الحكومة الجديدة في العراق تناقضات الأضداد وتزاحمات الولاءات
إنها صفحة امتدادية أخرى تمثل مواصلة التناغم بين إدارة دولة الاحتلال للملف العراقي والدولة المتمددة في ظله (إيران)، لقد جاءت هذه الصفحة بعد ترتيب دام ثمانية أشهر لتخرج إلى العلن بعد اتفاقات أطلقوا عليها مسمى (اتفاقات سياسية) باستحداث منصب (المجلس السياسي للسياسات الإستراتيجية)، لا يقره دستورهم الملغوم؛ ولكنهم وافقوا عليه من أجل دفع عجلة العملية السياسية المتهالكة التي بان عوارها للقاصي والداني ومن دون الحاجة لدليل على تهالكها؛ فالدستور عندهم صياغات مطاطية تتشكل حسب الإرادات الاحتلالية والتمددية.
لقد جرى تجديد الولاية لرئيس الجمهورية بأغلبية بسيطة متعثرة مدفوعة الثمن باتفاقات تقاسم وتناهب خيرات العراق، أعقبها تكليف (سلقي) متفق عليه مسبقاً لمسمى رئيس الوزراء؛ لا على أساس الاختيار لما يناسب المرحلة؛ وإنما هو تطبيق حرفي لما جرى الاتفاق عليه بأن يكون وجه العراق - وَفْقَ المشروع الأمريكي - طائفياً عنصرياً، وثمة إقصاء متعمَّد لأهله الحقيقيين الذين رفضوا الاحتلال وما نتج عنه. وقد انسحب هذا التوجه على من نصَّب نفسه ممثلاً لمكون من مكونات أبناء العراق (العرب السنة) ليشكلوا صورة ثلاثية الأبعاد مع الأكراد والأحزاب الطائفية الموالية لإيران التي تمثل التوجه الطائفي لتكتمل الصورة الديكورية المراد تسويقها للعالم بأنَّ حكومةً تمثل أطياف العراق قائمة، وأنَّ عمليةً سياسية تحتكم لصناديق الاقتراع تجري، وأنَّ ما يسمى بالديمقراطية التي سوقتها أمريكا للمنطقة تسير بشكل طبيعي، وأنَّ تداولاً للسلطة بصورة سلمية قائم على قدم وساق، والواقع العراقي يكذب ذلك كله؛ فلا ديموقراطية، ولا تداول للسلطة، ولا حتى صناديق الاقتراع موجودة وَفْقَ أي منظومة معتمدة في العالم؛ فما يجري في العراق تلفيق ديمقراطي لأبشع أنواع الديمقراطيات في العالم؛ لتمكين من جاء مع المحتل لمواصلة مشروع الاحتلال الأمريكي في صفحته السياسية.
وبدأ التحضير للدخول إلى النسخة الخامسة من صفحة الاحتلال السياسية بانقلابية المفاهيم وخلط التصورات ومغادرة صفحة الشحن الطائفي صورياً لحتمية الدخول إلى مرحلة جديدة من السوق الانتخابية؛ وهـو ما حدا بجميع الكتل السياسية إلى تغيير جلدها والتظاهر بالوطنية زوراً وبهتاناً من أجل إيهام الناس أن مرحلة جديدة للتغيير سيدخلونها بانتخابهم للحكومة القادمة المتمثلة بانتخاب ما يسمى مجلس النواب الذي ظلت شخوصه ثابتة ورموزه مسيطِرة على مجريات العملية السياسية الجارية في ظل الاحتلال ولم يطرأ عليها أي تغيير؛ فهذا ألغى وصفه الثوري فاكتفى بمسمى المجلس الأعلى من دون الثورية التي كانت أساس انبثاقه كما يدَّعون، وذاك تنازل عن مسمى حزبيته المقيتة وتنصل عنها بالالتفاف على مسمى ظاهرُه قانوني وباطنُه طائفي مقيت، فالتزم ما حباه المنصب الزائف بمسمى (دولة الرئيس) فأسماه دولة القانون في دولة لم تعرف القانون في ظل الاحتلال؛ حيث المحاكمات الصورية والاعتقالات من دون مذكرة قضائية، وآخر التفَّ على السوق الانتخابي بأحلام العصافير من أنه سيغير قانون العملية السياسية بائتلافه للعراقية سعياً وراء وَهْم تغيير قانون العملية السياسية التي أرادها المحتل مستنداً إلى الضوء الأخضر الأمريكي الذي سرعان ما انقلب إلى لون أحمر وقد خرج بخفَّي حنين بعد أن أعطى تشكيل الحكومة شرعيتها الصورية كما في سابقاتها. أما الطرف اللاعب في العملية السياسية التي وفرت له اللعب مع الغالب أو ما يسمى ببيضة القبان؛ وهم ساسة الأكراد، فقد بقيت ائتلافاتهم من أجل مشروع مستقبلي تتقاسمه الإقطاعيات السياسية التي أنشاها المحتل واعتمد من يعتمدونه؛ لأنهم يمثلون الإرادة الخالصة للمحتل بينما ظل العنصر الديكوري المسمى التوافقي يلوك ألفاظ الانحسار والاندحار معلقاً خساراته على هذا الطرف أو ذاك بعد أن أخذت القائمة العراقية منه زمام تمثيل المكوِّن ومع ذلك ظل مخلصاً في انتمائه لمجموعة الشر التي روجت لمشروع الاحتلال.
إن انقلابية المفاهيم التي سارت عليها هذه الصفحة كما تبيَّن في السطور القليلة السابقة لم تصمد طويلاً وقد طفحت على سطح الأحداث حقيقةٌ أظهرتهم جميعاً على حقيقتهم من أنهم انخرطوا في مركب احتلالي واحد يحدوهم جوع المناصب والانتصار للفئوية والعنصرية والطائفية والحزبية وحتى الشخصية؛ فقد أوهم إياد علاوي ناخبيه بأنَّ تغييراً سيحصل في حال فوزه وأنه سيغير معالم هذه العملية ويعيد ترتيب أوراقها، وقد كشف المراقبون ضحالة هذا التصور بالرجوع إلى قانون إدارة الدولة الذي أصدره الحاكم المدني بريمر سيء الصيت بتقاسم النفوذ وجعل واجهة العراق طائفية تتناغم مع تمددات جارة العراق السيئة إيران، وعنصرية تنذر بشرٍّ مستطير على المنطقة في حال نجاح مشروعهم التقسيمي وإعلان الانفصال لتتبعه مخططات منتظرة لتقسيم دول المنطقة بابتعاث الأقليات والمجاميع الانفصالية التي تمثل العمود الفِقْري المعتمد عليه في تنفيذ مخططات التفتيت والتقسيم والشرذمة الاحتلالية التي تستهدف المنطقة بالكامل.
لقد تضمنت مرحلة الإعداد لانطلاق هذه الحكومة المرتقبة صفعات متبادلة بين المتصارعين على التمثيل ما بين اجتثاثٍ وتصفياتٍ وزياراتٍ (بايدنية) وأخرى إلى دول الجوار؛ للإعداد لها وخرجت نتائجها، التي كانت متوقعة مثلما كتب عنها المتابعون؛ فكانت إرادة أمريكية إيرانية متناغمة بتوزيع متقارب للكتل الأربعة الفائزة بالانتخابات المهزلة (العراقية وعلى رأسها إياد علاوي 91 مقعداً) و (دولة قانون نوري المالكي 89 مقعداً) والائتلاف الوطني لعمار الحكيم 71 مقعداً) و (ائتلاف الأحزاب الكردية 41 مقعداً) ليشتد الصراع وتبقى صورة هذه الصراعات طافية على السطح لتوهم الناظر إلى السطح أن عملية سياسية حقيقية جارية في العراق، وحين فوجئ اللاعبون بتلك النتائج ردُّوا هذه الصفعة بأخرى بالتشكيك بنتائجها وإعادة فرزها يدوياً، ولما لم ينجح ذلك لجـؤوا إلى تفسـير جديد لم يكـن ببال من ينافسـهم: إما لسـوء تدبيره أو لأنه لم يفهـم مجـريات اللعبـة الانتخـابيـة وكيفيـة إدارتهـا، فجـاءت تفسيرات ما يسـمى المحكمـة الاتحـادية - وهي إحدى مؤسـسات الحاكمين وتأتمر بأمرهم - بأن الكتلة الأكبر هي من تمتلك العدد الأكبر بعد دخولها القبة البرلمانية؛ وليست الفائزة بعدد أكبر في الانتخابات؛ فكانت لطمة كبيرة لم تصمد معها محاولات التدخل العربي الخالي من مشروع في العراق وكأنه لا يعنيهم ولا حتى الرعاية التركية للمشروع السياسي الجاري في العراق تحت الاحتلال التي هاجمها جلال الطالباني ووصف سياستها تجاه القضية العراقية بالفشل بعد اطمئنانه بالتعيين لدورة أخرى.
ظهرت الجلسة الأُوَلى التي عقدها البرلمان الجديد شكلية مستهلكة استمرت لعشرين دقيقة اكتفت بفتح الجلسة وإبقائها مفتوحة استناداً لتفسيراتهم التي يصرُّون على وصفها بالدستورية، وبقيت زهاء ثلاثة أشهر مفتوحة تنتظر التوافقات على بيع وتقسيم العراق وتوزيع المناصب؛ إذ أصرت القائمة العراقية خلالها على رئاسة الوزراء ولم يكن لها ذلك، واشتدت أزمة التحالفات بين العراقية ودولة القانون، وبين الائتلاف الوطني والكردستاني؛ كلٌّ يريد الحصة الأكبر، وقد كان لتدخلات إيران بالإيحاء للحائري بإصدار فتوى لأتباع مقتدى الصدر بوجوب تأييدهم للمالكي لتظهر صورة التوجهات على حقيقتها من ضعف جانب العراقية وهزالة إسنادها، ورجحان كفَّة المالكي بحصده أصوات الصدريين. عندها ظهرت التهديدات وتوالت السيناريوهات لتطرح احتمالات الانهيار أو الاستمرار لهذه العملية؛ فهذا يرجح انسحاب علاوي، وذاك يحذر من تحالف جديد ظهر بشكل انتهازي بين قائمة وحدة العراق والتوافق تحت مسمى ائتلاف الوسط، وقد استُخدِم هذا الائتلاف للضغط من أجل استمرار هذه العملية المسخ.
إن حكومة المالكي الجديدة بدورتها الثانية لن تختلف عن سابقاتها بشيء سوى أنها ستكون أكثر تخصصاً بالانتماء للمالكي، وأكبر حصاداً للأكراد، وأكثر جرماً من سابقاتها؛ فالمالكي الذي أصر على بقائه في السلطة يريد استكمال بناء مؤسساته الطائفية وإسكات المناهضين لمشروعه ومشروع الاحتلال؛ فهو من جهة إيران مرغوب فيه لدرجة تبادل التهاني بعد إعادة تكليفه لدورة أخرى ومرغوب أمريكياً أيضاً؛ بناءً على تنازلاته غير المحدودة، واستعداده لتجديد البقاء وعقد الاتفاقيات معهم وتمكين وجودهم، ومؤيَّد من الأكراد بعد توقيعه على مطالبهم التسعة عشر التي تمكِّن الساسة الأكراد من التمتع بخصوصية في شمال العراق ومسك زمام الأمور في الحكومة المركزية.
ولكن مع كل هذه الميزات والتأييدات والتحالفات تبقى هذه الحكومات ورقية لا تقوى على إدارة دولة، وستبقى حكومة فاقدة للثقة بين أطرافها المتشاكسين؛ وهذا ما حدث في أول جلسة ضمتهم بعد اجتماع أربيل تحت قبة البرلمان؛ فالمواثيق السياسية مع أنها مكتوبة ولم يجف حبرها إلا أن لعق الاتفاقات والنكوص والتنصل ديدن من انخرط في مشروع الاحتلال.
وكذلك تدخلات إيران وشراكتها مع الاحتلال الأمريكي. وصيغة الشراكة بين أطراف متناحرين، وانعدام الثقة في ما بينهم، ستجعل من الحكومة القادمة حكومة ضعيفة كسابقاتها مهلهلة لا يجمعها جامع ولا يربطها رابط، وأبرز ما فيها تجديد التعيين الاحتلالي لرموزها؛ فبدلاً من واحد يكون على رأس السلطة وهو الذريعة الأمريكية للتدخل جاءتنا بمجموعات احتلالية ظلت جاثمة على رأس السلطة منذ مجلس الحكم الصوري الذي أقر قانون إدارة الدولة تأسيساً بمقررات مؤتمرَي لندن وصلاح الدين، ومروراً بالحكومة المعيَّنة من الاحتلال (حكومة إياد علاوي) التي تولت ضرب المدن العراقية، وكذلك حكومة إبراهيم الجعفري التي كانت مهمتها الدفع بالشحن الطائفي وتأجيج الصراع بين مكونات الشعب العراقي، وليس انتهاءً بحكومة المالكي السابقة التي ملأت السجون والمعتقلات بالأبرياء لإسكات أبناء العراق وإرغامهم على القبول بما يسمى الأمر الواقع. ستكون هذه الحكومة كسابقاتها من حيث الارتماء بحضن المحتل والدولة الإقليمية المتمددة.
هذه الحكومات الضعيفة تمثل إرادة الاحتلال والتمدد الإقليمي وليس لها من مقومات البقاء سوى هذا الدعم وذاك الإسناد؛ بدليل أن حكومة المالكي السابقة استقال منها سبعة عشر وزيراً وبقيت على حالها لم تتأثر ليس لقوتها وإنما للإسناد الاحتلالي والإقليمي لها.
إن تصريحات علاوي الأخيرة التي تكشف عن إحباطه وإبعاده واستخدامه كعامل مساعد لاستمرار هذه العملية لن تكون كما أوردها في تصريحاته بأن هذه الحكومة لن تصمد طويلاً؛ فعدم صمودها ليس راجعاً لأنها خالفت النصوص المتفق عليها بين الأطراف؛ وإنما برفض أبناء العراق لها؛ لأنها ستكون حكومة جهة واحدة بتفرد محض واستفادة كردية لتأسيس إقليمهم تمهيداً لإعلان انفصالهم.
بقي أن نقول: إن هذا الحَراك السياسي على وهميَّته يمثل جانباً واحداً من جوانب المشهد العراقي وإن هناك ما يكافئه ويضادُّه في التوجهات؛ فالقوى الرافضة للاحتلال تمتلك بحمد الله جهداً ميدانياً أرغم المحتل على البحث في زوايا مراكز بحثه عن خطط ودراسات للخروج من وحل الهزيمة بالاكتفاء بالدعم والإسناد لهذه الشراذم بحكم العراق، وتمتلك كذلك رؤية سياسية ثاقبة استطاعت بجهود ذاتية أن تثبت وجودها على الساحتين (العربية والإسلامية)؛ مع أن الجفاء العربي والبعد العالمي عن دعم القوى الرافضة للاحتلال مردُّه إلى أن العراق ساحة للمشروع الأمريكي المسمى مشروع القرن، واستطاعت هذه القوى - بتوفيق الله - أن تهزم هذا المشروع وتوقفه ويساند جهدها الميداني والسياسي جهد إعلامي استطاع أن يوجد مساحة للفهم وإدراك الأمور على حقيقتها.
إن ثوابت القوى الرافضة للاحتلال أثبتت صحتها وصدق رؤيتها؛ فالعالم اليوم متيقن أن ثوابت هذه القوى وخياراتها هي الحل الأنجع لما يعانيه العراق من ويلات محتل غاصب استقدم مجاميع وأحزاب تنهش بجسد العراق وقد صارت عبئاً على المحتل نفسه بتوفيره الدعم والحماية والاسناد لها.