمار الأجنبي، خاصة الاستعمار الروماني، وبالتالي ما أشبه
حالهم بحال إخوانهم العرب من هذه الناحية.
وبالإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً من أواصر الاتصال بين العرب والأمازيغ، توجد أواصر
اتصال أخرى أبرزها:
وحدة الذاكرة، وحدة التقاليد، وحدة المصالح، وحدة المصير.
ولأجل ذلك، ليس غريباً أن ينخرط الأمازيغ في تأثيث الربيع العربي انخراطاً فعالاً،
وخاصة في ليبيا والمغرب ومالي.
ونحن إذ نبرز هذه الأواصر المشتركة بين العرب والأمازيغ، فإننا نؤكد على وجوب
احترام خصوصيات الأمازيغ الثقافية واللغوية في إطار من التسامح التعارفي الذي كان
هو السمة الأبرز التي طبعت العلاقة بين الأمازيغ وغيرهم من الشعوب الأخرى.
::
مجلة البيان العدد 353 مـحــرم 1438هـ، أكـتـوبـر 2016م.