قراءة اجتماعية ونفسية للحرب في العراق وسوريا
تذكر مصادر البنتاغون أن الحرب الجارية المتمثلة بالعمليات العسكرية على الأراضي العراقية والسورية من المحتمل أن تستمر لسنوات، فبعضهم يذكر أنها قد تستغرق ثلاث سنوات وآخرون يرون أنها قد تستمر قرابة عشر سنوات... فقد صرح جون كيربي، المتحدث باسم البنتاجون، أن الانتصار على داعش سوف يستغرق بعض الوقت، فيما وصف الجنرال الأمريكي بيل مايفيل، الهجمات والصواريخ الأمريكية التي استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا بأنها بداية لحرب مستمرة ومستدامة، مضيفًا أن هذه الحرب من الممكن أن تدوم لسنوات نظرًا لتعقيدها ولا يمكن لأحد أن يتوقع متى سوف تنتهي.
إن إطالة أمد العمليات العسكرية يصاحبها تغييرات اجتماعية ونفسية للمجتمع المستهدف قد تبقيه لعقود يأن تحت وطأة آثارها إن لم يكن هناك توقف لتلك العمليات، ومن ثم معالجات سريعة تتضمن وضع برامج علمية مجتمعية فعالة لإصلاح وعلاج المخلفات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للحروب والنزاعات.
فبعد عدة أشهر من المعارك منذ حزيران 2014 (وسقوط محافظات بأكملها في العراق) خلفت ما يقرب من مليوني نازح داخل العراق وآلاف من المهجرين في دول العالم المختلفة وآلاف القتلى (خمسة عشر ألف قتيل حسب تقديرات الأمم المتحدة)، ولربما مئات آلاف من المصابين والجرحى - المشكلة تكمن في عدم توفر إحصائيات دقيقة لوصف المشهد الراهن - يضاف إلى ذلك حوالي 2.8 مليون نازح داخل العراق طبقًا لإحصائيات سنة 2013، نتيجة للعمليات العسكرية خلال السنوات السابقة حسب تقديرات وكالة الأمم المتحدة للاجئين.
فضلًا عن تدمير شبه كامل للبنى التحتية للمحافظات الساخنة خاصة في الأنبار وصلاح الدين، مخلفة أطفالًا وشبابًا بلا تعليم أو رعاية صحية، فهناك تدمير للمدارس والجامعات والمستوصفات والمستشفيات.
وفي الجانب السوري تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى حوالي 8.7 مليون مهجر داخل وخارج سوريا، وفي إحصائيات أخرى غير رسمية تقدر أعداد المهجرين بـ12 مليونًا.
كل ذلك يلقي بظلاله على المشهد الاجتماعي مخلفًا نسيجًا اجتماعيًا ونفسيًا هشًا ومتمددًا ليشمل الأجيال اللاحقة لا قدر الله تعالى.. فتولد أجيال إما منحسرة ومنكسرة ومنعزلة اجتماعيًا أو مندفعة ومتهورة نحو استخدام العنف؛ حيث إن العنف يولد مزيدًا من العنف.
إن الأبحاث العلمية تؤكد أن الأضرار النفسية الناتجة عن الحروب وما يصاحبها من تهجير وتدمير أشد وقعًا وأطول تأثيرًا من الأضرار البدنية، ومن أكثر الفئات عرضة للإصابات النفسية الأطفال والنساء. تؤكد تقارير منظمات دولية أن عقودًا من النزاع، وانعدام الاستقرار السياسي، والاضطراب الاجتماعي، تركت العديد من العراقيين عرضة للإجهاد النفسي، واضطرابات الصحة النفسية، وفي حاجة ماسة إلى الرعاية الصحية النفسية، فقد صرحت هيلين أونيل، رئيسة بعثة منظمة أطباء بلا حدود في العراق أنه «وصل العديد من العراقيين إلى أقصى حدود قدرتهم على التحمل بعد أن سببت عقود من النزاع وانعدام الاستقرار دمارًا واسع النطاق. وبذل كثيرون من المنهكين نفسيًا جراء تجاربهم جهدًا مضنيًا لفهم ما يحدث لهم».
فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت نسبة أعراض الاكتئاب بين طلاب الجامعة في بغداد (خلال دراسة أجريت عام 2010) أكثر من 35 في المئة، وأن العنف هو السبب الرئيسي لتلك الأعراض، وفي دراسة حديثة خلال عامي 2014-2013، تبين أن نسبة الشباب (25-18 سنة) في بغداد الذين يشعرون بالاكتئاب 41 في المئة، من بينهم 16 في المئة لديهم أفكار حول تفضيل الموت على الحياة!
نستطيع القول بأن ما جرى ويجري على الساحتين العراقية والسورية أشبه بـ«تسونامي اجتماعي - نفسي» يحاول اقتلاع التركيبة السكانية الأصلية لتحل محلها في وقت لاحق تركيبة جديدة تنسجم مع التغيرات المحتملة ليس فقط للعراق وسوريا بل للمنطقة برمتها.
إن القراءة النفسية والاجتماعية لإطالة عمر العمليات العسكرية والتردد في حسمها سريعًا توحي بالآتي:
تدمير أكبر قدر ممكن من النسيج الاجتماعي ونضوب الموارد الاجتماعية والنفسية لسكان تلك المناطق، إضافة إلى سحق البنى الاقتصادية للمنطقة.
إخراج أجيال مهزومة نفسيًا واجتماعيًا للعقود القادمة.
تغيير ديموغرافي كبير يطال أجزاء كبيرة من بلدان هذه المنطقة إيذانًا بولادة مناطق ذات طبيعة اجتماعية وسيكولوجية مغايرة تمامًا للوضع القائم حاليًا.
لذا فإن الحالة الراهنة تستدعي وقفة جادة من الدول العربية الإقليمية، أفرادًا ومؤسسات وحكومات، المتأثرة بشكل مباشر وغير مباشر؛ للنظر في هذه المسألة الخطيرة ووضع برامج ذات أسس علمية لوقف النزيف النفسي والاجتماعي الجاري على الأرض العراقية والسورية قبل فوات الأوان.
:: مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.